جاء ابن خلدون - كما ألمحنا - في نهاية المشهد الحضاري الإسلامي لذلك لم يتح"البناء"على ثورته الفكرية في حينه. وفي عصرنا الحديث جاءت مدارس الفكر الأوروبي المستمدة من خصوصيات مجتمعاتها - رغم أهميتها كمقاربات عامة - فصرفت أكثر المثقفين العرب عن واقع موروث تحت أرجلهم. ومازالت حاجتنا الفكرية والواقعية قائمة لرؤية هذا الواقع بقراءة"المقدمة"قراءة متأنية. في لمحة رائعة ينبه ابن خلدون إلى أن أهل الحل والعقد في الإسلام ليسوا رجال الدين المعممين الذين لا قوة وراءهم غير اشتغالهم بعلومه. فحسب تعبيره ان"الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية أي قوة اجتماعية يقتدر بها على حل أو عقد... وأما من لا يملك من أمر نفسه شيئاً إنما هو عيال على غيره، فأي مدخل له في الشورى... اللهم إلا شوراه في ما يعلمه من الأحكام الشرعية وهي متحققة في الاستفتاء منه، أما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيام على معرفة أحوالها... وإنما أكرامهم أي رجال الدين من تبرعات الملوك والأمراء فمغزاها أن تكون الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه..."وليس لكونهم من أهل الحل والعقد كما قد يتبادر إلى الأذهان . هكذا بحسم فكري، يقرر ابن خلدون وهو ليس مفكراً اجتماعياً فحسب وإنما من علماء الحديث الشريف وقاضي القضاة بمصر، أن رجال الدين أهل شورى في علوم الشرع، لا في الحل والعقد بشأن مصير الأمة التي هي لغيرهم من قادة القوى الاجتماعية المؤثرة. ومثل هذا الحسم الفكري ينهي جدلاً طويلاً عقيماً تشهده الساحة الإسلامية في أيامنا وما أحوجنا إليه من عالم دين وحديث وقضاء مثل صاحب"المقدمة"! وكما تعانيه المجتمعات العربية إلى اليوم، يكتب"معاصرنا"ابن خلدون:"إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة"وهو ملحظ يحتمل مجلدات في إشكالات الدولة العربية الحديثة والمعاصرة، وتكفي للفت الأنظار إليه ما تحمله أنباء النزاعات الداخلية العربية. وفي لقطة واضحة تسجل عجز المجتمع المديني المدني وافتقار القوى السياسية المدنية لأسنان سياسية تدافع بها عن نفسها كتب ابن خلدون في جذور هذه الإشكالية:"وأهل الحاضرة عيال على غيرهم في المدافعة والممانعة"ملخصاً الحقيقة القائمة في التاريخ العربي وهي احتياج الحواضر إلى قوى البادية المحاربة للدفاع عنها أو قوى الأرياف في عصرنا التي مثّلت القوى المجتمعية الضاربة وراء الانقلابات العسكرية والدينية وما زالت، بما نجم عن ذلك من ثمن باهظ تدفعه المدن من حرياتها ومستواها المدني التحضري وغياب إرادتها السياسية في تقرير نظامها السياسي. وحسب الرؤية الخلدونية المستمدة من تجارب التاريخ العربية: كلما مرت دورة وانغمس البدو المحاربون في"ترف"الحضارة المدنية فقدوا فضائلهم الحربية وتعرضوا لغزوة جديدة من بدو محاربين جدد، وهكذا. وحسب طبيعة التطور المجتمعي في المرحلة الراهنة فليس من الضروري قدوم الغزوة الجديدة من البادية في هيئة غزو حربي مكشوف، إذ أن الهجرة السكانية الريفية والبدوية إلى المدينة تخلق بالتدريج واقعاً ديموغرافياً في المدينة وفي أحزمة البؤس المحيطة بها يؤدي إلى ظهور"قوة"سكانية معادية لأنماط العيش في المدينة ونظام حكمها، بما يؤدي إلى انقلاب عسكري أو ديني تدعمه تلك القوة غير المدنية وهو ما يلخص التاريخ السياسي العربي والإسلامي المعاصر، وربما لم نصل إلى نهاية مشاهده بعد ما لم تتم المبادرة إلى تمدين الريف والبادية بدل ترييف وبدونة المدينة وهو ما حصل بوتيرة متصاعدة العنف في أيامنا. ومساكين أهل الحاضرة إن بقوا"عيالاً على غيرهم في المدافعة والممانعة"حسب تعبير ابن خلدون. وقد أسهب الباحثون في عرض أفكاره بشأن أبعاد الصراع بين قوى البادية وقوى الحاضرة في النسيج المجتمعي العربي، بما لا يتسع له حيز هذه الدراسة الموجزة، مكتفين بهذا الانعكاس السياسي على قوى المجتمع المدني المديني الذي حان الوقت ليتحول إلى آليات القوة الفاعلة بدل البقاء أغلبية صامتة لا حول لها ولا قوة. والجدير بالذكر أن أهل الحاضرة الكويتية، بين أمثلة أخرى، بنوا"سور الكويت"، مثلما أقام الصينيون"سور الصين"على اختلاف الحجم والكثافة السكانية وهدف السورين واحد وهو حماية الوجود الحضري من الاكتساحات الرعوية إلا أن مثل هذه المؤثرات في أيامنا لم تعد توقفها أسوار المدن في ظل الهجرة المستمرة - بشرياً وبالتالي فكرياً - من البوادي والأرياف إلى المدن. وإلى جانب هذه الرؤى الفكرية المتقدمة، قياساً بعصر مفكرنا، فإن قارئ ابن خلدون تلفته قوة المنطق العقلاني لديه في تفسير مختلف الظواهر. وعلى رغم أن عصر ابن خلدون كان عصراً معادياً للفلسفة في المجتمع الإسلامي، وهو ما ينعكس في الفصل الذي عنوانه:"في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها"فإنه، فيما يماثل فلاسفة النهضة الحديثة بأوروبا، حول عمل العقل من الانشغال بالميتافيزيقيا فيما وراء الطبيعة إلى إعماله في شؤون المجتمع والتاريخ والعلم، أي إنزاله من السماء فيما يتجاوزه من غيب، إلى واقع الأرض وما فيها من شواهد ومشاهدة. ومن منطلق عقلانيته انتقد ابن خلدون السحر والطلسمات وكتب في"إبطال صناعة التنجيم وضعف مداركها وفساد غايتها"وعرض لعلم المنطق بحياد موضوعي ولم يهاجمه، كما أن نقده للفلسفة الميتافيزيقية لم يصل لديه إلى تحريمها، وإنما اكتفى بتنبيه من يريد الإطلاع عليها إلى"الإلمام بعلوم الملة"من فقه وشرعيات، وذلك ما تعارفت عليه أغلب المدارس الفكرية في الإسلام التي قامت على التوفيق بدرجة أو أخرى بين الإيمان والعقل وذلك ما جعل مستشرقاً مثل هاملتون غب، يتساءل بدهشة: كيف وفق ابن خلدون بين عقلانيته وإيمانه الإسلامي التقليدي؟!. ومن الطبيعي ألا يصل ابن خلدون بعقلانيته إلى موقف ابن تيمية من المنطق والفلسفة وإن تقارب الزمن التاريخي المتنكر للفلسفة بينهما. وينزع ابن خلدون منزعاً عقلياً، كالزمخشري المعتزلي في تفسيره للقرآن الكريم، حيث يفسر آي الذكر الحكيم التي يمر بها في سياق مقدمته تفسيراً عقلياً يستند إلى الواقعية المجتمعية البشرية، وذلك مثل إشارته إلى أن التيه الذي تعرض له العبرانيون القدماء لأربعين عاماً، كان بسبب وقوع جيلهم في حينه في"قبضة الذل والقهر وتخلقوا به"فشاءت حكمة الله ضياعهم في التيه، حسب تفسير ابن خلدون، لينشأ في ذلك التيه"جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر..."ومثله في"المقدمة"من تفسيرات العقل شواهد كثيرة. هكذا خرج ابن خلدون بهذه النزعة العقلانية المتجهة إلى تشخيص الواقع الاجتماعي التاريخي، على تقاليد فلاسفة الفكر المثالي الميتافيزيقي في الإسلام من الكندي إلى ابن سينا، فاستطاع أن يؤسس علماً جديداً هو علم الاجتماع، باستقلال عن الفلسفة النظرية، حيث أنزل الفلسفة، كما فعل فلاسفة النهضة في أوروبا، من السماء إلى الأرض من أجل فهم العالم. واعتقد أن الاستاذ محمود أمين العالم كان مصيباً في حكمه ب:"أن ابن خلدون هو العقلانية الرشدية في مجال التاريخ". ونضيف أنها تتميز عن العقلانية الرشدية بتشخيصها لواقع العالم والتاريخ دون انشغالها بالميتافيزيقيا الماورائية. وهذا مجرد غيض من فيض في غزارة الفكر الخلدوني. ولابد لأي مفكر عربي ومثقف عربي أن يتوقف طويلاً أمام مقدمة ابن خلدون، وأن يقرأها بتأنٍ، ويعيد قراءتها، ويستخرج منها الدروس الفكرية اللازمة. ذات ندوة ومحاضرة، قام أحد الدكاترة الجادين الذي درسوا في جامعة غربية أحدث النظريات الاقتصادية التي لم تمر في ما يبدو بابن خلدون، وظلت منشغلة بتعرجات الخطوط البيانية للاقتصاد الحديث، وتساءل مندهشاً عن سر انشغالي بابن خلدون، واستخفافاً به أشار إليه بعبارة: صاحبك ابن خلدون هذا! نعم يا صديقي... عليك العودة إلى صاحبي ابن خلدون هذا، فلديه الكثير من تشخيص"العصائب"وتفكيرها وبناها التحتية والفوقية الواقفة بعناد في وجه تقدم الاقتصاد الليبرالي المدني الذي طمحت إليه ويطمح إليه معظم أفراد جيلك. بل لعلك رجعت إليه وأنت ترى في واقعنا تأثير هذه"العصائب"أكثر من تأثير نظريات الاقتصاد الحديث التي أشهد لك أنك استوعبتها بجدارة. واسمح لي أن أكرر اليوم في الذكرى المئوية السادسة لرحيل"صاحبي ابن خلدون هذا"إن مقدمته تمثل كتاباً لمحو أميتنا التاريخية والحضارية لدى أثقف مثقفينا، وربما استطاعوا بعد محوهم لهذه الأمية المساعدة في محو الأمية الأبجدية لدى الملايين من رجال أمتهم ونسائها، وأن أكرر ما دعوت إليه منذ زمن: حان أوان الرحيل من نقائض جرير والفرزدق إلى مقدمة ابن خلدون. أعلم، ومن العلم ما قتل، أن الشعر ديوان العرب. ولكن النثر ديوان العصر. النثر بما اكتسبته الحضارة الإنسانية في مسارها الطويل من عقل وعلم. ولا تنتمي مقدمة ابن خلدون، للأسف الشديد، أو ربما لحسن الحظ، إلى الشعر. إنها من النثر العقلي الجاد وذلك أنها ليست من"علم الخطابة"ولا تنتمي، قطعاً، إلى"الظاهرة الصوتية"في الحياة العربية المعاصرة. أما قدماء العرب فكانوا للحق"ظاهرة فعل"مدهش في المشهد الإنساني، وإلا لما وجد ابن خلدون ما يكتب عنه في المقدمة بعد أن اعتزل"علم الخطابة"!! ولله الأمر من قبل ومن بعد، كما كان ابن خلدون يذكّر قراءه، بعد كل مبحث. * مفكر وكاتب من البحرين.