ما زلت مؤمناً بأن رياح التغيير لا تهب إلا من فوق لا من الأسفل. منذ أيام الملك عبدالعزيز، والتغييرات الكبرى التي طاولت المجتمع السعودي، وأخرجته من سرداب التخلف والعزلة عن العالم إلى فضاء الانفتاح والاندماج بالعالم، لا تأتي إلا من فوق لا من الأسفل. وحدها فقط هي الإرادة السياسية الواعية من تختصر أزمنة الانتظار الطويلة، وتحيل المستحيل إلى ممكن، وتقلب كلمة لا إلى كلمة نعم. قلت ذات مرة: إن المجتمع لا يملك الشجاعة على التغيير. ما السبب يا ترى؟ إنه برأيي: التشدد الديني والتعنت القبلي. ما يجمع هذا بذاك هو الرغبة في الحفاظ على التقاليد من الاندثار والتوجس من صدمة التغيير والتبديل. قد يقول قائل: مهلك! مجتمعنا ما زال عوده طرياً بعد، ويحتاج إلى عقود من أجل أن يكتمل نموه ويتحرر من خوفه وقيوده. أما أنا فأقول: لم تعد العقلية السلحفائية صالحة في زمن التحولات الصاخبة والتغيرات المتسارعة. ثم، تعال وانظر إلى دويلات ميكروسكوبية لم تبصر النور إلا أخيراً، وها هي تشق طريقها نحو آفاق المستقبل بخطى واثقة وبآمال واثبة. ألا يشعر السعودي بالغيرة من أخيه الإماراتي؟ ألا يغبط السعودي أخيه القطري؟ لو كانت فرائص أشقائنا ترتعد كلما لاح في الأفق جديد لما صارت ديارهم مهبط القلوب ومرسى الأحلام. لدى مجتمعنا عامة، ومتدينيه خاصة، قلق دائم وخوف أزلي من الجديد. الرفض الصارم والتحريم القاطع ما هما إلا ردود فعل آلية وآنية ما زالت تتوالد منذ أزمنة. يسد المتدين الباب بظهره ويشمّعه بفتاواه، ثم يلتفت إلى المحبوسين بالداخل ليقول لهم مخوفاً ومتوعداً: احذروا! هناك وحش بالخارج يريد أن يلتهمكم. لم يكن هذا الوحش يقيم في الخارج، بل كان يقيم في رؤوسنا ويستوطن خيالاتنا. كان الأسلاف زمن الملك عبدالعزيز يرفضون أجهزة اللاسلكي ظناً أن الشياطين هي من تحمل الرسائل. وفي زمن الملك فيصل قالوا إن تعليم البنت مفسدة كبرى وكارثة عظمى. وعقبهم آخرون حلفوا بأن اللواقط الهوائية سترضع من أثداء الرذيلة المعلقة في الفضاء لتصبها في بيوتنا الآمنة والساكنة. واليوم يقولون إن المرأة متى قادت السيارة فستثب الذئاب البشرية عليها وإن من يدرس في بلاد الغرب سيعود إلينا بفكر تغريبي وبهوية متشظية. هل حلت بنا الكوارث كما حذرونا؟ وهل سادت بيننا الفوضى كما هددونا؟ وهل أمطرتنا السماء بالحجارة كما خوفونا؟ لا أذكر شيئاً من هذا. والعجب كل العجب أنك تجد من كان يحرم على الناس شيئاً بالأمس هو من يزاحمهم عليه اليوم! فمن كان يقول إن اللاسلكي مسكون بالشياطين تراه اليوم يستخدمه في اتصالاته وتنقلاته. ومن كان يقول إن تعليم الفتاة هتك لحجابها وتخريب لأخلاقها تراه اليوم يقاتل من أجل مقعد لابنته في المدرسة. ومن كان يقول إن «الدش» حرام تراه اليوم يقفز بالريموت من قناة إلى قناة! وعلى رغم بطلان الأوهام وانتفاء المخاوف في كل مرة إلا أن ذهنية التحريم مازالت تعيد إنتاج نفسها وكأنها تأبى الاستفادة من دروس الماضي والحاضر. والملاحظ أن ذهنية التحريم الاستباقية تغدو أكثر شِطة وأشد صخباً إذا ما تعلق الأمر بتمكين المرأة والإيفاء ببعض حقوقها التي كفلتها العدالة الإلهية. لا شك أن المرأة هي أكثر الفئات المجتمعية تعرضاً لقهر تلك الذهنية والتي لم تتخل يوماً عن التضييق عليها في لباسها ومعاشها وحركتها. إن التشديد على المرأة لا يعكس في جوهره روح التعاليم الدينية بقدر ما يعبر عن عقدة ذكورية ضاغطة تصر على اختزال المرأة في مشروع فتنة وإغواء شيطاني. ومما يؤكد ما ذكرته سلفاً عن وعي السلطة السياسية وتطلعاتها التحديثية ما أعلن عنه الملك عبدالله بن عبدالعزيز مشكوراً من منح المرأة الحق في الترشيح وعضوية كل من المجلس البلدي ومجلس الشورى. ولو أن القيادة العليا تركت المسألة للمجتمع ليفصل فيها، فلن تنال المرأة هذا الشرف مهما طال بها الزمن. وبدلاً من الحديث عن غد طال انتظاره تتشارك فيه المرأة مع الرجل في رسم ملامح الحلم، انطلقوا يتحدثون منذ الآن عن ضوابط شرعية تخفي وجه المرأة وتمنعها من الاختلاط بالرجل الذئب. إذا كنا سنشكك في سلوكيات ونوايا صفوة المجتمع، فلست أجد ما أقول غير: تباً لمجتمع لا يفكر إلا بما تحت سرته! [email protected]