يقوم المفكر الإسلامي الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بدور مؤثر في سورية وفي ما يتعدى حدودها أيضاً منذ ان ميّز موقفه عن موقف "الاخوان المسلمين". والشيخ البوطي محاور من الطراز الأول، وهو في اعتداله تحول مدرسة دينية ليس في سورية وحسب، وإنما في أكثر من بلد إسلامي. زار البوطي أخيراً مدينة مرسيليا الفرنسية، حيث التقى الجالية الإسلامية فيها وتحلق أعضاؤها حوله خطيباً ومحاوراً ومرشداً وواعظاً يغلب الاعتدال على أفكاره من دون تنازل عن الثوابت. في لقائه مع "الوسط" بدا هادئاً ومقنعاً، حتى في رده على الأسئلة الحساسة، فلم يجب إلا بالتي هي أحسن، وأحياناً يكتفي بابتسامة هي كل جوابه، خصوصاً في مسألة الحجاب في سورية وليس في فرنسا. ما هدف زيارتكم إلى مرسيليا بشكل عام، وإلى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بشكل خاص؟ - دعيتُ أولاً إلى المركز الثقافي الاجتماعي في باريس للاشتراك في ندوة بعنوان "موقف الإسلام من الآخر"، ثم بعد ذلك دُعيت إلى مرسيليا من قبل رئاسة أئمة المساجد لإلقاء محاضرات. وتمت برمجة هذا اللقاء لإلقاء محاضرات بعض منها في مدينة كان ونيس وبعضها الآخر في هذه المدينة مرسيليا. بماذا تنصحون المسلمين المقيمين في أوروبا لمواجهة الحملات والتمييز ضدهم؟ - انصح المسلمين عموماً بأن يتخلقوا بأخلاق الإسلام، فإنهم إن تخلقوا بالأخلاق الإسلامية السليمة، كل هذه الاتهامات تذهب وكل هذا النسيج من السحب المتمثلة في الاتهام بالإرهاب والتطرف وما إلى ذلك، كل ذلك يتبدد ويذهب ولا يؤثر. لكن المشكلة أن كثيرين من المسلمين، ولا سيما في بلاد الغرب، لا يتعاملون مع بعضهم بعضا ولا مع غيرهم بالأخلاق الإسلامية السليمة. كيف تنظرون إلى اتهام الإسلام بالإرهاب؟ - هذا الاتهام نتيجة خطة صهيونية سُخرت لها أميركا بهدف إثارة فتنة ومن ثم حرب دينية ثالثة يلتهب أوارها الآن في الشرق الأوسط وبدافع من المشكلة الفلسطينية أو غيرها، والهدف من ذلك تبديد الخطر الإسلامي الذي يجتاح العالم، كما تدّعيه الصهيونية والغرب. فالغرب والدوائر الصهيونية يُخيّل إليها أن الإسلام أصبح خطراً على حضارتها، إذاً ينبغي القضاء على الإسلام، وكيف يتم القضاء على الإسلام؟ يتم بمثل هذه الاتهامات التي تفجر أسباب حرب عالمية ثالثة. هل تعلقون آمالاً كبيرة على مؤتمرات الحوار الإسلامي - المسيحي، خصوصاً في الغرب؟ - أنا منذ زمن بعيد أجنح إلى التفاؤل، ولا أجنح أبداً إلى التشاؤم. كل نوع من أنواع الحوار أرى فيه فائدة حتى ولو كنّا نتوجس خيفة منه. كل ما يسمى حوار مطلوب من المسلم. يا ترى هل هذه الحوارات التي تهدف إلى التقارب تستبطن أهدافاً أخرى؟ هل هنالك مطبات في الطريق؟ هذه أمور لا تهمنا، لكن ينبغي أن نكون يقظين ونتداعى لمثل هذه الحوارات ونستجيب لها. هل توافقون على التصنيفات التي تتحدث عن إسلام سياسي وإسلام ديني وإسلام متطرف وآخر معتدل؟ - نعم أكيد أوافق ان هناك من يمزق الإسلام إلى إسلامات متعددة، فالإسلام في أصله واحد لكن هناك من يشوه الإسلام ويظهره بمظهر التطرف، بينما هو بريء من ذلك. هناك من جنح إلى تكفير المسلمين لأي سبب، والإسلام بريء من ذلك. وهناك من ترك الإسلام التديني وتفرغ إلى الإسلام السياسي، يعني حوّل نشاطه الإسلامي إلى إسلام حركي، ووضع الخطط للوصول إلى المراكز السياسية، مثل مجلس الشعب ثم الوزارة، ثم تقلد المسؤوليات السياسية وجعل نشاطه الإسلامي خاصاً بذلك. لكن السؤال الأهم هل يُقر الإسلام هؤلاء على هذه التصنيفات؟ طبعاً لا. فالإسلام ينأى عن التطرف، والإسلام لا يقر التكفير هكذا بصورة اجمالية. الاسلام لا يجوز أن يجنّد في أعمال سياسية قبل التربية الدينية الاساسية التي ينبغي أن تكون هي المطلق. ما رأيكم بمقولة صراع الحضارات، وأين يقف مفكرو الإسلام منها؟ - أول من طرح مقولة صراع الحضارات هو هينتنغتون في كتابه "صدام الحضارات"، والواقع ان هذه الدعوة طويت، حتى انني أعلم ان هينتنغتون نفسه صاحب الكتاب تراجع عنها، لكن الأطروحة تجددت بعد حوادث 11 ايلول. ما موقف الاسلام مما يُسمى صدام الحضارات؟ الإسلام لم يدع يوماً الى صدام، وانما كان ولا يزال يدعو الى حوار، والحضارة الاسلامية التي ظهرت في غرناطة وقرطبة وانتشرت في المشرق وفي المغرب كلها نتيجة حوار ولم تكن نتيجة صدام. لكن لماذا أعيدت أطروحة صدام الحضارات مرة جديدة؟ للسبب الذي ذكرته لك. ان الدوائر الصهيونية تسعى باستمرار الى الصدام ظناً منها أنها ستكسب الرهان، فإذا كسبت الرهان فالاسلام سينتهي ومن ثم الصهيونية العالمية هي التي تسود. هل تقومون بوساطة ما بين السلطات السورية وجماعة "الاخوان المسلمين" في سورية؟ - أنا لم أكلف بمثل هذه الوساطة، لكن الذي أعلمه ان سورية ماضية في حل هذه المشكلة وانهائها، واعتقد بأن الأيام المقبلة ستشهد مثل هذا الحل. ما رأيكم بقانون محاسبة سورية الذي أقره الكونغرس الاميركي؟ - محاسبة اميركا لسورية في الواقع ليست محاسبة آتية من أميركا، وانما من الصهيونية التي تمثل السلطة الحاكمة على اميركا، فأميركا تمثل الجندي المنفذ لتوجيهات السلطة الصهيونية في العالم، وسبب ذلك موقف سورية الذي لا يلين ولن يلين. طبعاً الصهيونية والدوائر الاميركية عندما يئست من إركاع سورية لوحت بالتهديد، لكن هذا التهديد لا يفيد، فسورية لا تتعامل مع أميركا، وليست عليها مديونية لها وتعاملها الاقتصادي هو مع أوروبا وليس مع اميركا، لذلك فالمسألة بالنسبة الى سورية غير مهمة. هل تتوقعون نتائج ايجابية من المؤسسات الاسلامية التي تعمل للتقريب بين المذاهب؟ - قلت انني دائماً متفائل، ودائماً أدعو الى الحوار، طبعاً مع اليقظة، فسلسلة المؤتمرات التي تعقد بقصد التقريب بين المذاهب اشتركت في كثير منها ومع الأسف لم تجد شيئاً الى الآن، لكنني مع هذا أدعو الى مواصلة هذه الحوارات. كيف يمكنكم اقناع الآخر بالفرق بين الارهاب والمقاومة؟ - عندما لا يريد الآخر ان يعلم، ليس هنالك أي سبيل الى اقناعه وعندما يكون الآخر مستعداً لأن يعلم في دقيقة واحدة يمكن ان يتعلم. هل تعتبرون ان هناك نيات كامنة وراء توجيه الاتهام الى المسلمين والاسلام بعد كل عملية ارهابية؟ - قسم كبير من هذه العمليات الارهابية طبخها الذين يقاومون الارهاب، وعندي وثائق دالة على ذلك. قسم كبير لا الكل من هذه العمليات الارهابية طُبخت في أقبية صهيونية تتظاهر بخوفها من الارهاب ومقاومتها للارهاب، لماذا؟ لأنها تريد ان تجعل من الارهاب حجة للانقضاض والاصطياد. ولذلك مهما تحدثنا عن كذب من يتهمون الاسلام بالارهاب، لن نصل الى نتيجة. ألا تعرفين قصة الذئب الذي اتهم الحمل بأنه يعكر عليه الماء! في مرسيليا إلتقيتم مع شخصيات دينية مسيحية ويهودية، فما كان فحوى حواركم وما الهدف منه؟ - كان الهدف من ذلك، الحوار والقيام بالواجب من جهتنا، أما حديثي معهم فتركز على ان قادة الأديان السماوية المختلفة يجمعهم، أو من المفروض ان تجمعهم محبة الله، ومحبة الله لا بد ان تثمر محبة عباد الله، ومحبة عباد الله لا بد لها من غذاء، وغذاؤها العدل. فالعدالة الاجتماعية اذا طبقت تتغذى المحبة وتنمو، لكن اذا غابت العدالة الاجتماعية تتبدد هذه المحبة. فإذا كنتم صادقين في محبتكم لله فارجعوا الى "ترمومتر" ميزان العدالة الاجتماعية. بماذا تنصحون الشباب المسلم في فرنسا؟ - نصيحتي لهم أولاً ان يجمعوا صفوفهم وان يسدوا ثغرات الخلافات والشقاقات التي ينميها الاستعمار الصهيوني وغيره في ما بينهم. ثانياً ان يخلصوا لله عز وجل في دينهم وان يبدأوا من الاسلام الديني لينتهوا بعد ذلك الى الاسلام السياسي وان لا يقارعوا الاسلام الديني بالاسلام السياسي، يعني ان يطوروا الاسلام السياسي الى ان يأتي أمده. هذه هي نصيحتي، كما أرجو من المسلمين الذين يوجدون في هذه البلاد الغربية ألا يتأثروا بالعرقية ولا بالعصبية، فهم الآن موجودون هنا وعلى أرض واحدة. فلا يقولن المغربي انا مغربي والجزائري أنا جزائري والتونسي أنا تونسي، لا، لا، عندما يعودون الى أوطانهم لهم ذلك، لكن ما داموا هنا في فرنسا فيلحاولوا ان يتفاعلوا في ما بينهم وان يكوّنوا منهم وحدة تكون قدوة لنا في بلادنا العربية. ما رسالتكم للفتيات المحجبات في فرنسا لمواجهة القانون القاضي بمنع الحجاب؟ - القانون الفرنسي القاضي بمنع الحجاب ابتلاء من الله عز وجل. يمتحن الله بهذا الابتلاء القانون صدق ايمان الفتيات المسلمات. فإن صبرن وتمسكن بحجابهن بأمر الله، فإن الله يجعل بعد العسر يسرا، ويجعل لهذه المشكلة فرجاً أكيداً. أنا أعلم ان هذا القانون لن يستمر، لكن اذا استسلم المسلمون والنساء والرجال وخضعوا وساروا وراء مصالحهم التي تقتضي غض النظر عن أمر الله، فإن الله عز وجل عندئذ سيبتليهن بأكثر، لذلك فليصبرن وليتحملن النتائج الى فترة قريبة مع الإلتجاء الى الله وصدق التضرع بأن يكشف الله عنهن هذا الأمر، وأنا ضامن ان هذا العسر سيزول ان شاء الله