مع اقتراب سعر برميل النفط من خمسين دولاراً بدأت السيناريوات حول مدى انعكاس ذلك على الاقتصاد العالمي. فالأنظار كانت تتجه في السابق الى الكارتل النفطي "أوبك" تلمّساً للمخرج المناسب، الا ان الأمور تبدو مختلفة في هذه المرحلة إذ ان المحللين الاقتصاديين لا يعلقون كبير أمل على اجتماع منظمة "أوبك" المقبل في فيينا منتصف الشهر الجاري. ومع ذلك يعترف هؤلاء المحللون انه مهما كانت دوافع الأوساط الغربية لإضعاف "أوبك"، وآخرها السيطرة الأميركية على العراق، فإنه "ليس من باب الحكمة ولا الجرأة، لدى أي رجل سياسي غربي، ان يدعو الى عدم التعاون مع هذا الكارتل" الذي يبقى على رغم اضعافه يشكل نسبة 65 في المئة من الاستهلاك العالمي. ومع ذلك يبقى هامش التحرك لدى "أوبك" محدوداً لأسباب عدة لا مجال للدخول في شرحها الآن. فكيف سيؤثر سعر النفط في الاقتصاد العالمي؟ وما هي الصورة المستقبلية لتجارة النفط العالمية؟ ان المعيار لمدى تأثير النفط على اقتصادات الدول، والمجموعات الدولية، والاقتصاد العالمي عموماً، هو بالتأكيد معدل النمو الاقتصادي لدى هذه الدول والمجموعات والعالم. فالطاقة هي جزء أساسي من حركة الاقتصاد العالمي في المجالات الصناعية والتجارية والزراعية. انها محرّك في الحضارة البشرية. لكن قياس مدى تأثير سعر النفط على الاقتصاد يفسر من خلال نظريتين: الأولى: وفيها ان ارتفاع أسعار النفط سيكون له تأثير محدود على الاقتصاد العالمي الذي هو اقتصاد "ثابت وشامل"، كما يراه صندوق النقد الدولي وبالتالي فإن الصندوق يتوقع معدل نمو للاقتصاد العالمي للعام 2004 يصل الى 6.4 في المئة وهو معدل جد مرتفع بالنسبة الى كثيرين. الثانية: يقولها بعض المحللين الاقتصاديين وفيها ان أكثر محرّكين للاقتصاد العالمي، وبالتالي أكثر بلدين شديدي العطوبة، هما الأكثر ازدهاراً اقتصادياً وهما: الولاياتالمتحدةوالصين. وهذان البلدان، لن يشعرا بالصدمة الاقتصادية بسبب ارتفاع سعر النفط الا اذا أصبح سعر برميل النفط بين 60 الى 70 دولاراً ما يؤدي حتماً الى تراجع اقتصادي، بل الى أزمة اقتصادية ربما. الا ان الاختصاصيين لا يشاركون صندوق النقد الدولي تفاؤله بإمكان وصول معدل النمو هذا العام الى 6.4 في المئة. على ان تقريراً مشتركاً أصدرته منظمة الطاقة الدولية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي تضم معظم الدول الصناعية والمتقدمة OCDE، جاء فيه رقم معبّر جداً بالنسبة الى العلاقة نفط - نمو. فقد أكد التقرير ان كل ارتفاع بمعدل عشر دولارات لبرميل النفط يؤدي الى تراجع معدل النمو الاقتصادي بما يساوي 5.0 أي نصف نقطة. وبناء عليه، يرى بعضهم ان معدل النمو في أوروبا سيكون في حدود 7.1 في المئة في حين انه سيكون في الولاياتالمتحدة بمعدل 3 في المئة وليس 6.4 في المئة لهذا العام. مع الاشارة الى ان معدل النمو العالمي للعام 2003 كان في حدود 7.0 في المئة فقط. ان علاقة نفط/ نمو تستتبع حكماً علاقة نمو/ سعر بمعنى ان النمو الاقتصادي الحالي الذي تشهده الولاياتالمتحدة مثلاً وكذلك دول تلقب بالأوزان الثقيلة الاقتصادية كالصين والهند هذا النمو يفترض حكماً زيادة في استهلاك النفط الصين زادت وارداتها خلال النصف الأول من العام 2004 بمعدل 40 في المئة وهو رقم هائل. والهند بمعدل 11 في المئة. وهذه الزيادة الكبيرة على الطلب ازاء انتاج محدود تؤدي حكماً الى ارتفاع أسعار النفط. ان الكلام على ارتفاع سعر النفط وتأثيره السلبي في النمو الاقتصادي للدول الصناعية لا ينبغي ان يحجب حقيقتين يفترض أخذهما في الاعتبار: الأولى: هي التفريق بين السعر الجاري الاسمي وبين السعر الحقيقي لبرميل النفط. فإذا أخذنا العام 1973 كقاعدة للسعر الحقيقي لبرميل النفط باعتباره عام القفزة الأولى في سعر النفط لأمكن القول ان سعر 40 دولاراً للبرميل عام 1980 كان يساوي 20 دولاراً بالسعر الحقيقي للعام 1973. في حين ان سعر 40 دولاراً للبرميل عام 2004 هو في حدود 9 دولارات بالسعر الحقيقي للدولار عام 1973. الثانية: هي في حسبان حصة الدول المنتجة والدول المستهلكة من برميل النفط، علماً ان الثروة النفطية هي مصدر طبيعي ناضب ولا يتجدد كالمياه العذبة. هذه الحصة كانت مقسمة على الشكل الآتي: قبل 1973، 40.1 دولار للمنتجة و60.4 دولار للمستهلكة. أي 23 في المئة في مقابل 77 في المئة. بعد 1973 انقلب الوضع وصارت حصة الدول المنتجة عبر "أوبك" للعام 1980 34 دولاراً للبرميل أي 64 في المئة والدول المستهلكة 18 دولاراً أي 36 في المئة، في حين وصل السعر لدى المستهلك الى 65 دولاراً بفعل الضرائب التي فرضتها الدول الصناعية. في المرحلة الحاضرة، بدءاً من التسعينات، عادت الأمور وانقلبت لمصلحة الدول المستهلكة التي زادت ضرائبها على برميل النفط بما يقارب 68 دولاراً وحسمت من حصة الدول المنتجة كلفة الانتاج بحدود 6 دولارات، إذ بقي لها نحو 12 دولاراً للبرميل. وبهذا تكون الدول المنتجة تحصل على 15 في المئة فقط صافي الربح، في حين تحصل الدول الصناعية المستهلكة على 85 في المئة منه، ربحاً للشركات وضرائب على المستهلك. ثانياً: الصورة المستقبلية لتجارة النفط لا بد من التذكير السريع بأهم الأسباب التي أدت الى ارتفاع سعر النفط في العالم وأعادت هذه المادة الحيوية الى محورية الجيوبوليتك العالمي. من هذه الأسباب: - زيادة الطلب على النفط بفعل زيادة النمو الصناعي. - الحرب في العراق والاضطرابات الأمنية واستهداف أنابيب النفط. - الأخطار المؤكدة المحدقة بنقل نفط الشرق الأوسط الى الدول الصناعية: خطر وقف الامدادات. - أزمة شركة "يوكوس" العملاقة في روسيا 2 في المئة من الانتاج العالمي. - الأوضاع غير المستقرة في فنزويلا حول شرعية الرئيس هوغو تشافيز. - ادراك محدودية الاحتياط النفطي العالمي واتجاه عدد كبير من الآبار نحو النضوب. - تحول بريطانيا للمرة الأولى منذ عشر سنوات، في حزيران يونيو الماضي الى دولة مستوردة للنفط. - انطلاق الصين كعملاق اقتصادي صناعي يرفع لوحده معدل الطلب العالمي على النفط بنسبة 40 في المئة. 2- حسب الخبير في شؤون النفط نقولا سركيس فإن المعدل السنوي لزيادة استهلاك النفط هو 9.1 في المئة مما يعني ان استهلاك النفط سيرتفع من 80 مليون برميل/ يوم عام 2003 الى 120 مليون برميل/ يوم عام 2020. وانه خلال هذه الفترة فإن حصة البلاد العربية في تأمين هذه الكمية سترتفع من 25 في المئة كما هي الآن الى 41 في المئة. وفي الوقت عينه 2001 - 2025 فإن تبعية الدول الكبرى الصناعية للنفط سترتفع هي أيضاً: أميركا من 7.55 في المئة الى 71 في المئة، أوروبا الغربية من 1.50 في المئة الى 6.68 في المئة، الصين من 5.31 في المئة الى 2.73 في المئة. هذه التحولات الكبرى تفسر الى حد كبير "الحروب" التي تخوضها الشركات النفطية الكبرى ومن خلفها بل وأمامها الدول الكبرى التي تحضن هذه الشركات لوضع اليد على مختلف مصادر النفط واحتياطه في الشرق الأوسط والخليج والقوقاز وقزوين وأفريقيا خليج غينيا ونيجيريا والسودان. ويختصر وزير النفط الجزائري السابق أحمد بوستة عقدة النفط الحالية ببلوغ امكان الانتاج ذروتها. فإمكانات العالم في الانتاج أوبك وغير أوبك هو في حدود 82 الى 83 مليون برميل/ يوم. والطلب على النفط يكاد يبلغ هذا الامكان. ويكفي ان يقع أي حادث على حقول استخراج النفط أو خطوطه كي يصبح العرض غير كافٍ بالنسبة الى الطلب. ومثل هذه الحوادث تقع تكراراً، خصوصاً في العراق ما يزيد القلق لدى المستهلكين، ويبقي سعر النفط في حدود مرتفعة. وهي حال ستستمر لفترة غير قصيرة في المدى المنظور. ولا بد من توديع زمن النفط ذي الثمن البخس. إزاء هذا الوضع الصعب، حيث يشكل النفط نسبة 40 في المئة من الطاقة العالمية يسارع الخبراء الاقتصاديون الغربيون الى التشديد على أمرين والنصح بهما: الأول: ضرورة الاقتصاد بالنفط حيث تتصرف شركات النقل وصناعة الآليات والسيارات، لا سيما في الولاياتالمتحدة، وكأن شيئاً لم يحصل منذراً بأزمة طاقة في الأفق. الثاني: ضرورة التفتيش عن بديل للطاقة النفطية وتثمير بلايين الدولارات في هذا السبيل للحفاظ على آلية الدوران في حركة الحضارة العالمية. في الخلاصة، اذا كانت عملية استخراج النفط اليوم على شفير حدّها الأقصى، فإن كل الاحتمالات والمحاذير تبقى واردة. من هذه المحاذير ان ارتفاع سعر النفط اذا لم يضرب كما يجب النمو الاقتصادي للدول الصناعية للعام 2004، فإنه سيضرب بكل تأكيد مقومات النمو الاقتصادي لهذه الدول في العام 2005، خصوصاً أن مؤشرات المستقبل تنبئ بقفزة وربما بقفزات نفطية في المستقبل انطلاقاً من معادلة ثابتة لا تخطئ، مؤداها ان حاجات العالم الى النفط تكبر وامكانات استخراج النفط ليست في وضع يسمح لها بتلبية هذه الحاجات تماماً. وتلك هي المسألة