صرخت البسوس بنت المنقذ صرختها الشهيرة، واذلاه، حينما رأت ناقتها مضرجة بدمها، فنعتتها العرب العاربة والمستعربة حتى يومنا هذا بالشؤم، وسمّتها عجوز السوء، وغضب جساس البكري لخالته البسوس غضبته المضرية فقتل ابن عمه وائل بن ربيعة التغلبي، الملقب بكليب، ملك تغلب وبكر وسائر قبائل ربيعة، لاصداره الأمر بقتل ناقة البسوس، فوصفته العرب، وأيضاً حتى يومنا هذا بالغدر والخسة والطيش والحماقة، وأفاق المهلهل بن ربيعة شقيق كليب من سكره وطلق الخمر وأدمن شرب دماء بني قومه وأبناء عمومته ثأراً لأخيه، فتغزل العرب ولا يزالون بفروسيته وبسالته حتى أضحى اسطورة تغنى سيرته على الربابة ويطرب لها الصغار قبل الكبار. هذا ما استقر في يقيننا، كما استقر في يقين السلف من قبلنا. لو سألنا جميع المتعلمين العرب، والمثقفين منهم أيضاً عن حقيقة هذه القضية لما خرجوا عن مضمون ما تقدم من سطور، إلا فئة أقل من القليلة، على رغم ان العم غوغل وبنقرة واحدة يمكن ان يقدم لهم الحقيقة كاملة غير منقوصة، ويجنبهم خزي التعصب للزير سالم، والتشيع لكليب، والتحامل غير المنصف على جساس، والحقيقة ايها العرب هي ان كليباً كان طاغوتاً ومؤسساً للطغيان والديكتاتورية في عالمنا العربي، والشواهد على ذلك كثيرة، وتستطيعون الرجوع الى تاريخكم فتكفونني مؤونة اضاعة الوقت في سردها، والحقيقة ان عمرو بن مرة بن ذهل البكري، المعروف بلقب جساس، لم يكن فتى أحمق أهوج غادراً وخسيساً، استفزته صرخة خالته البسوس فاغتال ابن عمه وزوج اخته الملك غدراً، وفقط لدوره في مصرع ناقة خالته، ولكنه كان، وفق شهادة التاريخ الحقيقي وليس أساطير التراث الشعبي، فارساً شهماً أبياً يلقب بحامي الجار ومانع الدمار، وأن قتله لكليب لم يكن وليد صدفة قتل الاخير للناقة، وانما هي تداعيات طغيان الملك كليب وتعمده اذلال رعيته ومنهم أهل جساس، الى حد ادخال الطير والوحش والماء والمرعى في حماه ومنعها عنه، والحقيقة أيضاً هي ان عدي بن ربيعة الملقب بالمهلهل، شقيق كليب لم يكن الا سكيراً عربيداً خشي ان يفقد ما كان ينعم به من امتيازات في ظل أخيه الملك، وأن يستأصل المنتفضون على طغيان أخيه شأفة ذريته وأتباعه فأوغل في القتل وسفك الدماء ليطيل أمد الحرب قدر الامكان، ليأسه من ان يجمع القوم على تنصيبه خلفاً لأخيه. والحقيقة الأهم والعبرة المبتغاة من كل ما تقدم هو ان ما جرى قبل أكثر من ألف وخمسمئة عام، من تأليه ونفخ في ذات كليب وتحويله الى طاغية الطغاة كان من صنع شعبه، ولم يكن للدوائر الاستعمارية الامبريالية الغربية فيه دور من قريب او بعيد، وأن البسوس قد صرخت، واذلاه، ولم تصرخ واناتواه، نسبة الى حلف الناتو، وأن جساس ومن ثم كل المنتفضين على طغيان كليب لا يمكن اتهامهم بالتبعية للناتو، او حتى بالانتماء او الاستعانة بتنظيم القاعدة، ومع كل المعطيات التاريخية التي تثبت ان الثورة على الطاغية كليب كانت شعبية عربية خالصة لا مكان فيها على الاطلاق لأية أجندات خارجية، الا ان ذلك كله لم يمنع العرب من ممارسة هوايتهم المفضلة ألا وهي صنع الطغاة والاكتواء بنارهم، ثم البكاء على اطلالهم بعد ان ينالوا ما كانت الامة كلها تتمناه لهم من قتل وزوال ملك، فهل يعي المتباكون على مصرع القذافي هذه الحقائق التاريخية، فيتأكدون ان المعنى الذي في بطونهم مكشوف ومقروء للجميع، وأن تباكيهم على الطاغية المعتوه الذي لم يقدم طوال سني حكمه الاثنتين وأربعين صنيعاً واحداً يحسب له، سواء لمصلحة شعبه، او غيره من الشعوب العربيه والاسلامية، اما ما يحسب عليه فحدث ولا حرج، هذا التباكي على مصرع القذافي ليس لكون حلف الناتو لعب دوراً رئيسياً في دعم الثوار ضده، فحلف الناتو ومعه الغرب وأميركا لو لم يكونوا، قبل انقلاب السحر على الساحر، اصدقاء للقذافي، منتفعين من وجوده لما بقي في الحكم كل هذه السنين، ولكانوا اطاحوه ومن غير حاجة الى ثورة وثوار، وليس لأن بين الثوار الليبين اسلاميين متشددين، فهؤلاء ليبيون أولاً وأخيراً ولم يأتوا من افغانستان او غيرها، ومن حقهم ان يثوروا على الظلم والطغيان سواء أكانو اسلاميين متشددين ام شيوعيين، وليس لأن مجموعة من المقاتلين في صفوف الثورة فوجئت بصيد ثمين غير متوقع يسقط في يدها فلم تدر كيف تتصرف، ولم ترجع الى ميثاق حقوق الانسان وبند معاملة أسرى الحرب، فأساءت معاملة القذافي بعد القبض عليه وتعجلت قتله، ولا أحد يستطيع ان يقول ان هذه المجموعة كانت عناصر منتقاة ومكلفة بمهمة إلقاء القبض على القذافي من جانب المجلس الانتقالي او حتى القادة العسكريين الميدانيين، حتى ينسحب تصرفها المشين على كل الثورة والثوار، لكنها كانت مجرد افراد مسلحين يعلم الله مدى تدني مستواهم التعليمي وحتى التربوي، كان وقوع القذافي في ايديهم مفاجأة شلت تفكيرهم وأفقدتهم القدرة على التصرف السليم المراعي لبروتوكولات جنيف، ووصايا حسن معاملة الأسير. كلا ايها السادة المتباكون على مصرع القذافي، ليس لأي سبب من هذه الأسباب كان تباكيكم، وانما لسذاجة عاطفية موروثة، ولأن المتباكين، كل المتباكين، عرب أدمنوا صنع الطغاة، والاكتواء بنارهم، ومن ثم البكاء على أطلالهم بعد ان ينالوا ما كانوا يتمنونه لهم من قتل وزوال ملك.