سبق أن جاء في هذا الحيز في 18 تشرين الاول (أكتوبر)2011 تحت عنوان «مرض (اليورو) مزمن»: ... أن السبب المباشر لأزمة اليورو الحالية هو السبب ذاته الذي أدى الى حدوث الكارثة المالية، التي شملت شرورها معظم دول العالم... كما جاء أيضاً أن جزءاً من مشكلة اليورو تحديداً يعود الى الديون التي تراكمت على دول اليورو الأضعف اقتصادياً والتي تم التعاقد على اقتراضها بحيث تكون تكاليفها بنسب متذبذبة. لقد أغرت المنشآت المالية الكبرى حكومات دول كإيطاليا وإسبانيا وإرلندا واليونان والبرتغال، بالاقتراض بتكاليف ليست متذبذبة فحسب، وإنما بدت معقولة وقتَ الحصول عليها. ثم تراكمت الديون، فرجح المتداولون في أسواق الأوراق المالية، بأنه قد يصعب على كل الدول التي تم ذكرها، بدرجات متفاوتة، الوفاء «بكل» ما اقترضت، أو حتى بالجزء الأكبر من قيمتها الحالية بعد تراكم الفوائد المركبة حتى ارتفعت تكاليف خدمتها الى أضعاف ما كانت عليه. وهذا كله خلق من الشائعات والمخاوف ما أدى الى تذبذب يومي بنسب عالية في أسواق المال عامة وفي مستوى أسعار العملات الأجنبية نسبة الى بعضها البعض بصورة خاصة، فتزايدت المخاوف من انهيار اليورو، وهذا بحد ذاته خلق ارتباكاً بين المشرفين على السياسة النقدية في بنك أوروبا المركزي. فما الحل؟ حينما تقترض الدول، تأمل في أن ينمو دخلها في المستقبل بحيث يكفي لدفع الديون، ولضمان حد أدنى من فرص العمل، وحد أدنى من تقديم الخدمات للمواطنين. ولكن حين يرافق تراكم الديون تراجع اقتصادي، فإن التراجع الاقتصادي يؤدي الى خفض نمو الدخل الكلي العام، الذي يراد منه دفع أجزاء متزايدة من الديون المتراكمة. والحل المطروح عادة هو مزيد من التقشف. أي خفض الإنفاق الحكومي بالتقليل من الخدمات المقدمة للمواطنين، أو رفع أسعارها، كخدمات النقل وخدمات النظافة وغيرها وغيرها. وهذا بدوره يؤدي الى تناقص النشاط الاقتصادي، على عكس ما كان الأمل المعقود عليه للارتفاع، حتى يتم إطفاء الديون، وإذا قلَّتْ نسبة إطفاء الديون، تناقصت أسعار سندات الديون في أسواق المال العالمية. وتناقُص الأسعار معناه ارتفاع الفوائد وزيادة تكاليف دفع القروض على الدول التي هي في أَمسّ الحاجة لخفضها لا لرفعها. وفي الفترة الأخيرة لم يجد البنك المركزي الأوروبي بداً من تسييل بعض هذه الديون السيادية لبعض الدول التي سبق ذكرها. وكيف يتم التسييل؟ معنى التسييل في هذه الحالة هو شراء البنك المركزي الأوروبي جزءاً من الديون وتعويض حامليها أو مالكيها بما يقابل قيمتها من اليورو نقداً. وكل ما يفعله البنك المركزي هو حرفياً إصدار (طبع) كميات اكبر من اليورو يغطيها بما يقابل قيمتها من سندات الديون السيادية التي اشتراها. وهذا يؤدي الى نتيجتين: الأولى: زيادة مستوى السيولة التي لم يرافق رفع مستواها زيادة في النشاط الاقتصادي الكلي، تؤدي ولو مؤقتاً الى خفض تكاليف الاقتراض. أي تقلل من حِمْلْ الديون السيادية. ولكن رفع مستوى السيولة الذي لا يرافقه زيادة في كمية النشاط الاقتصادي الكلي، يؤدي في نهاية المطاف الى ارتفاع نسبة التضخم. ثانياً: وفي نهاية المطاف قد يؤدي تسييل الديون كما تم شرحه أعلاه، الى إضعاف قيمة اليورو نسبة الى عملات دول أخرى يتنافس الأوروبيون معها في الأسواق العالمية، كأميركا وكندا واستراليا والبرازيل واليابان والصين وغيرها. إن أزمة اليورو أزمة هيكلية، وما يستطيع البنك المركزي الأوروبي تحقيقه هو إما خفض نسبة الفوائد على إيداعات اليورو أو محاولة تسييل نسب متزايدة من الديون السيادية. غير ان للتسييل تكاليفه، كما لخفض نسبة الفوائد، كاحتمال ارتفاع نسبة التضخم أو تدني قيمة اليورو ذاتها، ولا يستطيع البنك المركزي الأوروبي التسييل باستمرار بنسب عالية. والحل الواضح هو زيادة النشاط الاقتصادي داخل الدول المستدينة. وهذا الحل بدوره يتناقض مع مطالبة دول الاتحاد الأوروبي للدول الأضعف التي أرهقتها تكاليف القروض، لأنها تطلب من هذه الدول خفض الإنفاق الحكومي لتتمكن من توفير مبالغ يمكن توظيفها لإطفاء جزء من الديون، فصارت الدول المستدينة تدور في حلقة مفرغة. تريد نشاطاً اقتصادياً أكثر، وهذا لا يتم إلا بإنفاق أكثر، وفي الوقت ذاته، يطالبها المركزي الاوروبي بالحد من الإنفاق. وعلى المدى الطويل، لا بد من تجرع حل من حلين أحلاهما مرّ. الأول: خروج عدد من الدول الأضعف اقتصادياً من محيط عملة اليورو. ولكن الخروج من العملة له مساوئه الكثيرة، بما فيها هروب رؤوس الأموال من الدولة التي تلوح المؤشرات بأنها ستخرج من محيط عملة اليورو. وهذا يضر بالنشاط الاقتصادي العام ويخلق مشكلات هيكلية في البنية الداخلية للاقتصاد الوطني. وقد يترتب عليه في البدء زيادة نسبة البطالة وما تخلقه هذه الزيادة من اضطرابات سياسية تهدد الأمن والاستقرار. الثاني: هو ما ألمحت إليه مستشارة ألمانيا السيدة أنغيلا ميركل وهو مزيد من التلاحم السياسي ومزيد من التخلي عن الهوية الوطنية، بحيث يسهل توحيد السياسات المالية بين الأقطار الأوروبية التي تستخدم اليورو كعملة لها. وهذا أمل صعب التحقيق في المستقبل القريب لأسباب كثيرة يعرفها الألمان أكثر من غيرهم من الأوروبيين. وخلاصة الموضوع، أن السياسة الاقتصادية أكثر تعقيداً مما قد يبدو أمرها للمبتدئين، ويصعب حل معضلة مالية من دون التأثير على عوامل نقدية كقيمة العملة، والعكس صحيح. * أكاديمي سعودي.