ربما يبدو فضح الراهن الثقافي أكثر ما يلفت في رواية «كادرات بصرية» للكاتب المصري محمود الغيطاني، التي تشكل مع روايته السابقة «كائن العزلة»، جدارية لإدانة الممارسات الثقافية بتنويعاتها المختلفة. فإذا كان الكاتب في عمله الروائي الأول «كائن العزلة» دان التجلي الثقافي عبر عيني راويه البطل، راصداً علاقته الحميمة بلينا، فإنه هنا - في «كادرات بصرية» - يستكمل قراءته للواقع الثقافي، عبر صيغة إبداعية، تتوافر فيها شروط الفن الروائي وجمالياته، مسائلاً الواقع السينمائي، ومتخذاً من ذلك الناقد النزيه محوراً للحكاية. وهو يصبح بمثابة البؤرة المركزية التي تتفرع منها الأحداث وتخرج، وفي سبيل ذلك تتعرى أشياء كثيرة، لنجد أنفسنا أمام واقع ثقافي/ سينمائي خرب، ليس بمنفصل عن خراب سياسي صنعته الأنظمة البوليسية وكرست له عبر إفساح الطريق للجهلاء، والخبثاء، والمدلسين. يبني الروائي نصه مستعيناً بآليات السينما ودقائقها، بدءاً من عنوانه الدال «كادرات بصرية» الذي يعد بنية دالة في ذاته، إذ يبدو قادراً على تأدية وظيفة داخل المسار السردي، هذا المسار الذي يحدده الكاتب بعناوين فرعية يقسم بها مقاطعه السردية، مستعيضاً بها عن طريقة الفصول الكلاسيكية. فهو يرصد المشهد/ اللقطة من زاوية مختلفة، تتعدد بتعدد زوايا السرد ذاته، لنجد العناوين تتوزع على المقاطع الآتية (لقطة شاملة Full shot، لقطة اعتراضية insert shot، لقطة من مستوى العين eye-level shot، لقطة تفصيلية Detail shot، لقطة وجهة النظر point of view shot، لقطة مائلة أفقياً، Titre)... وعبرها تتشكل بنية سردية متجانسة ومتناغمة، تلتقط الحدث الواحد عبر أكثر من زاوية، تثبت المشهد أحياناً لترصده في احتمالاته الممكنة كافة. وهذا ما يبدو جلياً في الحدث المركزي الذي تتفرع منه حوادث عدة في الرواية. ثمة ناقد سينمائي نزيه محاط بعدد هائل من العداوات التي لا تثنيه عن اعتبار الناقد قاضياً، تصله دعوة من المركز الكاثوليكي، للمشاركة في مؤتمر حول آليات السوق السينمائية في مصر، وغزو السينما الأميركية. هذا الحدث المركزي يقف أمامه الراوي طويلاً فيقلبه من أكثر من زاوية، ويأتي بالمتصلين به من قريب، أو من بعيد: لميا العشيقة المثقفة/ الصديق الفنان التشكيلي/ رجل النميمة ذو الرأس البيضاوي. شخوص مختلفون يتوزعون على اللقطتين الأوليين (لقطة شاملة/ لقطة اعتراضية)، وصولاً إلى دينا التي تقابله أثناء إلقاء كلمته في المؤتمر. نحن بإزاء راوٍ رئيس مهيمن على زمام الحكي، فتتشكل العلائق بين شخوص النص المختلفين من خلاله، ومن ثم يصبح لانفضاضهم من حوله طعم مر، يكشف عن بنية إخفاق تظلل النص وتهيمن عليه، وفيها نرى الراوي/ البطل يعاني ذلك الاغتراب الذاتي ويشعر فيه بالفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، خصوصاً أن السرد بضمير المتكلم أتاح للراوي أن يعلن وجعه الخاص. وبدا الحكي عبر «الأنا» معبراً أكثر عن طبيعة الحالة النفسية المأزومة للراوي/ البطل. ثمة حضور لشخوص واقعيين في النص، وبما يفضي إلى المساهمة في منح الحدث السردي مزيداً من الواقعية. ثمة تداخلات زمنية في «كادرات بصرية» على طريقة التقطيع السينمائي المتوازي، ومن ذلك المراوحة بين النقاش الخصب مع لميا، والمضاجعة، كما أن هناك نزوعاً إروسياً واضحاً في الرواية يعتبر ملمحاً من ملامح كتابة محمود الغيطاني. واللافت أن الكاتب يوظف تقنية الحلم في المقاطع ذات الصبغة الإروسية. في الرواية توظيف لآليات السيناريو، ومحاولة صنع توصيفات بصرية ضافية من قبيل (مبتسماً/ مأزوماً)، كما توجد ملامح واضحة للراوي الرئيس هنا، يمكن تلمسها في طبيعة نظرته إلى الفن. ويقوم السرد بوظائف متعددة داخل الرواية، ففضلاً عن الوظيفة الخبرية، هناك المنحى التحليلي. تتأكد حالة الإخفاق المشار إليها برحيل الأحبة (لميا/ افتراق العلاقة مع دينا نتيجة للتباين الثقافي العارم/ تدروش الرجل ذي الرأس البيضاوي وخروجه من حياة الراوي/ سفر الفنان التشكيلي «صديق الراوي» إلى لبنان). وتبقى في الرواية إشكاليتان أساسيتان: الأولى تتعلق بكثرة استخدام المفردات الأجنبية بلا مبرر فني أحياناً، وأشير مثلاً إلى جملة What a brave man، والتعاطي مع ما يسمى «الثقافة الأميركية» بصيغة «الحضارة الأميركية».