اجتمعت بلدان مجموعة السبع، التي تضم الولاياتالمتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان وإيطاليا وبريطانيا وكندا في مدينة مرسيليا جنوبفرنسا وقد وعدت بتقديم رد "قوي" و"منسق" على الأزمة الاقتصادية الأوربية، لكنها لم تحدد إستراتيجيتها، وعلى خلفية تدهور جديد للاسوق المالية الأوروبية عموما والتدهور في الثقة الذي بدأت تظهر ملامحه على الأسواق الفرنسية في وقت شهدت الأسواق تراجعات هي الأقوى على مدى أسابيع حيث سجلت وول ستريت اقوى تراجعها خلال ثلاثة أسابيع، على غرار البورصات الأوروبية التي تأثرت جميعها بالمخاوف على الانتعاش وأزمة الديون. صحيح أن هذه الدول خلصت في بيانها الذي صدر في ختام اجتماع وزراء المال بأنه "باتت تتوافر مؤشرات واضحة عن تباطؤ الازدهار العالمي"، ولم يقرر وزراء المال وحكام المصارف المركزية إصدار بيان مشترك، لكنهم أصدروا في النهاية بيانا تضمن عبارات مرجعية متفقا عليها. وتواجه كثير من دول أوروبا معدلات قاسية وعجزا ماليا غير مسبوق تسبب في ارتفاع مستويات الديون السيادية في تلك الدول إلى مستويات حرجة، في وقت حثت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد بلدان المجموعة على التحرك لاتخاذ إجراءات قوية وفورية لتوجيه الاقتصاد العالمي في هذه المرحلة الخطيرة لكي يكمن منع تكرار تراجع النمو بعد كساد 2008-2009 خصوصا أن تداعيات الأزمات العاصفة بالأسواق الأمريكية تلقي بظلال كثيف على ما حولها. الحقيقة إن تداعيات ارتفاع الديون السيادية خلقت للدول الأوروبية ولعدد من القوى العظمى ضغوطا جدية دفعتها للبحث عن مخرج للتحرك "بجرأة"، حسب تعبير المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، وقد بدأت أزمة الديون السيادية الأوروبية في نهاية 2009، كما هو معروف عندما تم اكتشاف أن المخاطر المصاحبة للدين السيادي اليوناني هي أسوأ بكثير مما كان يعتقد، وترتب على ذلك ثورة من الشكوك والترقب حول مدى قدرة عدد من أعضاء منطقة اليورو على سداد ديونها، وتسبب ذلك بشكل مباشر في زيادة تكلفة الاقتراض متزامنا مع تراجعات وتقلبات متسارعة في الأسواق العالمية والأوروبية على وجه الخصوص. والحقيقة إن الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي قاما بعمليات إنعاش أو إنقاذ متعددة من خلال توفير الأموال لكل من اليونان وأيرلندا، لكن كل ذلك لم يبعد شبح الكساد والانهيار الوشيك والتردي العام الذي أصبح سمة لاقتصاد اليونان وأيرلندا، كما أن هذه الحلول أثرت على باقي دول منطقة اليورو لأن لكل بلد مشاكله وأولوياته، ولا يخفى أن البلدان الغنية وعدت بالعمل والتنسيق مع نظيراتها في مجموعة العشرين التي تضم أيضا القوى الناشئة، للعمل بشكل جاد ومباشر على إعادة توازن الطلب وتعزيز النمو العالمي وفي الأحوال العادية الطبيعية يمكن لدولة ما أن تخفف عبء الدين العام عليها، بإنتهاج حزمة من الوسائل والسياسيات للالتفاف بحنكة على الديون العامة لكن الوضع الأوروبي ليس أمامه إلا خيارات محدودة في ظل تفاقم الأزمات ووصولها إلى درجات متقدمة تتضاءل أمامها كثير من الحلول ولا يخفى أن إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن خطة التوظيف التي تبلغ قيمتها 447 مليار دولار، قد أوحت بأن الولاياتالمتحدة قد جاءت إلى مرسيليا وهي مقتنعة بأنها قامت بما يجب عليها وأنها تتوقع من أوروبا القيام بخطوات مماثلة، وقد أعجبتني مقولة رشحت عن اجتماع مرسيليا حيث قال وزير المالية الفرنسي فرانسوا باروان في مؤتمر صحفي: علينا أن نتحرر من فكرة انه يوجد حل واحد فقط مناسب للجميع. أنا أرى أن يكون في منطقة اليورو مرونة تتناسب والوضع الخطير الذي يتهدد الجميع، ولا يمكن لحلول علاجية كالتي حدثت في اليونان وأيرلندا مثلا أن تنهي مخاطر الديون السيادية في ظل عدم إمكانية إعادة هيكلة ديون هذه الدول في المستقبل، وأعتقد أن معضلة الاقتصاد الأوروبي تتلخص في عدم مقدرة تلك الدول من التحكم في الدين العام وجعله تحت السيطرة، لأسباب كثيرة ومعوقات جدية يمكن إيجازها في أربعة محاور أو خيارات أو حلول تتمثل في الآتي: 1- يرى كثيرون أن التعديلات الماليةFiscal adjustments، هو أحد الحلول المطروحة والمقصود بالتعديل المالي. محاولة الدولة تعديل هيكل النفقات أو الإيرادات، بشكل يؤدي إلى تخفيض عجز الميزانية العامة للدولة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، وذلك يهدف إلى ضمان استدامة الدين العام، من خلال تحقق فوائض مؤكدة في الميزانية العامة للدولة. وإجراء كهذا يمكن أن يساعد هذه الدولة أو تلك على تثبيت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي أو على الأقل تخفيضها. مع العلم أن اتفاقية ماتستريخت ألزمت كافة الدول الأوروبية بتخفيض نسبة العجز إلى الناتج عند مستوى 3 في المائة بحلول عام 2012/2013، وحل كهذا شبه مستحيل في ظل الأوضاع الحالية لأن التعديل المالي له متطلبات جوهرية يتوجب على هذه الدول اتخاذ عدة إجراءات رئيسية للقيام بتعديل مجدٍ، منها زيادة الضرائب على الشركات وعلى الأشخاص، وخفض الإنفاق العام وذلك في إطار خطة أو خطط للتقشف ووقف الهدر والسيطرة على الإنفاق العام، وهذه الخطط ستؤدي حتما لنتائج انكماشية على مستويات الطلب الكلي كما أنها قد تدخل تلك الدول في دائرة المقامرة أو المجازفة بالاستقرار السياسي الاجتماعي (لعلنا نستحضر ما حدث في اليونان من مظاهرات عنيفة عندما حاولت الدولة التعامل مع معضلة دخول الدين السيادي لمستويات خطرة وذلك بالتعديلات المالية Fiscal adjustments الذي تضمن زيادة الضرائب وخفض الإنفاق العام). ومن المهم الإشارة إلى خطورة لجوء تلك الدول العاجزة عن السداد إلى التسرع في التخلص من بعض الأصول الحكومية في إطار عمليات ترقيع أو خصخصة، لأن خطوة كهذه ستكون لها نتائج كارثية الآن إذا أخذنا بعين الاعتبار استحالة الحصول على قيمة حقيقية أو حتى المنطقية لهذه الأصول التي ستتأثر حتما بفعل الضغوط الكبيرة المترتبة على ضخامة الدين السيادي وبفعل الانكماش الاقتصادي الحاد الذي قد يكون بداية فعلية لكساد كبير. اليونان تمثل ثاني أكثر دين سيادي خطورة في العالم 2- الخيار الثاني اللجوء إلى التمويل التضخمي، بإيجاد تضخم، بحيث تعمد الدولة إلى التمويل التضخمي أي بزيادة عرض النقود التي تستخدم في خدمة الدين العام، وهو حل يرى البعض أنه قد يمكن الدولة من التخلص من جانب من عبء الدين من خلال زيادة عرض النقود من ناحية، وتخفيف عبء الدين من خلال تخفيض قوته الشرائية في المستقبل من ناحية أخرى. إلا أن حلا كهذا لا يمكن في ظل اتفاقية ماستريخت أو بالأصح غير متاح لكل الدول الأعضاء في منطقة اليورو، ذلك أنه وفقا لاتفاقية ماستريخت، لا يمكن لأي دولة من الدول الأعضاء في اليورو استخدام التمويل التضخمي كوسيلة لتمويل العجز أو لخدمة الدين، وذلك انطلاقا من الأهداف ذات الأولوية الأعلى للاتفاقية والتي تقضى بضرورة الحرص على استقرار الأسعار في كافة أنحاء منطقة اليورو، وهو من الأهداف الأساسية للبنك المركزي الأوروبي أيضا، وغني عن القول إن الفترة الزمنية القصيرة ضاغط قوي، إذا أخذنا في الاعتبار أن التوقعات السائدة (التي سببت الرعب في الأسواق الأوروبية وأثرت بقوة على الاقتصاد الفرنسي) تشير إلى ارتفاع مخاطر التوقف عن السداد، وبصفة خاصة في مجموعة الدول التي أصبح يطلق عليها اختصار PIIGS، والتي تشمل الحروف الأولى لكل من البرتغال وأيرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا وحيث إن أحدث البيانات المتاحة تؤكد تزايدا صاعديا في المعدلات المطلوبة للعائد على السندات الأوروبية لمجموعة دول ال PIIGS، ما يؤكد ويعزز الشكوك والمخاوف من احتمالات التوقف السداد، ولقراءة هذه المعدلات الاستثنائية سنسلط الضوء على معدلات العائد على السندات الأوروبية استحقاق عشر سنوات حيث تصل إلى 11.86% لسندات الدين اليوناني، و9.15% لسندات الدين الأيرلندي، و7.41% لسندات الدين البرتغالي، و5.46% لسندات الدين الإسباني، وأخيرا 4.73% لسندات الدين الإيطالي، وذلك مقارنة ب 3.24% للسندات الألمانية، وهي بكل المقاييس تعد معدلات تاريخية بالنسبة لهذه الدول، ولم يكن مفاجئا في ظل تطورات قوية كهذه أن يحتوي التقرير ربع السنوي لمؤسسة CMA عن الربع الرابع من العام الماضي على تراجع غير مسبوق في ترتيب الديون الأوروبية. أزمة الأسواق الأمريكية تلقي بظلالها على ما حولها 3- الخيار الثالث إشهار الإفلاس (Declaration of bankruptcy) والإعلان عن التوقف عن السداد، والذي يعني ضمنا الإعلان عن إفلاس الدولة، وحل كهذا لن يشكل نهاية المطاف من وجهة نظري لدول كمجموعة PIIGS وإن كان سيؤثر في عدم قدرة أي دولة من الدول التي قامت بعملية إعادة الهيكلة على الاقتراض أو التعامل ثانية مع الأسواق، وسيكون امتناع الأسواق عن تقديم الأموال لدولة أعادت هيكلة دينها أمرا منطقيا كما أن إجراء كهذا سيرفع تكاليف الاقتراض المستقبلية بل وقد تواجه الدولة مقاطعة تجارية من الدول المقرضة ولكن ما هو البديل؟ لتفاقم الأوضاع وسقوط العملات وانهيار النظام الاقتصادي بالكامل. أقول وبكل جرأة أن دولا أصبح إنعاشها في حكم المستحيل توشك أن تنهار وتجر معها دولا أخرى يمكن إنقاذها وأعني مجموعة PIIGS لا يوجد ما يمنع إفلاسها، وإذا توفرت المرونة من جانب دول منطقة اليورو فسيكون هذا الحل مدخلا قانونيا للتخلص من كل أو جزء من الدين العام كما أنه قد يمكن الدولة من إعادة هيكلة الدين السيادي بحيث تشمل الهيكلة حلولا قد تكون صعبة وتحتوي على إجراءات عدة منها شطب جزء من الدين، أو التحكم في إطالة أمد السداد بإعادة جدولة الدين السيادي للدولة على فترات زمنية أطول، كما أنه سيمكن التفاوض على خفض نسب ومعدلات الفائدة على تلك الديون. والحقيقة إن الدول الأعضاء في اليورو بوضعها التكتلي الحالي (Package) لا يمكنها أن تلجأ إلى هذا الخيار بإعادة هيكلة ديونه السيادية، لذلك أعجبنتي مقولة وزير المالية الفرنسي، لأن لمثل هذا الخيار آثارا خطيرة جدا على مستقبل اليورو ودوله، حيث إن عملية إعادة هيكلة مئات المليارات من الدولارات وهي ديون مجموعة الدول الخمس ستؤدي إلى آثار خطيرة وهائلة في الأسواق، ومن المؤكد حدوث اضطرابات وتدهور متسارع وخارج عن السيطرة للأنظمة المصرفية الأوروبية، إذا أخذنا بعين الإعتبار وضع الأسواق الحالي وأن أكثر حملة السندات الأوروبية هم بنوك ومؤسسات مالية أوربية، وسينسحب كل ذلك ليس على للقطاع المصرفي الأوروبي وحده بل يزيد من عمق المشاكل التي بدأت بالتجلي والإمساك بعنف بخناق الاقتصاد الأمريكي، وسيتوالى تأثيرها ليصل إلى جميع الأسواق في جميع أنحاء العالم لفترة زمنية طويلة مقبلة، ولكن لو واجهت الدول التي يغلب اليأس على إنقاذها مشاكلها منفردة دون الخروج من مظلة اليورو ودون التنصل من التزامات اتفاقية ماستريخت التي أعتقد أن من المناسب إعادة النظر بها. 4 – الخيار الرابع أمام الدول الأوروبية الأعضاء في اليورو هو الخروج من منطقة اليورو، والتحلل من التزاماتها، وخيار كهذا مرفوض وتنخفض جدواه كثيرا كلما تعمقت الأزمة المالية، ولو افترضنا جدلا أن خيار الخروج من اليورو هو خيار مطروح لأي من هذه الدول فإنه لن يؤدي إلى حل المشكلة بل سيزيدها تعقيدا، حيث إن جميع الاقتصادات المعنية هشة وتحتاج إلى داعم خارجي ولن تستطيع هذه الدول تحمل تبعات حرمانها من ميزة حرية الوصول إلى التسهيلات المتاحة من المنطقة الأوروبية، ولن تفرط دول تمر بأزمات حادة وخطيرة في منجم تسهيلات البنك المركزي الأوروبي للدول الأعضاء التي تواجه اضطرابا ماليا. كما أن تخليها عن اليورو والعودة لعملاتها السابقة له مخاطر فظيعة ولا تحتملها دول متعافية ومزدهرة اقتصاديا فكيف بدول على حافة الانهيار. وقد جاءت قائمة أكبر عشر دول في العالم خطورة من حيث دينها السيادي محتوية على أربع دول من أعضاء في اليورو المعروفة باختصار PIGS، حيث جاء ترتيب اليونان في المركز الثاني بعد فنزويلا كصاحبة أكثر دين سيادي خطورة في العالم، الثالث أيرلندا، ثم البرتغال، ثم إسباني في المركز السابع كأخطر دين عالميا، ولعل من المناسب أن أشير إلى أن المملكة العربية السعودية اعتلت قائمة منطقتنا حيث جاءت في هذه القائمة كأفضل دين سيادي في المنطقة. ولكل ما تقدم يتضح بجلاء أن أزمة الديون السيادية الأوروبية تزداد سوءا وعمقا في كل يوم أشد من الذي قبله وأصبحت تهدد مؤسسات وقطاعات كانت فيما الماضي القريب مستقرة ومنتعشة، والخطورة الحقيقية أن تزايد سوء الأداء وتباطؤ النمو وتفاقم الديون السيادية ودخولها مناطق حرجة قد سبب ذعرا في الأسواق الأوروبية ينذر بتفجر أزمة يزيد من سوئها وخطورتها المشهد الاقتصادي العام الذي يترنح محاولا التملص من دخول نفق الكساد الذي يخيم على كامل المشهد الاقتصادي العالمي. وزير المالية الفرنسي فرانسوا بوروان الذي تترأس بلاده الاجتماع أفاد في مؤتمره الصحفي بما أعتقد أنه تلخيص لحل الأزمة لو تم الأخذ به حين اكد على المجموعة التحرر من فكرة أنه يوجد حل واحد فقط مناسب للجميع. وأوضح أن المجموعة توصلت إلى نقطة توازن بين المهمة الصعبة التي تجمع تقليص العجز ودعم النمو. * رئيس مركز العَلَم للبحوث ودراسات القانون التجاري الدولي