عندما سأل أيمن 6 سنوات والده الأسير اللبناني المحرر محمد رمضان "لماذا لا تذهب الى العمل يا بابا"، شعر الأب كأن سكيناً غرزت في قلبه. وكأن الأب كان ينتظر سائلاً اضافياً عن سبب بطالته "القسرية"، يزيد له "هماً" على هموم كثيرة لا يعرف كيف يتحدث عنها، وكذلك زوجته الأسيرة المحررة أيضاً كفاح عفيفي. لكن الأب الحريص على عدم الكذب على طفله وجد نفسه مضطراً لإيهامه بأنه يذهب الى العمل. وتكاد قصة محمد وكفاح اللذين لم يساعدهما أحد في ايجاد عمل، تختصر قصص مئات الأسرى الذين تحرروا بعدما أمضوا سنوات في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وعادوا الى الوطن ليعانوا ظروفاً معيشية صعبة كبقية اللبنانيين، يضاف اليها معاناة خاصة بهم تتمثل بفقدان زهرة سنوات العمر في المعتقل والخروج منه بمرض دائم و"يأس" مكتسب، لكنهما لا يلقيان معاملة خاصة او ينظر اليهما ك"بطلين" أسهما في تحرير الوطن من احتلال دام 22 عاماً. فمحمد وكفاح كانا ينتميان الى الحزب الشيوعي اللبناني واعتقلا أثناء مشاركتهما في عمليتين ضدّ الاحتلال الاسرائيلي. فمحمد اعتقل اثناء مشاركته في عملية كفركلا في 11 أيلول سبتمبر 1989 وخرج من الأسر في معتقل الخيام عام 1996 حاملاً مرض "الربو" وآلاماً شديدة في الظهر من شدة التعذيب. أما كفاح فأسرت خلال عملية في كفركلا أيضاً عام 1988 وخرجت من معتقل الخيام عام 1995 تعاني من مرض الأعصاب والربو. وكانا في تلك الفترة لا يعرفان بعضهما بعضاً، لكنهما سمعا عن عمليتيهما التي سقط فيها قتلى وجرحى اسرائيليون، وتعارفا بعد الأسر وتزوجا. في البداية أقاما في مخيم شاتيلا، وسعى محمد الذي تقاضى ككفاح تعويضاً يسمى "منحة تحرر" من مجلس الجنوب قيمتها 5 ملايين ليرة، الى ايجاد عمل فاشترى سيارة وعمل سائق أجرة، لكن بسبب آلام ظهره لم يستطع الاستمرار، فعمل بعد ذلك حمالاً في مطار بيروت لكنه أُقيل مع سواه عندما حلت شركة جديدة مكان الشركة التي كانت متعهدة هذه الأعمال. بعد ذلك عاد الى العمل سائق أجرة لكن الآلام نفسها حالت دون استمراره. عمل بعدها في "الطباعة الحريرية" واتقن المهنة لكن مرض "الربو" حال دون استمراره في هذه المهنة. أما كفاح فعملت في جمعيات أهلية متطوعة في مقابل أجر زهيد جداً لكنها بعدما تزوجت اضطرت الى البقاء في المنزل. بعدما تحرر الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000 قام الأسرى المحررون بتحركات واعتصامات مفتوحة مطالبين بتأمين وظائف لهم، ما دفع الدولة الى اصدار قانون تعويضات لهم عام 2001 لكنه نفذ عام 2003، قضى بتسديد تعويضات موزعة على النحو الآتي: يتقاضى الأسير الذي أمضى أقل من سنة لو بيوم واحد مبلغاً قيمته مليونان ونصف المليون ليرة لبنانية 1500 دولار، ويخير من أمضى أكثر من سنة بين تقاضي 5 ملايين ليرة عن كل سنة أو راتب قيمته 400 ألف ليرة تضاف اليه 11 ألف ليرة عن كل سنة اضافية لمن أمضى 3 سنوات فما فوق. وقضى القانون بأن يعيد الأسير الذي اختار الراتب، التعويض الذي تقاضاه من مجلس الجنوب لحظة تحريره، ومن أمضى أقل من سنة وتقاضى تعويضاً من مجلس الجنوب لا يتقاضى تعويض المليونين ونصف المليون. ويتكلف بطبابة الأسرى المحررين مجلس الجنوب. كذلك قررت الدولة ان تؤمن وظائف ل75 أسيراً، وتم هذا الأمر، اذ وظف هذا العدد في مؤسسة "أوجيرو" للهاتف بناء على لوائح قدمتها الأحزاب. ونظراً الى الأمراض التي يعانيها محمد وكفاح وفشلهما في ايجاد عمل وعدم تضمين حزبهما اسميهما في لوائح التوظيف اختارا الراتب كدخل ثابت، على ان يحسم منه التعويضان اللذان حصلا عليه من مجلس الجنوب. ويبلغ مجموع راتبيهما 684 ألفاً 450 دولاراً. فهما يقيمان مع طفليهما سهى 7 سنوات، سمياها بهذا الاسم تيمناً بسهى بشارة التي أسرت بعدما اطلقت النار على قائد "جيش لبنانالجنوبي" انطوان لحد وأيمن 6 سنوات مجاناً في منزل شقيقه في منطقة عرمون جنوببيروت، لكنهما يسددان 150 ألفاً خدمة للبناية، و100 ألف ثمن تبغ و200 ألف بنزين للسيارة و75 ألفاً مصروف جيب للطفلين. وهل تكفي البقية للمعيشة؟ "لا، أبداً. ولهذا نحن نقيم معظم أوقاتنا في منزل أهلي أو أهل زوجتي". أما الطفلان فيذهبان الى المدرسة على نفقة "صديقة زوجتي وهي مخرجة معروفة وتغضب اذا قلنا لها شكراً". وعن الطبابة والعلاج الدائم يقولان انه على نفقة مجلس الجنوب و"كنا نحصل عليه في شكل كامل وجيد لكن منذ سنة تغيرت المعاملة كثيراً بحجة ان الموازنة قلت كثيراً". ويوضح محمد انه اذا اراد ان يراجع الطبيب يضطر للذهاب الى مجلس الجنوب ليقدم طلباً، وفي اليوم التالي يحصل على الموافقة ثم يذهب الى الطبيب ثم يعود الى المجلس فيقدم طلباً ليحصل على الدواء ثم يذهب الى احضاره "وقبل أيام قالوا لي اذهب الى وزارة الصحة لتحصل على دواء زوجتك". ويقول: "لو استجابت الدولة مطلبنا تأمين وظائف تراعي اوضاعنا الصحية لكان ذلك أفضل كثيراً من التعويض والمساعدة المرضية، فنحن لا نريد ان نكون عبئاً على المجتمع ولا عالة على الدولة". وعلى رغم ذلك لا يظهر محمد وكفاح أي ندم على ما قاما به "فنحن قمنا بالعمل الصحيح وأدينا واجبنا ولم يدفعنا اليه أحد". وهما ينشآن طفليهما على هذه الطريق، يفاخران بصورة لطفلهما أيمن الذي يغني "فلسطين عربية عربية"، أخذت له مموهاً في تظاهرة تضامنية مع الانتفاضة الفلسطينية. وكذلك لم يغيبا يوماً عن خيمة "الحرية" التي نصبت خلال الفترة الماضية، أمام بيت الأممالمتحدة في بيروت، تضامناً مع الأسرى الفلسطينيين "مع أنفسنا" و"المسجونين عن الأمة كلها ويعذبهم الصهيوني انتقاماً من الامة كلها". لكنهما في المقابل يتحدثان عن "خيبة أمل في هذه الدولة القائمة على المحسوبيات والوساطات والمزايدات الكلامية التي يظن سامعها ان الأسرى يعيشون في رخاء ونعيم بينما نحن محبطون لا ندري ماذا نفعل". وتقول كفاح: "هل يؤمن لنا هذا التحقيق عملاً كرمى لوجه الله". وكما هي حال محمد وكفاح، ثمة حال أخرى هي حال أحمد محمد نصرالله وزوجته فريدة رسلان اللذين أسرا سنوات بتهمة التعاون مع المقاومة. وهما تزوجا بعد تحررهما من الأسر. حالهما المعيشية لا تختلف كثيراً، إلا ان أحمد مريض جداً ويعاني كثيراً في تأمين الطبابة. وهذه المشكلة الوحيدة التي تراها فريدة على رغم اقامتها في منزل غير لائق، اذ تتحدث عن محسوبيات وتفضيل أناس على آخرين. وتقول: "كان زوجي قبل أشهر في حاجة الى عملية طارئة وبألف "خناقة" مشكل حتى تأمنت". وتتمنى لو "تكمل الدولة معروفها وتؤمن الطبابة للأسرى وتوفر عليهم هذه المعاناة". واذا كانت هذه حال الذين تقاضوا رواتب وتعويضات فإن هناك أسرى كثراً لم يتقاضوا شيئاً ولا تزال ملفاتهم عالقة لدى الوزارات. وبينما كانت "الوسط" في مكتب "الجمعية اللبنانية للأسرى والمحررين" تابعة ل"حزب الله" كان شاب يدعى حسن الحسيني آتياً من الجنوب ليراجع في طلب لخاله خليل قعفران الذي لم يتقاضَ تعويضاً بعد. ويفيده رئيس الجمعية الشيخ عطا الله حمود ان ثمة 1500 طلب احيلت على وزارة الدفاع للتدقيق فيها. ويروي الحسيني وهو استاذ مدرسة، قصة خاله الثاني موسى قعفران 40 عاماً الذي أمضى في الأسر سنة ونصف السنة وعاد منه فاقداً السمع. وهو تقاضى عندما تحرر في الثمانينات 5 آلاف ليرة كان سعر الدولار حينها أقل من 3 ليرات وهو الآن لا يتقاضى راتباً ولا يساعده أحد و"اذا عمل في البناء يأكل واذا لم يعمل يبقى من دون طعام مع اطفاله الثلاثة وزوجته". ويشير الى انه دفع لسمسار 3 آلاف دولار ليؤمن لخاله سفراً الى دولة أوروبية ليقدم فيها لجوءاً سياسياً او انسانياً "علّه يلقى هناك حياة أفضل!". وتفيد احصاءات وزارة المال ان في لبنان 9 آلاف أسير محرر تقاضى 7500 منهم تعويضات بينما بقيت ملفات نحو 1500 منهم قيد الدرس. ويوضح حمود ان الوزارة اشترطت لتسديد التعويض أن يؤمن الأسير اوراقاً تثبت أسره وتاريخ دخوله الأسر وخروجه منه من الجهات الآتية: الصليب الأحمر الدولي او اللبناني، او وزارة الداخلية او وزارة الدفاع. ويشير الى ان ال1500 طلب معلقة للأسباب الآتية: بعض الاسرى لا يملك افادات من الصليب الأحمر الدولي، خصوصاً انه لم يكن يدخل الى المعتقلات لمدة 10 سنوات، والصليب الاحمر اللبناني لا افادات منه نهائياً، إضافة الى اخطاء تتعلق بتاريخ الميلاد او تاريخ الدخول ولا تتضمن تاريخ الخروج. وهناك ملفات تتعلق بالشهداء اذ نص القانون على دفع 25 مليون ليرة للأسير الذي استشهد داخل المعتقل فقط، وكذلك حدد القانون 25 معوقاً فقط بينما هناك على الاقل 40 اسيراً يعانون إعاقات. ويوضح ان مئات الأسرى اضطروا للذهاب الى ارشيف الصحف ليحصلوا على نسخ من اخبار اعتقالات تتضمن اسماءهم ليثبتوا انهم كانوا معتقلين. وعن مسألة التدقيق في وزارة الدفاع، يقول: "لم يتمكن اصحاب 1035 ملفاً من تأمين مستندات او وثائق تثبت اسرهم، ما اضطر وزارة المال الى عدم تسديد التعويضات لأن الطلبات غير مكتملة، فأحالتها الى وزارة الداخلية التي أفادت بدورها ان ليس في امكانها اثباتها فرفعتها بدورها الى وزارة الدفاع ولا تزال لديها منذ أربعة أشهر". ويقول الشيخ حمود ان الأسرى يعانون الأمرين، ناقلاً عن أحدهم، كان امضى شهوراً وتقاضى مليونين ونصف المليون، قوله: "هل يوازي هذا المبلغ دعسة رنجر حذاء عسكري على رأس الأسير؟". ويعتبر ان الوزارات لم تقم بما عليها في تكريم الاسير الذي يعامل في اوروبا كمواطن من الدرجة الأولى أما "هنا فيعانون معاناة مريرة جداً". فوزارة الصحة لم تصدر بطاقة صحية للأسرى، ووزارة التربية لم تتخذ ترتيبات معينة ليكمل الأسرى تعليمهم ووزارة العمل لم تنفذ القانون الصادر عام 1999 القاضي بإعطاء الاسرى أولوية في التوظيف، ووزارة الثقافة لم تهتم بتجاربهم وتؤرخها، ووزارة الشؤون الاجتماعية لم تقم مراكز تأهيل لهم، ووزارتا الاعلام والخارجية لم تعدّا لهم ملفات لتقديمها الى الرأي العام المحلي والعالمي. وحتى وسام الأسير الذي أقر بمرسوم لم ينفذ حتى الآن ولم يتقلده سوى 17 أسيراً اطلقوا في الدفعة الأخيرة. ولا ينفي الشيخ حمود ان أسرى "حزب الله" الذين يبلغ عددهم أكثر من نصف عدد الأسرى، يتمتعون بأوضاع معيشية أفضل من سواهم. لكنه يقول: "ان الحزب يسعى قدر الامكان من خلال مشاريع وبرامج لرعاية شؤون الأسرى من كل المشارب على رغم انه ليس دولة، ويبذل قصارى جهده لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الأسرى الذين تقدر نسبة العاطلين عن العمل بينهم 40 في المئة" تاريخ المعتقلات الاسرائيلية بدأت حكاية اللبنانيين مع المعتقلات الاسرائيلية بعد حرب عام 1967، لكن الأمر اتخذ شكلاً أكثر وضوحاً و"قسوة" بعد اجتياح عام 1982 عندما استحدث الاحتلال الاسرائيلي معتقلات عرف منها "معمل صفا" في الغازية و"مدرسة الشجرة" في صور و"الريجي" في النبطية ومدرسة "الراهبات" في صيدا، اضافة الى عشرات الأماكن المخصصة للتوقيف والتعذيب، ثم استحدث معتقل "انصار". الذي تضمن 20 معسكراً في كل واحد 20 خيمة اضافة الى خيم صغيرة اعتبرت بمثابة حمامات ومطابخ. في عام 1985 أقفل هذا المعتقل واستحدث معتقل الخيام في ثكنة بناها الانتداب الفرنسي عام 1933، وسلم ادارته الى "جيش لبنانالجنوبي". وكان الاسرائيليون اتخذوا هذه الثكنة مركزاً للتحقيق في اجتياح العام 1978. وتضمن معتقل الخيام 67 زنزانة جماعية عرض الواحدة منها متران وطولها 3 أمتار ويسجن فيها 10 معتقلين، وزنازين انفرادية طول الواحدة 50 سنتيمتراً وكذلك عرضها وارتفاعها متر واحد. وكانت هناك سجون في ثكنة مرجعيون ومقر قيادة ال17 "اللحدي" ومركز التحقيق في العليم. وكذلك نقل اسرى لبنانيون كثر الى سجون داخل اسرائيل حيث لا يزال هناك ثلاثة هم عميد الاسرى سمير القنطار ويحيى سكاف لا تقر اسرائيل بوجوده ونسيم نسر. ومن هذه السجون: عسقلان وصرفند، والمسكوبية، ونفحة الصحراوي. وتعرض الأسرى لتعذيب نفسي وجسدي نتج عنه امراض كثيرة، وتشير الاحصاءات الى ان 111 اسيراً اصيبوا بمرض السكري، و132 بمرض القلب، و25 بأمراض جلدية، و272 بأمراض عصبية، و21 بالتهابات مزمنة، و7 بأمراض سرطانية، و1080 بداء الروماتيزم والمفاصل، و531 بالتكلس و58 بالضغط، و15 في الانف، و375 بإصابات في الجهاز الهضمي، و132 بأمراض صدرية وربو و102 في المسالك البولية، و262 بأمراض مختلفة، و79 في النظر، و98 في السمع، و7 حالات بكم، و253 بالشلل، و13 بإعاقة عقلية، و17 حالة اعاقات مختلفة نفسية وعصبية و9 بفقر دم. وبلغ عدد الاسرى الذين عانوا من امراض مختلفة نحو 2381، اما الذين يعانون من أمراض مختلفة من جراء الاعتقال والتعذيب فبلغ عددهم 2299. وبلغ عدد الرجال الذي اسروا في السجون الاسرائيلية والخيام 5200 أسير منهم 4932 رجلاً و268 امرأة. وبلغ عدد المعيلين منهم 3829، وعدد المتزوجين 4399. وبلغ عدد الأسرى المقاومين 1886، أما المدنيون فبلغ عددهم 1604 أسرى. أما عدد الذي توفوا داخل الزنازين وخارجها من الأسرى فبلغ 152 بينهم 17 قضوا تحت التعذيب.