قبل 30 عاماً، وضع هنري كارتييه - بريسون آلة التصوير الفوتوغرافي جانباً. ثم أخذ قلم الرصاص وانصرف الى الرسم. لم يتخلَّ عن "اللايكا" الألمانية التي رافقته حتى النهاية. فقط وضعها جانباً لترتاح، قبل ان يرتاح معها نهائياً. معها وبها طبع القرن العشرين "لحظات حاسمة"، بموازاة لارتيغ ودوانو وليس على حسابهما. فأصبح هذا الفن فناً راقياً، وأصبح الفرنسي الوسيم مدرسة رغماً عنه. لكنه، على رغم سيطرته في هذا الوسط الفني الصعب، رحل وفي قلبه حرقة، رافضاً لقب "أبو الصورة الفوتوغرافية الفرنسية". ففرنسا التي ولد فيها وعاش طويلاً، تجاهلته عبر المتحف الوطني للفن الحديث، وجاء الاعتراف الفني به من المقلب الآخر للأطلسي، بفضل غاليري جوليان ليفي عام 1933، ولاحقاً في متحف الفن الحديث في نيويورك عام 1947. يعتبر هنري كارتييه - بريسون من دون أدنى شك، وباعتراف أترابه، المصور الفوتوغرافي الذي وضع المفاهيم الجمالية الأكثر حداثة، هو الذي كان يعتبر نفسه "متحرراً"، رافضاً أية دوغماتية تكبله. لكن كتاباته القليلة حول التصوير الفوتوغرافي، وضعت، قواعد اللعبة بقوة وحزم. فحاول كثيرون التمثل بها، لكنهم حوروها، متذكرين فقط جملة في بداية كتابه "صور مسروقة"، منسوبة للكاردينال ريتز تقول: "لا شيء في هذا العالم الا وله لحظة حاسمة". ومنذ تلك اللحظة، أصبح كارتييه - بريسون المؤتمن على مفهوم جمالي عُرف ب"اللحظة الحاسمة"، أي استراق الجزء من الثانية الأكثر عمقاً وكثافة في مشهد ما. لكن هذه العبارة لم تظهر مطلقاً في أي من كتبه، والأرجح انها مأخوذة من الترجمة الأميركية لكتاب "صور مسروقة" الذي أصبح "اللحظة الحاسمة". سوريالي قبل كل شيء. لكنه، برأي من عرفه، نيّر في ذكائه، فوضوي وبورجوازي، إباحي ومحتشم، منفتح كريم وغضوب، لا يملك شهادات بل ثقافة كبيرة. كان يوقع بأحرف HCB، فأصبح الجميع يتعرف على أعماله وكتاباته المرتجفة بالأسود الصيني، رافضاً ان يصوره أحد، هو الذي ابتكر أسلوباً نهل منه كثيرون، واعتبر ناجحاً في جمع الأضداد، يدرج ما بين الحياة الفياضة والهندسة المضبوطة. فأصبح تأثيره لا يعرف الحدود، حتى عند المصورين الهواة، الذين كانوا يعتبرون ان المثال الأساسي لأية صورة "ناجحة" هو عمل من أعمال كارتييه - بريسون، الذائع الصيت والمتواضع على طريقته، ومؤسس وكالة "ماغنوم" الشهيرة. معه أصبح للصورة الناجحة، ثلاث قواعد: الأولى متأثرة بالسوريالية وتقضي باللحاق بالصدفة في "زوبعة المعاش"، و"بترك الصورة تأخذك" وليس العكس. والثانية هي استراق اللحظة الأكثر عمقاً لواقع خاطف، تلك "اللحظة الحاسمة"، وهي فاشلة اذا خلت من جهوزية كاملة للجسد والعقل. أما الثالثة، فتتطلب ان تكون الصورة مبنية بتناسق تام، حسب قواعد صورية هندسية، حتى انه يصبح ممكناً، عندها، النظر اليها مقلوبة من دون ان تفقد جاذبيتها. أما القواعد العامة، فهي السكون، والمفاجأة الصامتة لئلا يتأثر المصوَّر بفتح الواو. والأفضلية دائماً للصور بالأبيض والأسود، فالصور الملونة "مبتذلة"، "تصلح فقط للمجلات" والموضة والدعاية. "لم أكن مسافراً، كنت أسكن البلاد". هكذا كان يردد، فالصورة هي أولاً وسيلة للحياة، للوجود، للسفر حول العالم، لإظهاره للآخرين. من هنا هذه النظرة الجمالية الأساسية: "إن الشكل لا يصلح لشيء من دون الموضوع والحياة". هكذا صنع كارتييه - بريسون صداقاته، وهو يحسد عليها، تلك الأسماء التي اختصرت القرن العشرين: آراغون وبروتون، دالي وترومان كابوتي، فولكنر وغاندي، جون كينيدي ومارلين مونرو. وهكذا أيضاً صنع الذاكرة: "مسترقو النظر" في بروكسيل، الاجازات المدفوعة على ضفاف الماء، مشردو مرسيليا، تتويج الملك في لندن، مومسات اليكانتي في اسبانيا، اغتيال غاندي عام 1948، الثورة الصينية عام 1949. زيادة عن تلك الصور التي دخلت التاريخ لصديقه جياكوميتي، وماتيس وسارتر ومورياك. في البداية، أغوته أفريقيا، فقصدها هروباً، "كهروب" رامبو تماماً، النابغة الآخر، ثم عاد من هروبه جاهزاً. فالمغامر في داخله "أحس نفسه مرغماً على الشهادة عن جراح العالم وآلامه، بواسطة شيء أسرع من ريشة الرسام". فكان ان بنى أسطورته، بين عامي 1931 و1934، بين ايطاليا والمكسيك، على تلك الصور المجنونة، بنات ساعتها، غالباً برفقة صديقه مانديارغ، الذي شهد حينها "ولادة أكبر مصور فوتوغرافي في التاريخ الحديث"، يصور بالفطرة، فيفرض هذا النشاط نفسه عليه كما يفرض الشعر نفسه على كبار الشعراء. أسره الألمان الذين قاتل ضدهم، ففرّ من الأسر بعد محاولات فاشلة عدة، يتأبط كتاب "عوليس" لجيمس جويس. وكان هذا الحدث أساس قراره إتلاف كل نيغاتيفات ما قبل الحرب تقريباً. ذلك ان كارتييه - بريسون قسّم حياته قسمين: ما قبل الحرب وما بعدها، وقرر ان يبقي للتاريخ القسم الثاني فقط. ثم انطلق يعمل للصحف المصورة. فهي التي بإمكانها ان تظهر للعالم الوجه الآخر الذي أراده له. وكان أول مصور أجنبي تقبل به السلطات السوفياتية عام 1954، بعد الانفراج بين المعسكرين. لم يعلن عن موت هنري كارتييه - بريسون الا في اليوم التالي، بعد دفنه، في الرابع من آب أغسطس الجاري، عن 95 عاماً، بكل تكتم وبوجود بعض الأهل والأصدقاء فقط. انها ارادته. لا ضجيج ولا صحف ولا رسميات. بهدوء تام لئلا يعكر صفحة الماء. هكذا ربما يستأذن الكبار