من بين عشرات التطورات الأقليمية والدولية المتجددة يجد الكاتب نفسه مشدوداً غالباً الى الحدث الأكثر إلحاحاً. لكن في أوقات الضيق والظلام والتراجع وافتقاد العزيمة ربما يجد المرء نفسه مشدوداً أكثر الى الحدث الأكثر إلهاماً. حدث ليس في الأخبار الجارية ولا هو قريب منها وان كان في مغزاها. حدث لا نخترعه من العدم وانما تحقق فعلا ذات يوم وذات جيل وذات رؤية. حدث كان فيه مهزوماً ومنتصراً ومع ذلك فالمنتصر انفصل عن مغزاه بينما المهزوم هو الذي يستعيده مرة بعد مرة ويقلب أوراقه من دون كلل ويستخرج منها العظات لنفسه ولأبنائه وكأن الخلاصة هنا هي أن المهزوم دائماً ذاكرته أكثر حدة من المنتصر. الحدث هو قيام مصر بتأميم شركة قناة السويس في 26 /7/1956 والمناسبة هي مرور نصف قرن عليه في هذا الشهر. حدث توقفت مصر الراهنة نفسها عن تذكره منذ سنوات طويلة مضت ربما لأن سياساتها التالية ابتعدت كثيراً عن روحه ومغزاه. مع ذلك فلم يحدث أن تابعت الأعلام البريطاني مثلاً - المقروء والمسموع والمرئي - خلال العشرين سنة الأخيرة إلا ووجدت نفسي أمام اعادة دراسة للحدث وتحليل لمكوناته واستخلاص لعبره. أحياناً هي كتب أو وثائق جديدة. أحيانا مذكرات لم يسبق نشرها أو أسرار يجري كشفها بأثر رجعي، أو حلقات تلفزيونية بعنوان"نهاية امبراطورية"باعتبار أن هزيمة التدخل البريطاني المسلح في بورسعيد - مع فرنسا - كان هو المسمار الأخير في نعش الأمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس. في هذه المرة هي كتابات تحليلية بريطانية وآخرها بقلم ريتشارد نورتون تايلور في جريدة"الغارديان"البريطانية. بالموازاة نجد في الجانب المصري تذبذباً متصاعداً وصل في بعض الفترات الى دعوات بائسة لأعادة تمثال فرديناند دي ليسبس صاحب فكرة قناة السويس الى قاعدته السابقة في المدخل الشمالي للقناة ببورسعيد كرد اعتبار له بعد أن أزيل التمثال كنتيجة جانبية للغزو الثلاثي لمصر في 1956. شهدنا أيضا دعوات أكثر بؤساً وجهلاً وتبجحاً - في مصر - تزعم أن تأميم قناة السويس كان عملاَ متهوراَ من أساسه لأن القناة كانت ستعود الى مصر تلقائيا مع انتهاء عقد الأمتياز في سنة 1969 بينما التأميم انتهي بهزيمة لمصر لم ينقذها منها سوى تدخل من الولاياتالمتحدة... الخ. في المشهد هنا تصفية حسايات سياسية مرة واصرار على تلويث النقاط المضيئة في الذاكرة الوطنية مرات. فمن في قلوبهم مرض من جمال عبد الناصر وعهده أو مجندون للترويج لثقافة الأستسلام التي أصبحت مطلوبة بشدة لترويج ما هو مستجد من مشاريع تبدأ بإسرائيل وتنتهي الى تصفية ركائز الاقتصاد المصري وخصخصتها للأجانب بسعر التراب وتنتهي أكثر وأكثر الى التطلع من جديد لنهب البترول العربي واعادنه الى بيت الطاعة بمثل ما كان قبل تأميم قناة السويس. وإعادة تشريحنا لحدث تأميم قناة السويس لمناسبة مرور نصف قرن ليس لتهنئة الذات ولا لتمجيد شخص ولا حتى لاحياء ذكرى. المسألة كلها هي ألا تذهب تضحيات أجيال سابقة سدى وأن تتراكم الخبرات الوطنية بدل انقطاعها وأن ندرس مرة بعد مرة بعد مرة نواحي الأيجاب والسلب في ما جرى لنخرج في نهاية المطاف بالمغزى الحقيقي الذي يتشكل منه التاريخ الوطني. لم تكن شركة قناة السويس مجرد شركة أجنبية أخرى في مصر. كانت دولة داخل الدولة. وكانت أيضاً جرحاً غائراً دامياً في التاريخ المصري يلخص استئساد أوروبا بقوتها الصاعدة علينا في قاع هزيمتنا. وحينما ارغمت مصر على بيع ما تبقي من نصيبها من أسهم شركة قناة السويس الى بنك بريطاني بسعر التراب ذهب رئيس وزراء بريطانيا بالأسهم الى الملكة فيكتوريا ليقول لها مبشراً: هذا من أجلك يا سيدتي، بمعنى أنه رصيد استراتيجي واقتصادي غير مسبوق لحساب الأمبراطورية البريطانية في ذروة هيمنتها على بحار العالم ومحيطاته. بالقناة بدأت بريطانيا... وباحتلال مصر تطور مشروعها. منذ تلك اللحظة، وطوال الأحتلال العسكري البريطاني لمصر لمدة 74 سنة، استمر حلم استعادة ملكية مصر لقناة السويس في صلب الوعي المصري، وهو حلم يورثه كل جيل الى الجيل التالي له حتى لا يتكيف مع الأمر الواقع. المشكلة كانت بالطبع هي أن أسباب الضعف لا تزال هي السائدة في مواجهة أسباب القوة التي جعلت بريطانيا محتلة ومسيطرة. في الأولويات الوطنية المصرية الجديدة كان طبيعياً أن يكون هدف اخراج الاحتلال البريطاني هو المقدمة. مع ذلك فحينما أعلن جمال عبدالناصر قرار تأميم قناة السويس في 26\7\1956 بعد خمسة أسابيع من خروج بريطانيا عسكرياً جاء القرار بمثابة القنبلة اقليمياً ودولياً. وفي لندن كان نوري السعيد رئيس وزراء العراق ضيفاً على مائدة عشاء رئيس وزراء بريطانيا أنتوني ايدن حين ورد للأخير خبر التأميم، فحرضه نوري السعيد قائلاً: الآن فرصتكم لكي تسحقوه يقصد عبد الناصر. لم تكن القصة هي عبد الناصر مع أنه كان عنواناً لها. القصة هي قناة شقها المصريون بأيدي وتضحيات آبائهم وأجدادهم، فأصبحت تالياً دولة داخل الدولة. ولأن الأحلام الكبرى تحتاج الى عقول كبرى فقد كان أهم سمات قرار التأميم هو دراسته المستفيضة سراً كما تبين في ما بعد. ليس فقط دراسة الموقف القانوني ولكن الأهم دراسة الموقف الأقليمي والدولي وجمع أكبر قدر من المعلومات والتحسب لأكبر قدر من المخاطر. فقبلها بثلاث سنوات فقط كانت بريطانيا - وتحت قيادة وكالة المخابرات المركزية الأميركية - أسقطت حكومة محمد مصدق في ايران عقاباً له على تجرؤه بالقيام بتأميم البترول الأيراني فأصبح عبرة لمن يعتبر حول العالم. في حينها قناة السويس جزء أساسي من معادلة البترول فوق كونها ركيزة استراتيجية بحد ذاتها. وبحسابات القوة المجردة لم يكن تأميم قناة السويس ممكناً. فمصر عسكرياً ذات جيش وليد محدود يكاد يتدرب للمرة الاولى على أسلحة حديثة محدودة، بينما بريطانيا - وان كانت قواتها غادرت مصر لتوها - موجودة عسكرياً في ليبيا وفي قبرص وفي الأردنوالعراق والخليج. فإذا أضفنا الى ذلك أن فرنسا هي الشريك الثاني في حيازة اسهم شركة قناة السويس تصبح خطوط المواجهة قاطعة: دولة صغيرة من دول العالم الثالث في مواجهة أكبر امبراطوريتين ذات وجود مسلح في المنطقة ومصلحة مباشرة في استمرار تملك قناة السويس. المعلومات التحضيرية الدقيقة كانت جهداً مصرياً سابقاً ولازماً ومع ذلك فإنها لم تعط حصانة ضد المفاجآت غير المتوقعة. من أكبر تلك المفاجآت مثلا كان التواطؤ السري لإسرائيل مع بريطانياوفرنسا في مؤامرة لغزو مصر عسكرياً لم تتكشف وثائقها الا بعد الغزو بسنوات. المعلومات أيضاً لم تكن بديلاً عن التعبئة الوطنية الجادة. فحينما وقف جمال عبد الناصر يخطب في الجامع الأزهر أثناء الغزو، وحينما جرى شحن قطارات بكاملها بالأسلحة الخفيفة الى أهالي بورسعيد ومدن قناة السويس لم يكن المطلوب من المصريين الدفاع عن حاكم أو حزب أو نظام. المهمة كانت: الدفاع عن حق شرعي وحلم عاشه المصريون جميعاً أباً عن جد. في الأيمان بهذا الحق لم يكن الجهد وطنيا فقط وإنما عربياً ودولياً أيضاً، لأن ساحة المواجهة يتوازى فيها المحلي والدولي. والغابة الدولية، في لحظة فارقة نادرة، سمحت برفض أميركي سوفياتي للغزو، وان يكن بدوافع مختلفة. في هذه العجالة لا بد من التوقف عند درس جوهري: ان عدالة قضية لا تكفي بحد ذاتها لانتصارها. بامتداد التاريخ هناك العديد من القضايا العادلة التي انتهت الى الهزيمة وآخرها في حينها كان قيام محمد مصدق بتأميم البترول الإيراني وبتصديق من محكمة العدل الدولية. من هنا كان التحدي لمصر بعد تأميم قناة السويس أكبر منه قبلها. انه تحدي حسن وكفاءة ادارة الملاحة بقناة السويس ذاتها. لو وقف العالم كله مع مصر بينما فشلت هي في تشغيل القناة لأصبحت الهزيمة مدوية ونهائية. هذا يعني أن الأحلام الكبرى قد يقودها رجال دول، لكن الذي يضمن نجاحها هم رجال الخبرة. ومن اللحظة الأولى لتأميم قناة السويس كان الفريق المختار والمكلف سياسياً بالأشراف على القناة هو بقيادة المهندس محمود يونس. لكن الأخير كان مفوضاً في موقعه بسلطات رئيس الجمهورية كاملة في اختيار وتشغيل العناصر الأكثر كفاءة هندسياً وملاحياً... وسواء كانوا مصريين أو أجانب. فقط حينما انسحب المرشدون البريطانيون والفرنسيون فجأة - بربطة معلم - كان الجهد والعلاقات السياسية ما سمح بالمجيء على وجه السرعة بمرشدين من اليونان ويوغوسلافيا ودول أخرى. ثم درس آخر: فمع أن العنوان المعلن لتأميم قناة السويس كان استخدام ايراداتها لتمويل بناء مشروع السد العالي في نهر النيل بأسوان جنوب مصر، إلا أن هيئة قناة السويس أخذت الأولوية المطلقة في استخدام ايراد القناة من أجل توسيع القناة وتحسين الملاحة بها. وبرغم الايرادات الضخمة المتزايدة للقناة سنة بعد أخرى في السنة الأخيرة مثلاً بلغت الايرادات أربعة بلايين من الدولارات فلم تسجل حالة فساد أو انحراف واحدة بامتداد خمسين سنة. ودرس ثالث: أهمية معرفة اين تنتهي السياسة وأين تبدأ الأدارة. فبكل تلك الأهمية والحيوية لقناة السويس في الأقتصاد المصري كان العنوان الصارم المقرر سياسياً من البداية هو كفاءة الأدارة. لم يكن مسموحاً لوزير ولا غفير، ولا حتى للحكومة كلها، أن تتدخل في تعيين أو ترقية أي شخص أو التوصية على قريب أو بعيد . فلكي يكون الحساب عسيراً وصارماً يجب أن تكون السلطة كاملة. الأدارة هي الإدارة والخبرة هي الخبرة والمشروعات الكبرى لا تديرها الأغاني ولا الخطب الحماسية أو التوجهات الحزبية. تديرها العقول خبيرة ذات الكفاءة الكاملة بالمعيار المطلق. هذا بحد ذاته بالغ الأهمية في عالمنا الثالث وربما فصل الخطاب لأن الفشل يبدأ من تغليب الولاء على الكفاءة. ثم درس رابع: ان الذين كانوا بحق - وليس عن ادعاء - جزءاً محورياً من ذلك الأداء الوطني الرفيع، وبمعايير دولية، اتسموا بالتواضع ونكران الذات الى درجة أن أي منهم لم يكتب مذكراته مثلاً. هذا يذكرني بجورج مارشال وزير الدفاع الأميركي وتالياً وزير للخارجية في عهد ترومان الذي رفض كتابة مذكراته اعتقاداً منه بأن هذا بمثابة تربح من المنصب العام. العالم تغير لعلو قيمة الحاجة الى استلهام نقاط الضوء وتراكم الخبرات من جيل الى جيل. مع ذلك فحتى الآن، وفي كل مدن قناة السويس، لن تجد شارعاً أو ميداناً يحمل اسم محمود يونس أو أي من رفاقه. وبالطبع لن نجد تمثالاً لأي شخص، ربما لأن اقامة التماثيل هذه مسألة استمرت مستهجنة بالكامل في الثقافة السياسية المصرية. بنجاح مصر في تأميم قناة السويس كان الدرس مدوياً بامتداد العالم الثالث كله، من آسيا الى افريقيا الى أميركا اللاتينية. وبغير هذا النجاح لم يكن ممكنا التفكير تالياً في استعادة البترول العربي الى اصحابه بعد طول نهب وسرقة. ربما من أجل هذا وغيره يتعلم المهزومون من هزيمتهم، بينما المنتصرون هم الذين أصبحوا ضعاف الذاكرة. و... ما أعادني الى قناة السويس في هذه المرة لم تكن جريدة مصرية. كانت جريدة بريطانية. * كاتب مصري.