الأدب شعر ونثر، والرواية والقصة من الفنون النثرية الحديثة، وإن كانت القصة حظيت بوجود حقيقي في الأدب العربي القديم، ولكن شكله الأدبي الحالي هو شكل حديث! وإذا جاز القول بغياب الحج عن الفن الروائي والقصصي؛ فإنه لا يصح القول بغيابه في الشعر قديماً وحديثاً. لقد ارتبط العرب دينياً، وبالتالي وجدانياً بالحج وما يتعلق به من الزمان والمكان. فموسم الحج كان معروفاً، وأسواق العرب الثلاث عكاظ وذي المجنة وذي المجاز كانت متعلقة بالحج، وقد ورد ذكر الحج وتقديسه، وتقديس مناسكه ومشاعره في أشعارهم. فالنابغة الذبياني يقول في قصيدة له يعتذر للنعمان بن المُنذر ويستعطفه حالفاً بمن أمن الطير في الحرم تمرّ به ركبان مكّة: والمؤمنين العائذات السير تمسحها/ رُكبان مكّة بين الغيل والسعد/ وهو يكرر هذا الحلف في اعتذاره للنعمان، وهي من بديع اعتذارياته فيقول: حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة/ وهل يأثمَنْ ذو أمَّةٍ وهو طائعُ/ بمصطبحاتٍ من لصافٍ وثبرة/ يزرن إِلالاً سيرُهنَّ التدافعُ/ عليهنَّ شعثٌ عامدون لحجّةٍ/ فهنَّ كأطراف الحَنِيِّ خواضعُ. والنابغة هنا، يحلف بالنوق التي تجد في سيرها وتقطع الفيافي إلى الحج، تتدافع مدافعة، وقد أضمرها طول السير، وعلى الإبل أُناس شعث مغبرون يقصدون الحج. هذا، مع ما كان يكتنف تصرفاتهم من شركيات تسللت إلى عقيدة التوحيد التي كان العرب تلقوها عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، اللذين أقاما البيت الحرام كما ورد في القرآن الكريم. وكان ذكر الحج وتقديس المشاعر أمراً طبيعياً في الشعر الإسلامي، وإنه ليأتي حتى في قصائد الغزل كما في شعر جميل بثينة، إذ يقول: حلفتُ بربِّ الراقصات إلى منى/ هُوِيَّ القَطا يَجْتَزْنَ بطنَ دفِينِ. والراقصات هي الجمال التي تحمل الحجاج إلى منى وهي تسرع في مشيتها وترقل. وقد عقد الملتقى الأدبي لشهر ذي القعدة في رابطة الأدب الإسلامي بعنوان: «الحج والمشاعر المقدسة في الشعر»، تحدث فيه الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض الدكتور محمود عمار عن الحج في الشعر الجاهلي، مستشهداً بما في ورد في شعر النابغة نموذجاً لذلك. وشارك الشعراء حيدر الغدير وحبيب المطيري وعمر خلوف وجبران سحاري وانتصار اليحيى بقصائدهم. وذكر الحج قديماً متداخل مع الحديث عن الأراضي المقدسة مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، ولأستاذ الأدب العربي في جامعة الظهران الدكتور عبدالرزاق حسين كتاب في الموضوع. أما الشعر الحديث فهو حافل بقصائد عن الحج، والأجواء الروحانية التي يعشيها الحاج من ابتهال وتضرع إلى الله سبحانه، ووصف لجموع الحجيج ومواكبهم في المشاعر وهم يؤدون المناسك من وقوف على عرفات، ومبيتهم في مزدلفة، ورمي الجمار أيام منى، وفي الطواف حول البيت العتيق، وفي السعي بين الصفا والمروة، وقبل ذلك وبعده شوق القدوم، وأسى الوداع! ونظرة عجلى في دواوين الشعراء السعوديين عموماً والحجازيين خصوصاً تظهر ذلك بوضوح؛ مثل ديوان «مكتي قبلتي» الذي جمعه الشاعر الكبير أحمد قنديل وصدر عن النادي الأدبي بجدة، وضمنه قصيدة مطولة له بالعنوان نفسه، وقصائد لكبار شعراء الحجاز المعاصرين مثل طاهر زمخشري، ومحمد حسن فقي، وحسن القرشي وغيرهم. وللشاعر المكي أحمد إبراهيم الغزاوي مجلد كامل في أعماله الشعرية تضمن ما يقارب مئة قصيدة كلها عن الحج، فكان يلقيها في مؤتمر منى من كل موسم بين يدي أصحاب الجلالة منذ أيام الملك عبدالعزيز إلى زمن الملك فهد - يرحمهم الله تعالى - أمام الوفود الرسمية. وقدمت الشاعرة المكية إنصاف بخاري رسالة دكتوراه بعنوان: مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة في الشعر السعودي في المدة الزمنية (1343-1420ه/1924-2000)، نشرت مجلة الأدب الإسلامي عرضاً لها في عددها التاسع والعشرين. نصل من هذا إلى القول: إن الحج حاضر في الشعر السعودي بقوة، ولكن لا يلزم أن تكون لكل شاعر قصيدة أو أكثر في الحج، فللمعايشة الحقيقية أثرها الكبير، وللمعايشة الروحية أثر أكبر في كتابة القصيدة. أما الشعراء العرب الآخرون فإن لديهم أيضاً قصائد كثيرة في مختلف بلدانهم، ومثال لذلك أشير إلى آخر ما أصدرته رابطة الأدب الإسلامي في الشعر، وهو ديوان بعنوان: إسراء لوادٍ غير ذي زرع، للشاعر السوري محمود محمد كلزي، ففضلاً عن العنوان المرتبط بمكةالمكرمة تضمن الديوان قصائد عدة عن الحج ومناسكه ومعايشة الشاعر لروحانياته. ومما يتصل بالموضوع ما كتبه الشعراء المسلمون غير العرب بالموضوع مباشرة، مثل ديوان الشاعر الباكستاني - الهندي محمد إقبال «أرمغان حجاز» أي هدية الحجاز، وديوان «السلام» للشاعر التركي نجيب فاضل الذي خصصه لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الطبيعي أن يتضمن جزءاً مهماً من الديوان عن سيرته في مكةالمكرمة. ولكننا ربما لا نجد أعمالاً خاصة بالمفهوم الفني للقصة والرواية في العصر الحديث عن الحج، وإنما نجدها بقوة في أدب الرحلات الذي يعد أحد الفنون الأدبية المميزة، ولعل كثيراً من الكتابات التي كانت بالإمكان أن تكون قصصياً وروايات انصرفت إلى أدب الرحلات، مثل قصة الأديب الكبير الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - عن رحلته إلى الحج التي استغرقت حوالى خمسين يوماً منطلقة من دمشق، وهو كتاب منشور، في غاية الإمتاع والتشويق بالأسلوب الذي عرف به علي الطنطاوي. وأدب الرحلات قديم معروف، وكتابات الرحالة عن الحج معروفة مثل ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما. وأصدرت رابطة الأدب الإسلامي كتاباً خاصاً للأطفال بعنوان أشهر الرحلات إلى جزيرة العرب، تضمن مقتطفات من عشرة رحالة بدءاً من السرقسطي الأندلسي (ت:302ه) إلى ياقوت الحموي (ت: أوائل القرن السابع الهجري)، وهؤلاء لم تكن وجهتهم في جزيرة العرب إلا إلى الحج في مكةالمكرمة، وزيارة المدينةالمنورة والصلاة في المسجد النبوي والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا نجد أن أدب الرحلات في الأدب العربي القديم إما مرتبط بالحج مباشرة، وإما أن الحج يشكل جزءاً أساسياً منه. وقد أحسنت مجلة «الحج» التي تصدرها وزارة الحج من مكةالمكرمة بعرض كثير من رحلات الأدباء والمفكرين العرب وغير العرب في أعدادها المتعاقبة، بما يستحق أن يجمع في كتاب خاص. ونخلص من كل ما سبق إلى أن الحج حاضر في الأدب القديم والحديث، وفي الشعر والنثر، ولكننا قد نكون بحاجة إلى أدب روائي وقصصي بالمفهوم الفني المعاصر.