النقاش المحتدم داخل إسرائيل حول إمكانية توجيه ضربة لإيران ينبغي أن يُحمل على محمل الجدّ، ليس فقط بسبب من المشروع النووي الإيراني المتواصل، بل لأن إيران هي هاجس إسرائيلي جدي في المستوى الجيو - سياسي باعتبارها قوة إقليمية متمددة غرباً، والقوة العسكرية الوحيدة القادرة على تشكيل تحدٍ بالنسبة الى إسرائيل منذ عمد نظام ولاية الفقيه إلى «تصدير الثورة» تمهيداً لعودة الإمام. بمعنى، أن السجال الإسرائيلي حول ضربة استباقية ضد إيران ومشروعها النووي حقيقي، وأن الإسرائيليين منقسمون على أنفسهم في هذا الباب انقساماً عمودياً وأفقياً وعبر كل النُخب. ومن اللافت أن الانقسام أو الاختلاف في التعاطي مع الخطر الإيراني يطاول المؤسسة الأمنية برموزها الحالية والسابقة. لم يعد خافياً مثلاً أن التحالف المتين بين رئيس الحكومة وبين وزير أمنه هو تحالف مكرّس بكامله لمعالجة الملف الإيراني، وأن الرجلين يعدّان العدة من ناحيتهما لتوجيه ضربة وقائية في عرفهما. بل رشح من السجالات أن الرجلين مستعدان لدفع أثمان باهظة تصل إلى مليون قتيل في مواجهة محتملة مع إيران، وأنهما مصرّان على الخيار العسكري ويستعدان له في كل المستويات. وقد نشرت مصادر صحافية غربية أن إسرائيل انتقلت في استعدادتها لما يُسمى ب «الضربة الثانية» في الحروب الاستراتيجية ومعناها امتلاك قدرات عسكرية ولوجيستية وعملياتية لتوجيه ضربة ثانية بعد ردّ إيراني على الضربة الأولى. أما معنى هذا المصطلح في التوازنات النووية فهو امتلاك قدرة على الردّ بضربة نووية أو بسلاح أكثر فتكاً (القنبلة الهيدروجينية) على ضربة نووية أو شبيهة أتت رداً على الضربة الإسرائيلية الأولى. وهذا يعني أن إسرائيل باتت تتعامل مع إيران على أنها تمتلك احتمالاً قنبلة نووية أو سلاحاً فتاكاً آخر للإبادة الجماعية، وأنها تستعدّ على أساس هذه الفرضية! يدّعي معارضو الضربة الاستباقية في إسرائيل أن الدولة العبرية غير قادرة على تحمّل تبعة عملية من هذا القبيل، وأن سلاح الجو كما يعرفونه غير قادر على إنجاز المهمة بسبب شروط المعركة والجغرافيا ونوعية الأسلحة التي يُمكن أن تستعمل وقدرتها التدميرية، أخذاً بالاعتبار الفارق الشاسع في العمق الاستراتيجي الإسرائيلي وذاك الإيراني لمصلحة الثانية. ويذكّر هذا الادعاء بما كان صاغه المنظّر العسكري الاستراتيجي الأبرز في إسرائيل، الجنرال احتياط، يهوشفاط هركابي (رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية وواضع مؤلف مهم في الاستراتيجيا والحرب غير التقليدية في أواسط الثمانينات). فهو جزم في كتاب لم تُحبه النُخب السياسية والعسكرية، بأنه حتى لو امتلكت إسرائيل القدرة النووية لضرب أكبر مئة مدينة عربية في سيناريو لحرب شاملة، وقدرة إضافية على توجيه ضربة ثانية، فإن قدرة العرب الاستراتيجية على البقاء والنهوض من حرب كهذه أكبر بما لا يُقاس من قدرات إسرائيل. نعتقد أن هذا الادعاء صحيح، أيضاً، في السياق الإيراني، بخاصة أن لإيران ما يُمكنها من إيلام إسرائيل في وجودها وليس في حدودها فقط، عكس الدول العربية التي بدت في العقود الثلاثة الأخيرة وقد تهلهلت عسكرياً. كما أشارت دلالات التقارير الاستراتيجية المتخصصة إلى تعاظم التفوق الإسرائيلي على هذه الدول في كل الميادين وإن كانت قوة الردع الإسرائيلية قد اهتزت مرتين متتاليتين في السنوات الأخيرة. ومع هذا اتضح أن غالبية الوزراء الإسرائيليين في القيادة الحكومية المصغرة تعارض تحميل مواطني الدولة العبرية وزر مواجهة كهذه تختلف تماماً عن سابقاتها، وتصرّ على خيار المعالجة الدولية لهذه المعضلة. وهو خيار لم تتنازل عنه إسرائيل الرسمية بعد. بل يُمكننا أن نقدّر محاولة قيادات إسرائيلية وحليفاتها في الخارج استثمار النقاش الإسرائيلي المحتدم الآن للضغط على الدول المعنية للذهاب في الخيار العسكري. كأنها تحذّر من أن عدم تفعيل الآليات الدولية ضد إيران سيضطر إسرائيل إلى فتح باب جهنّم التي لا حياد فيها لأحد من اللاعبين الكبار! نستطيع أن نستطلع في الخطاب الإسرائيلي وذاك الدولي المتناصّ معه رعونة ما مفادها: «خوضوا معنا هذه الحرب وإلا جررناكم إليها»! أما مصدرها فهو وجود تيار إسرائيلي واسع تؤيّده قوى إقليمية ودولية في الغرب والشرق، يصرّ على أنه لن يقبل بإيران دولة نووية مهما يكن! مردّ هذه النزعة في تجربة الشعب اليهودي الذي تعرّض لمحاولة الإبادة في اربعينات القرن الماضي، وفي الشعور الإسرائيلي المتنامي بتعاظم الأخطار والتهديدات وأن الوقت ليس في مصلحة إسرائيل. أما السياق الإقليمي والعالمي، ففيه ما يُغري بمغامرة كهذه. فالتغيّر الحاصل في خريطة الدول والمنطقة منذ عقد ونيف، والفراغ العربي أو التخلخل في البناء العربي الحاصل الآن، يستقدمان تنافساً على ملئه بين كثير من القوى الدولية والإقليمية، بينها إسرائيل الخائفة وإيران المتمددة. وفوق هذا وذاك، هناك اهتزاز البنية الكونية للدول والمجتمعات ووهن الدولة القطرية وبروز الكيانات الكبيرة، لا سيما الأديان والحضارات، كقوى دفع نحو صدام مؤجّل. وهذا مناخ تستفيد منه إسرائيل وتستثمر كل ورقة تُطيّرها رياحه، وهي رياح ترى بالخطورة ذاتها المشروع النووي الإيراني ويسرّها لو أنها استطاعت التخلص منه على نحو ما. بمعنى، أن هناك تيارات خفية تزيد من احتمال الضربة العسكرية الاستباقية ضد إيران. نقول هذا وفي إسرائيل وإيران ما يكفي ويزيد من نزعات إطلاقية تشدّ بقوة إلى هناك. وهو ما يمنع فتح نقاش مغاير في مسألة «توازن الرعب النووي» كما سمّي إبان الحرب الباردة، أو كما في حالة الهند وأفغانستان التي تخوف العالم من حرب شاملة بينهما بعد امتلاكهما السلاح النووي، فيما يُمكن هذا السلاح في حالة التوازن، أن يسدّ الشهية إلى الحرب والمواجهات العسكرية! لكن، في إسرائيل والأوساط الحليفة لها استراتيجياً و «حضارياً» في العالم، قوى لا تريد أن تسمع عن مثل هذه الإمكانية. وفي إيران قوى متنفّذة غير مستعدة لاتخاذ أي خطوة يُمكن أن تُفضي إلى انفراج. قوتان ذاهبتان إلى الارتطام بحركة التاريخ وحرفها عن مسارها!