الموت لا يقترب منّا لأننا أكبر، ولا يبتعد عنّا لأننا أصغر، الموت موجود بيننا، تكرّرت زياراته حتى ألفنا علاماته، ولكننا لم نألفه ولا أظننا سنفعل، فمن يحب، لا يقوى أن يُفارق، ولا أن يُهزم، والموت يأتي فيفرِّق ويهّزم ولا يشفع له عندنا سوى أنها إرادة الله ومشيئته، فما بالنا وهذا علمنا بالمقادير نتألم أكثر! أكلما كبرنا صار الألم أكبر؟ أظنه كذلك، بل وهو أبطأ انسحاباً، فلا يرحل ألم حتى يباغتك ألم، وهذا قدر الإنسان، فالألم شرط الحياة، وقدر المعمِّر فيها أن يتألم، وقدر الواعي لها أن يتألم مرتين، مرة لألمه، وأخرى لوعيه بألمه، أمّا قدر الواعي والحساس معاً، فأن يتألم ثلاث مرات، واحدة لألمه، وثانية لوعيه، وثالثة لذكرياته، وهكذا، تتراكم الأعوام على الإنسان فيمشي ويسحبها وراءه، وكلما ثقلت كلما كان السحب أصعب وأبطأ كما انسحاب الألم، ولأن الحنين ينمو مع الوقت، ولأن التفاتة إلى الخلف لا تعني أكثر من سلام العابر إلى العابر، فإذا الحياة جُلّها لو تأملتها ليست أكثر من عابر يحيي عابراً، أو «عابر حياة» كزاوية المقالة، ولكن هناك عابر «حياة»، وآخر عابر «الحياة»، فحياة بالنكرة، وحياة بالمعرفة أيضاً، فليس كل حياة نافقة، وأعوامنا التي تغادرنا ولم نحتفظ بها في مكان عزيز كأشيائنا العتيقة، لم تجف كأنها لم تُغن بالأمس، وإلاّ كنا نسينا الملك عبدالعزيز آل سعود الذي تعيدنا إليه المناسبات، وتاريخ السنوات ومقارنات أقوال الرجالات ومواقفهم، فإن كانت ذكرى تعيدنا إلى المؤسِّس ولا تعيده إلينا، إنما هي حاضرة وباقية ما بقي العاقل والمؤرِّخ والسياسي والمثقف والوطني السعودي، وبقدر ما هو عصي علينا فراق سلطان بن عبدالعزيز إلاّ أنه باقٍ وإن غادر، باقٍ لأن حياته بأل التعريف، فهو قد عبر ولكن الحياة، هو «عابر الحياة». وهذه هي أعظم تجارب الإنسان وتتجلى فيها الوحدانية والفردانية، فنحن وجهاً لوجه مع القضاء والقدر حين نولد وحين نموت وحتى حين نحب، فأنت في الحب لا تختار من تحب، أمّا في الموت فالدور الأكثر تعاسة ليس من نصيب من رحل ولا عاد معنياً بشيء من أمور الدنيا، ولكنه من حظ وقَدَر من سيتقاسم الدور من بعده ومن سيرى الأشياء من بعد رحيله، فكم مؤلم إغلاق العينين على مشهد الفقدان! وكم هي موجعة ساعات الصباح الأولى حين يفتح المحب عينيه ويتذكر فجيعته بمن فقد! فكيف تنجو من وجع الموقف؟ بالوقت وبما توطِّد نفسك عليه مع الأيام، ولا أعلم أيهما أقسى!! ما يتركه لك الموت بعد رحيل من تحب؟ أم ما يتركه لك الحب بعد رحيله عنك؟ كلما توقعنا إننا نعي حقيقة الأجل المحتوم، غير أننا مع كل موت وكأننا أمام الموقف نفسه، ولا أظن القوم الذين اجتمعوا في جامع الإمام تركي بن عبدالله وفي مقبرة العود لوداع الفقيد الكبير بالصلاة عليه وحمل جثمانه، لا أظن وجع ملامحهم البادي وتأثر وجوههم الحزينة على من فقدوا إلاّ بسبب كل ما كان عليه الذي فقدوا، أما الثناء على امرئ كان ذا منصب ومال، فلا ينبغي أن يكون إن لم يكن الرجل أهلاً للثناء بغير منصب ومال، فمنطق الإنصاف أن يكون الرجل مستحقاً وأن يكون الحب لذاته لا طمعاً بجاهه ولا بحلاله، ولكن ليس بعد الموت طمع، إنما هو الإنصاف لما كان يتمتع به الرجل بشهادة فضائله ومزاياه ومشوار عطائه الوطني والإنساني، ثم، وبحقه علينا، فإذا على الحكم، فقد رأينا ما تفعل المناصب بأهلها، وإذا على الكرم، فقد شهدنا تقاتل أصحاب الملايين على كُثر ما كنزوا، وإذا على القدرة، فقد عاصرنا عبث العابثين بها، ولا أرى مبرّراً لدموع الرجال السخية التي حرقت عيونهم وكوت قلوبهم على فراق سلطان بالرغم من علمهم المسبق بمرضه الشديد واستعدادهم النفسي لوقع رحيله، لا أجد تحليلاً لمظاهر الحب الخصبة تلك إلاّ أن الرجل كان يستحق كل هذا الحب وبحق، ولأن لا شيء يفوق الحب الكبير إلاّ الوفاء له، فإليك سلامنا يا سلطان السلام وليقرئك السلام صاحب الوديعة... من بيده السلام. [email protected]