دائرة لعبة الشطرنج الكبرى في الشرق الأوسط بدأت تتشكل بصورة واضحة في اتفاق نموذجي الفوضى لكل من واشنطن واسرائيل واشاعتها في بلدان الشرق الأوسط بمسمين مختلفين ولكنهما متفقان في الهدف .. وهو نشر الفوضى في بلدان الشرق الأوسط.. الامريكي بمسمى (الفوضى الخلاقة) والاسرائيلي عنوانه (الفوضى البناءة للسلام). اذن لنكتب التاريخ.. او يعيد قراءته.. فالدروس التاريخية التي نستلهمها منه هي انه قرر اعلان قيام الدولة العبرية عام (1948م) كان الوقوف الامريكي قوياً نتيجة حملة الضغط الاعلامي التي وقف اللوبي الصهيوني وراءها من اجل تعميق عقدة الاحساس بالذنب تجاه ما جرى لليهود على يد هتلر ليس فقط على مستوى رجل الشارع الامريكي وانما ايضاً داخل كل مستويات السلطة الرسمية في الخارجية الأمريكية والبنتاجون والمخابرات المركزية والكونجرس بمجلسيه. وأكبر دليل على صحة هذا الاجتهاد هو أن أول خيط يكشف ان المفهوم الامريكي (الفوضى الخلاقة) والمفهوم الاسرائيلي (الفوضى البناءة للسلام) هما وجهان لعملة واحدة، وأن هذه العلاقة الأمريكية والاسرائيلية لمفهوم (الفوضى) ظهرت ملامحها الأولى يوم (14) مايو عام (1948م) عندما وقف (ديفيد بن جوريون) وسط حشد من القيادات اليهودية في متحف تل ابيب لكي يعلن للعالم قيام دولة اسرائيل بينما في اللحظة ذاتها يدخل ممثل الوكالة اليهودية في واشنطن الى البيت الأبيض حاملاً التماساً رسمياً للاعتراف الامريكي بالدولة اليهودية. فهل لأحد بعد مرور ما يزيد على (61) عاماً على قيام دولة اسرائيل تحت مظلة الخصوصية الفريدة في علاقتها مع أمريكا أن يرى التوافق بين المفهومين للفوضي الامريكي والاسرائيلي وانهما وجهان لعملة واحدة هو نشر الفوضى باشكالها وأنواعها في ربوع العالم العربي. أعتقد ان سجل العلاقات الامريكية والاسرائيلية سواء في شقه العلني او في دروبه الخفية لا يسمح لأحد بالصدمة أو الدهشة بأن المفهومين هدفهما واحد هو حماية أمن اسرائيل بكل المشاريع حتى ولو كان بالتسويق لفكرة الفوضى المدمرة لشعوب العالم العربي. لذلك ومن هذا المنطلق نجد أن ادارة بوش الابن يعكسها ويلمعها (ديك تشيني) و(كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية قد اهتدت بالأفكار والسياسات والاستراتيجية الاسرائيلية، فقد تبنت ما كانت تردده اسرائيل منذ انشائها بتحقيق (الفوضى البناءة للسلام) من أن العالم العربي يجب ان تنتشر فيه (الفوضى البناءة للسلام) من أجل تحقيق السلام بين اسرائيل والدول العربية المبني على مبدأ الديموقراطية. من يراجع سياسة بوش الابن نجد أن نائبه (ديك تشيني) ووزيرة خارجيته (كونداليزا رايس) قد سارا على الطريق نفسه ورجعا الى دراسة المفهوم الاسرائيلي (الفوضي البناءة للسلام) الذي رسمه بن جوريون والخروج بمفهوم يحمل (الفوضى الخلاقة) مؤكدين ومرددين أن الدول الديموقراطية لا تعيش الحروب ضد الدول الديموقراطية الاخرى ويقصدون بذلك اسرائيل. وعندما اعلنت (كونداليزا رايس) بتصريحاتها عن (الفوضى الخلاقة) والتي تعنى بها التدخل في الدول لاحداث هزة عنيفة تؤدي الى خلخلة نظمها واتاحة الفرصة لظهور قوى سياسية جديدة تطبق الديموقراطية، فانها انما تتبنى افكاراً قديمة طرحتها اسرائيل من أجل تفتيت العالم العربي بتفجير الخلافات الطائفية والاختلافات العرقية والمذهبية في الدول العربية. من يراجع مسيرة (الفوضى الخلاقة) الامريكية للنكهة سيجد نفس النكهة الاسرائيلية التي رسمها بن جوريون.. وفي هذا الاطار ان العراق قررت واشنطن تقسيمه الى ثلاث دول او اكثر حول المدن المهمة، كالبصره وبغداد، والموصل، وتنفصل المناطق الشيعية في الجنوب عن المناطق السنية والكردية في الشمال. لذلك يمكن القول ان (الفوضى الخلاقة) الامريكية قد ترجمت (للفوضى البناءة للسلام) الاسرائيلية بحذافيرها فتم تشتيت العرب على درجة عالية لان ذلك من الأهمية لاسرائيل من حيث استراتيجيتها والا فان عشنا كما ترى اسرائيل داخل اي حدود يصبح امراً غير ممكن. ولعل ما يدعوني الى تأكيد هذه الحقيقة أن الدراسات الاسرائيلية والقارىء لها سيصل الى فكرها القابع في دوائر العسكرية والسياسية تؤكد ان ما ذهبت اليه واشنطن في تنفيذ (الفوضى الخلاقة) يسير في خطها لان تفتيت الدول العربية الي دويلات صغيرة هي الفكرة التي تشغل بالها منذ انشائها عام (1947م) بل انها احدي نقاط اسرائيل الاستراتيجية التي تفكر فيها دائماً وتشكر واشنطن على تحقيقها لحماية وجودها، فهي ترى أن تفتيت العراق مثلاً وتقسيمه الى دويلات صغيرة كدولة شيعية ودولة سنية، اضافة الى انفصال الاكراد تعتبر من الاهداف المقدسة والقديمة لاسرائيل. ولقد اعجب النموذج الاسرائيلي للفوضى البناءة للسلام في ربوع الشرق الأوسط قد حاز اعجاب المحافظين الامريكية الجدد ونفذته واشنطن والاحداث الجارية من عدم استقرار وانعدام الامن دليل على ذلك. ولاشك في ان كل من يتابع اوضاع المنطقة سيصل الى النتيجة التالية ان النموذج الامريكي قد حقق اهداف اسرائيل واحاطتها بدويلات اول دول مقسمة بما يكفل لها الامن بل السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، كما يدل على مدى تأثر واشنطن بالاستراتيجية الاسرائيلية بشأن تفتيت العالم العربي. وبعد ذلك فإن الاوضاع المأساوية التي يمر بها العالم العربي في الوقت الحاضر تدعونا جميعاً بالرجوع الى منهج الاسلام في السلام لكي تجابه نظرية (الفوضى الخلاقة أو الفوضى البناءة للسلام) فقد روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلم عليهم ما سلم علينا الا ليتعوذ بنا يعني يتقي شرنا فعمدوا اليه فقتلوه واتوا بغنمه للنبي صلى الله عليه وسلم فتلى قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمناً). فوجه الدلالة ان الله يحذر المؤمنين من الوقوع في الخطأ فيقتلوا من القى السلام وهو شعار الاسلام حتى ولو كان من يقوله بقصد التقية، وفيما رواه احمد والبخاري (والله لا تدعوني قريش الى خطة يعظمون فيها حرمات الله الا أعطيتهم اياها). وهنا يتحتم علينا ان نواجه هذه الافكار المسمومة المفتتة بما التزم السلف الصلاح بمنهج القرآن والسنة لمواجهة التحديات الراهنة والتي هزت الأمة العربية هزة عنيفة. اريد أن أقول بوضوح ان السلام في الشرق الأوسط ليس بتنفيذ مفاهيم الفوضى المحرقة والمدمرة التي تدعو اليها واشنطن واسرائيل فهما وجهان لعملة واحدة تهدف الى تهديد الأمن والاستقرار بل والسلام في ربوع المنطقة ولمواجهة ذلك فإن النصوص الاسلامية تبين مدى اهتمام الشريعة الاسلامية بالتسوية السلمية للمنازعات الدولية، وقد بالغ حرصها في هذا الشأن ان فرضته فرضاً وجعلته امراً واجباً متى جنح العدو اليه، وعلى واشنطن واسرائيل ان تعيدا حساباتهما جيداً وتوقف دعمهما للفوضى بكل أنواعها ونماذجها احتراماً لحقوق شعوب المنطقة.