تتأكد هيبة الدولة بمقدار نجاحها في توفير بعض المعايير السيادية كالنفوذ الخارجي بحسن إدارة علاقاتها مع الدول الأخرى، وكالعدالة بضمان المساواة أمام القانون وصولاً الى رد المظالم وإحقاق الحقوق لأصحابها، وكتحقيق الأمن والطمأنينة لمواطنيها بفرض الانضباط وردع الجناة والجانحين عن إيذاء الآخرين بالترويع أو بالخديعة. وتوفر المعايير المذكورة شعوراً عاماً باحترام الدولة يؤدي إلى التجاوب مع مصالحها والالتزام الطوعي بتعليماتها، الأمر الذي يكفل الحد الأدنى من الاستقرار. وعلى رغم ما قد ينطوي عليه الاستقرار من اختلالات تتعلق بالتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية، إلا أن مجرد الحفاظ عليه بنائياً وتنظيمياً ينعكس بشكل إيجابي على المجتمع بل على الوطن كله في الظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر، خصوصاً أن ما هو مرئي من سيناريوات بديلة للتغيير يحمل الكثير من الشرور المتدلية كالأفاعي من معاطف دول أجنبية طامعة وقوى تكفيرية ظلامية وعشوائيات شعبوية عبثية، ومن المحتم أنها جميعاً ستدفع الوطن بمكوناته من دولة ومجتمع وأرض عبر منعرجات مختلفة إلى الوقوع في الفوضى، التي أصابت عدداً غير محدود من بلدان الجوار العربي والأفريقي والإسلامي. وتسعى الدولة المصرية الى تأكيد هيبتها عبر أجهزة سيادية، من بينها جهاز الشرطة الذي تلزمه المادة رقم 184 من الدستور بواجب السهر على حفظ النظام والأمن العام والآداب لتحقيق الطمأنينة والأمان للمواطنين، إلا أن جهاز الشرطة المصري يؤدي واجبه الدستوري وسط أجواء ميدانية وظروف موضوعية شديدة الصعوبة تشمل معطيات مثيرة للفزع، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: أولاً: يتم إبلاغ الشرطة سنوياً عن عشرين ألف جناية وجنحة وعشرات الآلاف من المخالفات ونزاعات الأحوال الشخصية والمدنية والإدارية، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الجرائم المتنوعة التي لا يتم الإبلاغ عنها أصلاً سواء لجهل المجنيّ عليهم، أو لخوفهم من الفضيحة، أو لخشيتهم من الإبلاغ بسبب مشاركتهم في المسؤولية عن الجريمة ذاتها وربما عن جرائم أخرى سابقة، أو لسعيهم إلى القصاص من الجناة عبر المجالس العرفية أو الثأر. ثانياً: هناك مئة ألف شخص مطلقو السراح في الشوارع المصرية من فئة"مسجل خطر"سبق أن صدرت عليهم أحكام متعددة، لارتكابهم جرائم متكررة من نوع القتل العمد والشروع في قتل والقتل ضرباً وإحداث عاهة مستديمة والخطف والاغتصاب والسرقة بالإكراه وتجارة المخدرات وتشكيل عصابات للجريمة المنظمة، إلى جانب ملايين من المصابين بأمراض عقلية يهيمون على وجوههم في الشوارع المصرية بعد أن طردتهم المصحات المخصصة لإيوائهم، وهؤلاء يمكن أن يدفعهم المرض العقلي في أي لحظة الى ارتكاب أنواع غير تقليدية من الجرائم ولا يعاقبون استناداً الى ظروفهم المرضية!!! وإذا كان أداء الواجب الدستوري في هذه الظروف الشديدة الصعوبة يتطلب من جهاز الشرطة الحرص على اتخاذ القرارات الأسلم في التوقيت الأسرع وهو ما لا يمكن إتمامه من دون توافر المعلومات الجنائية الصحيحة، فإن أهمية المباحث العامة تبرز باعتبارها القطاع المسؤول عن جمع وتحصيل هذا النوع من المعلومات ثم فرزه وتوثيقه ثم دراسته وتحليله لكشف غموض الجرائم المتعددة وحل ألغازها، للوصول إلى الاستنتاجات المحتملة ثم التوصية بالمقترحات الإجرائية المتاحة وعرض ذلك كله على جهات الاختصاص في أسرع وقت ممكن لاتخاذ القرار الأنسب. وإذا كانت المعلومات الصحيحة المطلوبة ذات طابع جنائي مرتبط بالجرائم، فإن المصدر الأساسي للحصول عليها هم المجرمون أنفسهم أعداء المجتمع، مما يعني حتمية امتناعهم عن تقديم المعلومات الصحيحة في شكل طوعي. وبالنظر إلى الضغط الشديد الذي يشكله عنصر الوقت للحصول على المعلومات الجنائية التي تتراجع أهميتها كلما تأخر تحصيلها، وبالنظر إلى الضغوط التي يواجهها ضباط المباحث العامة لسرعة إنجاز مهماتهم سواء من قياداتهم في جهاز الشرطة أو قيادات أجهزة الدولة الأخرى ذات الصلة أو سواء من قبل المجني عليهم أنفسهم، الذين يتسم سلوكهم باللهفة لاسترداد حقوقهم ولمعاقبة الجناة، فإن بعض ضباط المباحث العامة يضطرون الى انتزاع المعلومات الجنائية المطلوبة بالضغط على المجرمين المفترضين، وفي هذه الحالة يمكن أن يقع الضابط في خطأ مهني غير مقبول بتوسيعه دائرة الاشتباه بحيث تشمل بعض الأبرياء مع الإفراط في الضغط. وهنا يجب على هذا الضابط أن يواجه ويتحمل المسؤولية الكاملة عما ارتكبه والذي يمكن وصفه حرفياً بأنه"خطأ مهني جسيم يستوجب العقاب"، وليس جريمة تعذيب متعمدة ضد البشرية بقصد انتهاك حقوق الإنسان كما يدعي أعداء الشرطة الذين يخلطون عمداً بين التوصيفات القانونية للاتهامات بهدف تحريض القضاء واستعدائه أملاً في تشديد العقوبات الى أكثر مما يستوجب الفعل الأصلي، وفي السياق نفسه فإن"تجمع أعداء الشرطة"يسعى الى تحريض واستعداء القوى السياسية لا سيما المعارضة منها بخلطه العمد بين المباحث العامة كقطاع مسؤول عن حماية المجتمع وبين قطاع شرطة آخر مسؤول عن أمن الدولة، هو"مباحث أمن الدولة"الذي يعمل في إطار مختلف تماماً. والمراقب الموضوعي لدفتر أحوال الوطن يدرك بوضوح أن نسبة الأخطاء المهنية الجسيمة التي يرتكبها جهاز الشرطة لا تزيد عن مثيلاتها في الأجهزة السيادية الأخرى والجهاز الإداري للدولة، وعن تلك التي يتم ارتكابها في مجالات الطب والهندسة والزراعة والتعليم والمحاماة والمحاسبة والفنون والصحافة وغيرها. مع ملاحظة أن الصحف المصرية التي نشرت حملات مكثفة ضد بعض الضباط الذين عوقبوا قضائياً لارتكابهم أخطاء مهنية، هي نفسها التي تتباكى على معاقبة القضاء بعض الصحافيين على أخطاء مهنية ارتكبوها، فيما يمكن اعتباره نموذجاً للكيل بمكيالين. ويدرك المراقب الموضوعي لأحوال مصر أن اتساع نطاق الأخطاء المهنية الجسيمة في المؤسسات بما فيها الشرطة والصحافة والذي هو أحد أوجه سوء أداء الإدارة المصرية المعاصرة، يكشف في أعماقه عن ظاهرة شديدة الخطورة بتداعياتها السلبية المحتملة على الوطن كله، وهي ظاهرة تشوه النخب بأيدي الطفيلية التي اخترقت المؤسسات وتسلقتها حتى سيطرت عليها، ثم أطاحت الموهوبين ذوي الأداء المتميز باعتبارهم من"المشاغبين الأعداء"وأحلت محلهم"البدلاء الأتباع"، الذين يتسمون بالطاعة العمياء ويقبلون دفع الإتاوات المفروضة لعبور المراحل الوظيفية المتعددة، ابتداءً من دخول الكليات المؤهلة للوظائف المميزة كالشرطة والصحافة، مروراً بدرجات الصعود على السلم الوظيفي وصولاً إلى قمته التي هي بدورها تؤهل للقفز إلى قمم أخرى أكثر تميزاً وأغلى مهراً !!! ولما كان أولئك"البدلاء"الذين يحتلون ما لا يستحقونه من مواقع يفتقرون إلى الحد الأدنى لحسن الأداء، وكان من الحتمي أن تصاب الدولة المصرية المعاصرة على أيديهم بأمراض مستعصية تشمل الاتساع المشين لنطاق الأخطاء المهنية. * كاتب مصري.