استعداداً لأحد المؤتمرات النقدية الدورية التي يقيمها أحد الأندية الأدبية (نادي الرياض) فكرت في أن أدرس واقع العلاقة العلمية بين النقاد السعوديين؛ من خلال تحليل الإشارات المرجعية في دراساتهم المنشورة. فكرت في أن اقتصر النقاد على سعيد السريحي ومعجب الزهراني وسعد البازعي وعبدالله الغذامي، وحددت عينة هي الدراسات التي نشروها في مجلتي «علامات» و«حقول» الصادرتين عن ناديي جدةوالرياض. وحددت منهج تحليل الإشارات المرجعية. لم أُدع إلى المؤتمر، وبقيت فكرة الدراسة معلقة من ذلك الحين، وها أنا أتيحها الآن لمن أراد؛ لا ليتقصى واقع العلاقات العلمية بين النقاد السعوديين؛ إنما أيضاً واقع العلاقات بين اللغويين والنحاة والمؤرخين والتربويين وغيرهم من المتخصصين في الحقول المعرفية الإنسانية والعلمية. تكمن الفكرة الرئيسة التي تُوصف بها العلاقة العلمية بين الباحثين في حقل معرفي في اشتراكهم في المعاني والخبرة، وتُوصف إجرائياً باعتماد الباحثين في حقل علمي واحد على بعضهم بعضاً، وعلى مصادر البحث فيه. والعلاقة هنا علاقة فكرية كتبادل المعلومات والأفكار، من خلال الإشارة، أو العزو، أو التهميش إذا كانت الدراسة من منظور العلاقة العلمية غير المباشرة. كما هو معروف قد تُجرى مثل هذه الدراسات تحت عناوين متنوعة، ومن زوايا ومداخل مختلفة كواقع العلاقات العلمية بين الباحثين في فرع علمي معيّن، أو استخدام الباحثين في تخصص واحد المجلات العلمية، أو أنماط التشتت الموضوعاتي في أدبيات الحقل المعرفي الواحد. تضيء دراسة العلاقات العلمية بين الباحثين طبيعة العلاقات والاتصالات العلمية بين الباحثين في فرع معرفي، وبين هؤلاء وباحثين في فروع معرفية أخرى، وتسهم في بلورة وتطوير تخصصاتهم، وتساعدهم في التعرف على الجديد، وما إذا كان هذا الجديد يحتاج إلى شرح، وتثري المعرفة عن نشوء الجماعات العلمية. يتوج هذا كله بمظاهر تمسّك الباحثين بالقيم العلمية. في هذه الأثناء كنت أقرأ في مرحلة ما قبل سقراط التاريخية. أهم مرحلة في تاريخ العالم كله. وهي المرحلة التي سحرتني من الوجهة الجماليّة أولاً. إن العلم، أي التفكير المنطقي، لا يستطيع أن يستوعب أن قبة السماء مكونة من الحجارة، وأن دورانها بسرعة فائقة هو ما يجعلها ملتحمة ومتماسكة، وأنها لو تباطأت سرعتها فستسقط قبة السماء. أو أن الرياح تُحبس في الغيم فتشقها بعنف، ويصحب ذلك البرق والرعد. أو أن الأشياء تقتص من بعضها على الظلم. هناك الكثير من أمثال هذا البديع المدهش فهمتُه من الوجهة الجمالية بوصفه استيعاباً وإدراكاً جمالياً للعالم وظواهره. إلا أن هذا الوعي ذا العلاقة بالمشكلة الجمالية لم يكن لينسيني الفلسفة المحمولة بالمخيلة. فلسفة جمهورية العباقرة التي مدّ نيتشه حدودها من طاليس إلى سقراط. كنت أقرأ وأدوّن، لأعود إليها كي أجمعها في كتاب متماسك، يفضي كل فصل إلى فصل آخر. أشرح وأؤوّل وأدوّن تفكيري الشخصي في ما قرأت، وقد وبدا لي أنه يضيء العلاقة بين أولئك العباقرة من طاليس إلى سقراط. غير أن هناك وجهاً آخر برز فجأة لهذه العلاقة. لا يكتفي كل فيلسوف منهم بأن يدعي أن الصواب في جانبه، وأن يكون الحق معه، وأن تكون حججه وبراهينه أقوى، إنما يريد أن تكون حججه وبراهينه ضد فيلسوف آخر يخالفه ولا يتفق معه. من هذا المنظور فالفلاسفة قلما يسعون إلى أن يكونوا محقين من أجل الحق ذاته، إنما أن يكونوا محقين تجاه فلاسفة آخرين، وحججهم العميقة إنما هي دليل على رغبتهم في أن يقولوا الحق من أحقاد دفينة، وضغائن خفية. بصياغة أخرى فبراهين وأدلة كل فيلسوف منهم ليست بريئة كما يعتقد القراء، إنما هي براهين آثمة لأنها تجلٍّ لرغبة خفية في أن يفرض ما يعتقده. من وجهة النظر هذه فالفلسفة ضغينة وحقد، وخلفيتها العميقة الحقد الخفي الذي يكنّه كل فيلسوف لآخر. تليق وجهة النظر هذه بالفلاسفة الكبار، وتبرر تجاوز بعضهم بعضاً. الضغينة الخفية والحقد الدفين هو ما جعل أنكسماندريس ينقض طاليس، وأرسطو ينقض أفلاطون، وابن رشد ينقض الغزالي، وديكارت يفنّد أرسطو، وكونت يفند الميتافيزيقيين، وكانْت يفند ديكارت، وهيغل يفند كانْت، وماركس يقلب هيغل، وبرجسون يفند الوضعيين... وهكذا وهكذا على حد تعبير عبدالرحمن بدوي. إن هذه مجرد أمثلة للحقد المخفي الذي يكنّه الفلاسفة الكبار. أستطيع أن أقول مع من قال: «إن تاريخ الفلسفة معارك ومبارزات فردية أو حروب جماعية، وربما كانت الفكرة هي أحد جوانب القصد الكامن خلف الصورة البصرية المشهورة لعصفور يقف على كتف عملاق فيرى أبعد منه». العبارة التي تقول تقدمنا وتخطينا أفلاطون وكانط. ولنمثل لهذا الزعم بصورة متواضعة في ظاهرها: لقد كان المفكرون السابقون عمالقة بحق، أما أنا، وإن كنت مجرد عصفور، فإنني أحط على رأس العملاق وأرى أبعد مما رآه (كارل ياسبرز). أقول نواة هذه العبارة الأولية هي جانب العلاقة التي تربط بين الفيلسوف السابق والفيلسوف اللاحق. الأول عملاق، والثاني لا يقارن بحجم الأول، لكنه يطأه لكي يرى أبعد مما يرى. لا يجب أن نعتبر ترديد خصوم الفلسفة هذا عيباً في تاريخ الفلسفة، إذ يبدو أنه السائد في المعرفة. يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار في إحدى تبصراته النافذة: «لا يكتفي المرء أبداً بأن يكون الصواب إلى جانبه والحق معه، وأن تكون الحجة له لا عليه، بل إنك لتجده يتحرى دوماً أن يكون محقاً ضد شخص آخر يخالفه ويناقضه، وإنك قلما تجد المرء يسعى إلى أن يكون محقاً تجاه القول الحق، بل إن مسعاه الدائم هو أن يكون محقاً تجاه الغير. والحق أنه من دون ممارسة القناعة العقلية الممارسة الاجتماعية هذه، فإنه ليس يمتنع أن تكون أعمق الحجج العقلية، إن حقق أمرها وكشف شأنها، أقوى دليل على ما تحويه رغباتنا في قول الحق من أحقاد دفينة». لقد اقترح أحد دارسي فلاسفة المثالية الألمانية الأقطاب (محمد الشيخ) أن تُدرس اعترافات فلاسفة المثالية الألمانية الكبار، وأن تُقرأ رسائلهم ومكاشفاتهم وشهادات معاصريهم وسيرهم من وجهة التحليل النفسي، ولم يستغرب هذا الدارس العربي الكبير أن تتكشف للدارس أمور عجيبة وغريبة كالمغالبة والمبارزة والمنازلة، والفرض إما بالحجة أو السلطة، وحق أن يكون المتفرد الذي كشف ما استعصى على غيره، وامتنع عن معاصريه، وأنه وضع نقطة الختام. من وجهة النظر هذه فالتعريف الوحيد والممكن للمعرفة وقمتها الفلسفة أنها ضغينة وحقد، وخلفيتها العميقة هي الحقد القاتل الذي يكنه باحث أو عالم أو فيلسوف لآخر. إنه التعريف الوحيد الذي يليق بالمفكرين والفلاسفة والكتّاب والروائيين والشعراء والعلماء الكبار. وهي المبرر لتجاوز هؤلاء الكبار بعضهم بعضاً على المستوى العلمي والفلسفي والجمالي. في ضوء هذا يمكن أن نفهم نيتشه؛ حينما يعيد كل فلسفة عظيمة إلى اعتراف صاحبها؛ أعني مذكراته سواء أدرك ذلك أم لم يدركه. إذا كان ذلك كذلك فلماذا نترفع بالعلماء العرب القدامى والعلماء المسلمين ومؤسسي المذاهب الفكرية والفرق الدينية فوق الأحقاد الدفينة والضغائن الخفية التي يكنّها كل واحد منهم لآخر؟! أسأل لأني أظن أن الحقد والضغينة يشكلان المادة الأولية لمعرفتهم، والتي لم يكن من الممكن أن نتصور فكرهم من دونهما. * روائي وناقد سعودي.