قال لي - قبل أن يستقيم به الطريق -: الإيمان وحده لا يصنع تاريخاً ولا ينشئ مدينة فاضلة. قلت: زِدني؛ كي لا يتمدد الجدب كشفاهٍ تشققت من يباس. - الأشياء البعيدة جداً عن مدارات أرَقي تموت كحذاء قديم، كأضواء المدينة الساحرة بعد انطفاء ليلها. - والصبر؟ غرس عيناه في وجه الجدار، وكالفحيح أرسل صوته: - الصبر قصيدة المعدمين، نرتلها كل حين، وننزع غلالته ضجراً. يبدو أنه أصبح يعي أننا لم نعد قادرين على تمثيل دورٍ شاق كهذا. أردف: - لو لم ينعطف بي الطريق عن جادة الكفر؛ لكنت رجلاً يورِق ويطغى، فلا يبالي بقِصَر الحياة وضنوِّ الأمل، ولكن الرفاق كسّروا الأصنام وأقاموا بدلاً منها أعمدة هشة، وقالوا: لا يسقط نظرك خارج هذه الأسوار، فتموت وحيداً وتلتهمك النار. كفر الرفاق، وآمنت وحدي فالتهمتني النار. - والزحف. - كانت الحياة ترقص بغنج، وأنا أغني. ولم أفق إلا على آثار صفعة علّمت على نصف وجهي، وركلة مددتني فوق فم الحياة. لم أكن أعلم بأن المدينة سُرِقت في اللحظة التي هممت فيها بغياب قصير. ما كان يجب علي ممارسة الغياب في حظيرة رعاتها انتقائيون. - مابالك الآن. أشار بيده ساخراً: - إنني جائع، والموائد عامرة. يتفتت قلبي، والروح نسيمٌ عليل. والرياح العابثة تغافل السكون. فأرتدُّ عليّ كرجيع صدىً، والجسد هزيل، ومازلت أثغو بطراً. يعتادني وجعي وأموء بضحكة مجلجلة. باختصار: أمارس تناقضاتي على طريقتي المعتادة التي لا يجهلها سوى الأباعد. وبعض المحترمين من المقربين الذي لا أريد زعزعة قناعاتهم فأقض مضاجعهم. وإني بخير عميم يا صديقي. من البعيد جاء صوته: -ذات يوم قلّبت الأشياء على وجوهها فعادت مسخاً، فالتفت إلى السماء.. يارب: لماذا يعاندني المساء ويهزني الملل؟ يارب: لم كتبت علي الصبر على الغثاء وأسلمتني للحلم فتياً؟ يارب: ما أنا إلا بشرُ غرس المداد وآمن بالحبر؛ فلم عُدت كما بدأت نقطة مهملة بين سطرين في عالم الوحشة؟ يارب: لم خُذِلت، وأنا الذي لم يتعلق بوهم؟ يارب: إني سقيمُ، سقيم، فهبلي كوناً ضيقاً أمدُّه كيف أشاء؟ - السلام .. السلام. - سلاماً .. سلاماً. [email protected]