ربما فات كثيرين أن الحرب الأخيرة في ليبيا، تميّزت بأن المشاركة الأميركية فيها جرت عبر أدوات ووسائل إلكترونية فائقة التطوّر. وإضافة إلى رصد الأقمار الاصطناعية وجولات طائرات «أواكس» AWACS («نُظُم الإنذار والسيطرة المحمولة جواً» Airborne Warning And Control System)، شاركت طائرات من دون طيّار في عمليات القصف، كما حلّقت آلات مروحية صغيرة مزوّدة بكاميرات رقمية فوق الطرق والتلال والشوارع والأحياء. وإذا صحّت الروايات، يمكن القول إن الجيش الأميركي، على رغم «خفة» دوره في حرب ليبيا، مارس قتالاً ينتمي إلى المستقبل. ولعله تجسيد أول لمفهوم «نُظُم القتال المستقبلية» Future Combat Systems (اختصاراً «أف سي أس» FCS)، التي وصفها بحث إستراتيجي ظهر أخيراً على موقع الإلكتروني «غلوبال سيكيورتي. أورغ»، وهو الموقع الذي يديره البنتاغون. وبوصف موجز، تتألّف هذه النُظُم من أربعة مكوّنات أساسية هي «المركبات البريّة التي يُشغّلها سائق» Manned Ground Vehicles، و «النُظُم غير المُدارة بشرياً» Unmanned Systems، و «شبكة نُظُم القتال المستقبلية» Future Combat Systems Network، و...الجنود. والأرجح أن العنصر الأخير غاب عن حرب ليبيا، بحسب المعلومات المتوافرة إعلامياً لحد الآن. جيوش لم تعد قيد المستقبل من المستطاع وصف «نُظُم القتال المستقبلية» أيضاً بأنها شبكة نُظُم لإدارة النُظُم. إذ تمد شبكتها عبر أقسام المؤسسة العسكرية كلها، ما يجعلها أشبه بنظام ضخم مُركّب من 18 نظاماً مستقلاً، إضافة إلى الشبكة نفسها و...الجنود بالطبع. لذا، يُشار إلى هذا النظام أحياناً بمصطلح «18 زائد واحد زائد واحد» 18+1+1. وبوسع الجندي المتّصل بهذه المنصات والمجسّات الوصول إلى بيانات يمكنها إعطاؤه صورة أكثر دقة عن مجريات الأمور حوله. وتشكّل «شبكة المُقاتل الحربي التكتيكية للمعلومات» War Fighter Information Network- Tactical، اللبنة الأساسية في أساس «نُظُم القتال المستقبلية» للجيش الأميركي. ربما قدّم الجهد العسكري الأميركي في حرب ليبيا نموذجاً عن أحد الآثار العميقة للتفاعل المتواصل بين إستراتيجيات جيوش المستقبل ولوجيستياتها من جهة، وثورة المعلوماتية المتصاعدة حاضراً من جهة أخرى. بقول آخر، تقدّم جيوش المستقبل بوصفها تفاعلاً متعدد الأبعاد بين الكومبيوتر والأدوات الذكية، والشبكات الرقمية المتشعّبة، والعناصر التقليدية في الجيوش. يجدر تعديل الفكرة السابقة قليلاً. إذ أن هذه الأمور لم تعد جزءاً من مستقبل آتٍ، بل أنها أمور تحقّقت فعلياً وتتطوّر باستمرار. وإذا صدّقنا فكرة إستراتيجية راسخة مفادها أن الجيوش تتعلم بالحروب (إضافة إلى أشياء أخرى بالطبع)، فثمة حرب لا تهدأ ولا تتوقف، ربما كانت الساحة التي تتعلّم فيها الجيوش كيف تتعامل وتتفاعل مع البُعد المعلوماتي، بأبعاده العميقة. ليست هذه الحرب سوى... شبكة الإنترنت. ربما ليس أمراً صادماً القول بأن الفضاء الافتراضي للإنترنت يشهد حرباً تتواصل على مدار الساعة، باتت معلماً أساسياً للإستراتيجية الدولية في الأزمنة المعاصرة. يمكن المضي في هذا التحليل خطوة أخرى، وبحذر كافٍ. إذ يميل كثير من المنظرين الإستراتيجيين في الغرب، بما فيه الولاياتالمتحدة، للقول بأن ثمة عالماً متعدد الأقطاب أخذ في التشكّل تدريجاً، تؤدي فيه قوى مثل الصين وروسيا، دور الأقطاب المنافسة (وليس بالضرورة المساوية) للقوة الأميركية. لا شيء يشبه هذا العالم المقبل، سوى فضاء الإنترنت في الزمن الحاضر! استطاعت الصين أن تكون القوة الثانية اقتصادياً، بعد اليابان، ما يعني أن منافستها لأميركا ليست مجرد تمرين ذهني. أما على الإنترنت، فإن «الحرب» بين أميركا والصين، تكاد لا تنتهي. تجري كثير من «معاركها» الضارية في صمت الفضاء الافتراضي للألياف الضوئية للشبكة العنكبوتية. وفي بعضٍ من لحظات هذه الحرب، ينكسر جدار الصمت. تخرج الأمور إلى العلن. في لحظات كتلك، تشهد الأعين نماذج عن قسوة لا تتوقف في العالم الافتراضي. الإنترنت حرب لا تهدأ شهد عام 2010، واحدة من هذه اللحظات، التي لم تعد نادرة، عندما كشفت الولاياتالمتحدة أن عملية «عسكرية» معلوماتية، تدار من مقر القيادة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني، بهدف اختراق الشبكات العملية. بحسب ما أُعلِن في المواقع الإلكترونية للبنتاغون والكونغرس، كان اسم تلك العملية «أورورا» Aurora. معناها «الفجر». صادف أن القارب الحربي الذي قصف قصر القياصرة في «بطرسبرغ» إيذاناً ببدء ثورة تشرين الأول (أكتوبر) البلشفية في روسيا، حمل ذلك الاسم. ومنذها بات جزءاً من أدبيات الأحزاب الشيوعية. واختاره الحزب الشيوعي الصيني اسماً حركياً للعملية المتدحرجة التي شنها القسم الثالث في «جيش التحرير»، المتخصص في شؤون حرب الفضاء الافتراضي للإنترنت، ضد موقع محرك البحث الشهير «غوغل»، وتحديداً ضد موقعه الصيني «غوغل. سي أن» google.cn الذي استضافته بكين طويلاً. وعلى مدار ست سنوات مضت، عمل «غوغل» بانضباط بموجب معاهدة مكتوبة مع الحكومة الصينية، بمعنى أنه قبل بأن تُفرض عليه رقابة تمنع مستخدميه من الدخول إلى مواقع لا ترضى عنها حكومة بكين، مثل تلك التي تناصر مسلمي الايغور، وبوذيي التيبت، ونشطاء جماعة «والون فانغ» وغيرهم. وانطلقت تلك العملية، بحسب تلك المعلومات راهناً، في أواخر 2009. حينها، شُنّت هجمة إلكترونية استهدفت البرامج الأساسية وشيفرة المصدر، على عدد من خوادم الإنترنت التي تعمل في كبريات شركات المعلوماتية الأميركية، مثل «راك سبايس» Rak Space و«أدوبي» Adope و... «غوغل» بالطبع. وشملت تلك العملية التي تدّل على تمّكن صُنّاعها من السيطرة على متصفح الإنترنت «إكسبلورر» Exoplorer (تصنعه شركة مايكروسوفت)، الخوادم التي تحتوي على المعلومات الرئيسية، وضمنها السرية والحساسة، في شركة «نورثروب غرومان» Northrop Grumman Corporation (وهي من الصُنّاع الرئيسيين لأسلحة سلاح الجو الأميركي) و«داو كاميكال» Duo Chemical الكورية الجنوبية التي تحوز مكانة متقدمة في بحوث المواد الاصطناعية والنانوتكنولوجيا. واستطراداً، أدّت تلك الهجمة إلى حصول الصين على معلومات عن الطائرة المقاتلة «أف-35» F-35 التي تعتبر الأكثر تطوراً، بل إن الولاياتالمتحدة لم تكن شرعت في بيعها حين حصلت الصين، عبر هجمات الإنترنت، على معلومات حسّاسة عنها. وبعدها، استمرت «أورورا» في الضرب والاختفاء، على الطريقة الشهيرة في حرب العصابات التي وصفها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ ونظّر لها ومارسها. وفي مطلع 2010، وجّهت «أورورا» ضربة أخرى إلى «غوغل». واخترقت الخوادم التي تدير بريده الإلكتروني الشهير «جي مايل» G Mail. وأُعلِن أن الهجمة سعت لجمع معلومات عن البريد الإلكتروني لمعارضين ومنشقين صينيين. وقبل ذلك الشهر عينه، دعت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الحكومة الصينية إلى إجراء تحقيق رسمي بالهجمات التي تُشن من أراضيها ومؤسساتها، في إشارة إلى «العملية أورورا». في البحث عن قواعد الاشتباك استطراداً، يجدر التذكير بأن الولاياتالمتحدة أفردت قيادة خاصة لحرب الإنترنت، وجعلتها على قدم المساواة مع القوات الأساسية التقليدية للجيش الأميركي، مثل سلاح الجو والأسطول والمارينز والمُشاة. وأعطتها اسم «القيادة الأميركية للفضاء الافتراضي» American Command of Cyberspace، ما يعني أنها تتبع، نظرياً، الرئيس باراك أوباما بوصفه قائداً أعلى للقوات المسلحة الأميركية. وبصورة أكثر عملانية، جرى تمثيل قيادة الفضاء الافتراضي في هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية، على قدم المساواة مع القوات كافة. وابتدأت هذه القيادة بالعمل في أيار (مايو) 2010، ووصلت إلى العمل بطاقتها كاملة في تشرين الأول 2010! ولا يتوقف الجيش الأميركي عن تطوير قدراته الإلكترونية، سواء بالنسبة إلى القتال في الفضاء الافتراضي، أم بما يتعلق بإدماج البُعد المعلوماتي وشبكاته في بنية القوات المسلحة. وأخيراً، أعلن الجنرال روبرت كيهلر «قائد القيادة الاستراتيجية الأميركية» إن لدى الجيش إطاراً قانونياً للتعامل مع العمليات الهجومية في الفضاء الإلكتروني. جاء هذه التصريح بعد أقل من شهر من تصريح مماثل أعلن فيه أن هذا الجهد الرقمي ما زال مستمراً، ولم يصل إلى نهايته. وأوضح كيهلر في تصريحه الذي أعتُبِر أحدث مؤشر على الإسراع في الجهود العسكرية الأميركية في الحرب الإلكترونية، أنه لا يعتقد بأن الجيش الأميركي يحتاج إلى سلطات جديدة صريحة، كي يواصل عملياته الهجومية في الفضاء الافتراضي، لأن هذا الأمر يحدث فعلياً. وفي المقابل، أوضح كيهلر أن الجيش ما زال يتلمس طريقه في قواعد الاشتباك في الحرب الإلكترونية، بالنظر إلى اختلافها العميق عن ساحات المعارك التقليدية. وفي سياق متّصل، كثّف البنتاغون تحذيراته أخيراً في شأن معارك الفضاء الافتراضي. وأوضح موقعه على الإنترنت أن الولاياتالمتحدة تحتفظ بحق الرد بالقوة العسكرية على أي هجوم إلكتروني قد يوجه ضربة عميقة إلى قوتها الإستراتيجية، وأنها تعزز قدرتها في الحرب مع مخترقي الشبكات الإلكترونية. وفي تقرير صدر أخيراً عن البنتاغون، ورد أن الولاياتالمتحدة تحتفظ بحق استخدام السبل اللازمة كافة في الدفاع عن أمنها ومصالحها وحلفائها، بما فيها الوسائل الديبلوماسية والمعلوماتية وحتى العسكرية. وساوى كيهلر، وهو من قيادات القوات الجوية، في مؤتمر عقد عبر دائرة تلفزيونية مغلقة قبل أيام قليلة، بين العمل الهجومي الإلكتروني والعمليات البرية والجوية والبحرية والفضائية. وبين أن الهجوم الإلكتروني، حين حدوثه، يُنفّذ بناء على أوامر من الرئيس الأميركي باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة. وفي الذاكرة القريبة أن كيهلر صرح في 18 تشرين الأول، بأن المشاورات بخصوص المبادئ العسكرية وإطارها قانونياً، تجرى بصورة متواصلة، لكنها لم تستكمل بعد. وفي وقت سابق من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، صدر تقرير عن مركز بحوث تابع للبنتاغون أشار إلى تكثيف جهود وزارة الدفاع الأميركية في بناء ترسانة إلكترونية، ما يضع بين أيديها خيارات أكثر وأفضل، لمواجهة المخاطر التي تأتي من طريق الكومبيوتر وشبكة الإنترنت.