بعد عقد من التجريب والتخريب أعلن الوزير الأول أن عهد سياسة الفوضى غير الخلاقة ولّى، وعليه سنبدأ سياسة جديدة هي «الفوضى الخلاقة»، وجاء «بيان 18» - الذي عرف أيضاً بكتاب البهلوانية الخضراء - بتفصيل السياسة الجديدة تفصيلاً بليغاً، وكان أهم ما جاء به ذلك الفصل الذي يتعلق بإعادة تقسيم الإدارة المدنية إلى بهلوانيات، هناك كانت البهلوانية العليا للسكان والبهلوانية العليا للصحة والبهلوانية العليا للبريد والبهلوانية العليا للدفاع... الخ، يترأس كل منها بهلوان يسمى البهلوان الأكبر، وبذلك لم يبق بعدها إلا وزير واحد هو الوزير الأول، وأصبح لقبه طبقاً للنظام الجديد الوزير الأول والأخير. كتبت الصحف في تفسير مفهوم البهلوانية وتبسيطها مقالات مطولة حتى يتمكن العامة من فهم البهلوانية الخضراء، فلماذا تم إطلاق صفة الخضراء عليها؟ ذلك رمزاً للنماء والديمومة والبقاء، ولماذا هي بهلوانية؟ لأنها تتيح للجميع قدراً متساوياً من حرية الحركة، وهي بذلك تتناسب تناسباً طردياً مع الفوضى الخلاقة. ودعماً للبهلوانية التي أصبحت إحدى أهم أصوليات الحياة في دولة حندوقيا العليا، تقرر أن يكون الزي الرسمي لجميع موظفي الإدارات الخدمية المدنية هو الزي البهلواني الموحد، قميص من رقع ملونة وبنطال أزرق وطرطور قصير له زر كروي أحمر في حجم حبة الكرز، أما التمييز بين طرطور كبير وصغير وفق المرتبة الوظيفية، فيكمن في شيئين، أولاً اللقب الذي يبدأ في المصالح الحكومية بالطرطور الكبير وهو ما يساوي في وظائف الدول الأخرى المتخلفة كثيراً عن حندوقيا العظمى (وكيل وزارة) ثم يتدرج في النزول إلى طرطور مهم فطرطور محترم وصولاً إلى طرطور زرزور وهم عادة من الموظفين في الدرجة الدنيا، انتهاء بطراطير بلا زر، وهم السعاة والفراشون. الأمر الآخر اللازم لتمييز طرطور عن طرطور: يافطة اللقب الوظيفي. وهي يافطة توضع على صدر الموظف فتبرز اسمه ولقبه وصفته الوظيفية، مثل: طرطور طراطير إدارة المنح والعطايا في البهلوانية العليا للشرطة. وهي الإدارة المنوطة بجمع الرشاوي السيادية المدفوعة من رجال الأعمال الشرفاء والمواطنين الفقراء، وصرفها في مصارفها الشرعية، مثل إنشاء مدارس للرقص البلدي تحت إشراف بهلوانية تطوير الأداء، ما أدى إلى وصول الأداء الراقص عند بعض رجالات الدولة إلى مستوى غير مسبوق من البراعة والدقة. أما عن النساء، فحدّث ولا حرج، حتى إن البهلوانية العليا للسياحة قررت إقامة مهرجان سنوي عالمي، يمكن من خلاله العالم أن يتعرف ويشاهد ويتعلم مما وصلت إليه حندوقيا العظمى من مستوى في الرقص، هناك كان الرقص على سلالم البهلوانيات الحكومية عند رؤية الطلعة البهية للطرطور الكبير، أو الرقص التشقلبي أمام موكب الوزير الأول مصحوباً بموسيقى صاخبة أو غناء غانج. * في مقهى واحة المشتاق، ناقش الجلوس بيان 18، وتناولوا مفهوم البهلوانية الخضراء بالشرح والدرس والتحليل، سخر كارم أبو قليطة من كون البهلوانية خضراء، وقال بالحرف الواحد: - البهلوانية الخضراء كالبطيخة النيئة خضراء من الخارج بيضاء من الداخل. اختفى كارم من الحياة فور خروجه من المقهي شهوراً، تهامس خلالها جلوس المقهى: - لقد أخذ إلى القسم الخاص بالحالات الشاذة لإعادة ضبط الايقاع التوافقي لديه. لم يكن كارم مجرد شخص عادي يسهل ضبط ايقاعه التوافقي في يوم وليلة مثل حالات أخرى كثيرة لا يستغرق أمر ضبطها سوى جلسة واحدة - يعني صفعة أو صفعتين - بعدها يهتف باسم حندوق العظيم وأفضاله الكثيرة، فيخرجونه سليماً معافى مع التوصية والتشديد عليه بالعودة الاختيارية متى وجد عيباً توافقياً في أدائه اليومي. لكن الأمر حيّر الخبراء الأكاديميين، جربت الصفعات مع كارم، فلم تزده سوى إصرار على إصرار. كان يهتف تحت وقع الضربات بالعصى على جسده النحيل: - البهلوانية الحقيرة الفقيرة المنحطة ستنتهي بالبلاد إلى كارثة حقيقية، يا أولاد ... انتهى الخبراء إلى قبول رأي سعيد العقدة باستئصال الفص المخي المسؤول عن التمرد والثورة. وعندما نجحت التجربة والجراحة المخية، نشر (العقدة) مبحثه الرائع في كبريات الدوريات العلمية المختصة بضبط الايقاعات التوافقية، ذلك ما حدا بجامعة حندوق الأول إلى منح سعيد العقدة درجة الأستاذية. * بعد شهور، عندما أعيد كارم إلى مقهى (واحة المشتاق) شخصاً جديداً، كان يجلس مثبتاً عينيه في الفراغ ومشيراً بإصبع سبابته كالمعلم وهو يردد طوال النهار عبارة واحدة: - البهلوانية الخضراء هي الأمل، البهلوانية الخضراء هي العمل، البهلوانية الخضراء حق وواجب وشرف. بينما كان المذياع يبث أغاني وأناشيد وطنية: - يا عم بلدي وحبايبي والبهلوانيات/إنس يا أخ الأسى سيبك من اللي فات. نعم كان على الفن أن يواكب الحياة الجديدة السعيدة الشجاعة التي انتهت إليها حندوقيا العليا، لذا كتب عميد آداب حندوقيا (سعيد البسيط) مصنفه النظري الضخم (بهلوانيتنا والفن) ليشرح فيه طبيعة هذا التداخل المحتوم بين الفن والبهلوانية، الذي نقرأ منه هنا ذلك الاقتباس البديع الذي ذيّل أغلفة الأجزاء الأربعة الضخمة للمصنف: «ما الفن سوى انعكاس لمفاهيم البهلوانية، وعندما يولد الانسان، يولد عارياً حراً إلا من نزوع غريزي خفي نحو البهلوانية متمثلاً في الحبو على أربع، وعندما يخطو خطواته الأولى في درب البهلوانية المضيء، يجب أن ندعم بالفن خطواته ليتشكل داخله البهلوان المنتمي القادر على استشراف آفاق بعيدة بالغوص إلى أغوار عميقة أو الحفر بحثاً عن المفاهيم الدفينة للبهللة الكامنة في أناشيد الطفولة، مثل :- «بهاليلو يا بهاليلو/ نادي على أمه تجيّلو. وإن رحت تجيب م السوق برقوق/ ما تبصش فوق وأنت بتدوق/ ليقولوا عليه برقوق مسروق/ والحق عليك تطلع محقوق/ بهاليلو يا بهاليلو/ نادي على أمه تجيلو». عندها فقط سينبت الانتماء البهلواني ويتجذر، ومتى دعمنا هذا بتوحيد الزي، خطونا خطوة، بل هي قفزة بهلوانية رائعة، لأنه بدلالة الزي سيصبح جميع المواطنين فنانين. بينما أوضح الدكتور سعيد العقدة (خصم سعيد البسيط اللدود)، وهو كبير علماء النفس أن البهلوانية ليست مجرد زي خارجي، البهلوانية الحقة منظومة متكاملة ذات مبنى نفسي عقلي عصبي متغلغل، تأخذ تبديات لا شعورية صاعدة نازلة، تجعل الانسان بهلولاً بمقدار ما ينتمي ويؤمن بفكر الزعامة الملهمة، التي تقود حركة التاريخ من مرحلة ما قبل الحندوقية، حيث التعاسة قدر محتوم يمسك بروح الانسان، إلى مرحلة الفوضى غير الخلاقة، صعوداً إلى مرحلة الفوضى الخلاقة، وصولاً إلى البهلوانية؛ أعلى مراحل التوحد البهلواني المطلق. هكذا كانت تتم تربية المواطنين على قيم البهلوانية الحقة، وكم من مرة كان يمكن زوار حندوقيا أن يروا مواطنين يجلسون بثيابهم الشعبية الجديدة على الأرصفة يقرأون في صمت وسعادة، وعيونهم ممتلئة بدموع الفرح، إصدارات بهلوانية الاستعلامات، مثل «بوقاحة» للوزير الأول، أو «نحو بهلوان جديد» للزعيم الأشوس.