بعد فضيحة سجن أبو غريب في العراق التي لا تزال تتفاعل حتى اليوم، على رغم تأكيد الرئيس جورج بوش نيته الأمر بإقفال هذا السجن قريباً، أكدت صحيفة "واشنطن بوست" ان وزارتي الدفاع والعدل وافقتا عام 2003 على لائحة سرية تشمل حوالى 20 تقنية استنطاق لتطبيقها في السجون العسكرية. وليس أكثر هذه التقنيات رعباً واذلالاً تلك الصورة التي تظهر سجيناً عراقياً عارياً ومرتعباً تهدده كلاب يمسك بها جنود اميركيون. لكن ما لم تذكره "واشنطن بوست"، وما لم يلمح له مطلقاً الرئيس الأميركي في معرض دفاعه عن وزير حربه دونالد رامسفيلد ومحاولته التقليل من أهمية ما حصل في سجن أبو غريب، وهي أيضاً أمور لم يذكرها أي مسؤول أميركي، عسكرياً كان أم مدنياً، هو ان أول المتهمين بعمليات التعذيب أشخاص لا ينتمون الى الجيش الأميركي النظامي، بل الى شركات أمن خاصة تقوم أيضاً بجمع المعلومات لمصلحة الجيش، من دون ان يعني ذلك تبرئة العسكريين من أعمال التعذيب هذه، التي وضعت مستقبل بوش السياسي على المحك. وقد تبين من ذلك ان الادارة الأميركية، ومن ورائها وزارة الدفاع لا تريد ان تظهر للعلن موقع الشركات الخاصة المتنامي أمنياً وعسكرياً في مختلف المجالات، الى جانب وحدات الجيش النظامية. فقد أصبح من الصعب التغاضي عن قيام تلك الشركات مثلاً بتدريب القوات الأميركية في الصحراء، وحماية شخصيات سياسية، ليلاً ونهاراً، كالرئيس الأفغاني حميد قرضاي، وتأمين صيانة وحماية سفارات وقواعد خارج الولاياتالمتحدة، والتحقيق مع المعتقلين وجمع المعلومات. فالمهمات المنوطة بها لم تعد محصورة بالأمور اللوجستية الى درجة ان مهامها اختلطت مع المهام العسكرية بل تضاربت معها في الكثير من الأحيان. وما لم تذكره وسائل الاعلام مثلاً هو ان احدى هذه الشركات الخاصة تقوم بحماية بول بريمر، الحاكم المدني للعراق، كما تقوم شركة أخرى، من مجموعة هاليبرتون - التي ارتبط اسمها باسم ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي - بتأمين الحماية للقوافل العسكرية التي تقوم بتموين الجيش الأميركي في العراق. ويبلغ عدد العاملين في هذه الشركات الخاصة في العراق حوالي 20 ألف شخص، اي ما يساوي ضعف عدد القوات البريطانية المشاركة في التحالف. يتذكر الجميع صور العسكريين الأربعة الذين قتلوا في الفلوجة وجرى التنكيل بجثثهم التي عرضتها شاشات التلفزة. لكن المهم في الأمر هو ان الأميركيين، عندما علموا بأن الجثث هي لرجال يعملون في شركات عسكرية خاصة، بدأوا يتساءلون عن دور الجيش وعن سبب استعانته بهذه الشركات في مهام عسكرية، فهم كانوا يجهلون حجم المهام الموكلة اليها، ومدى ارتباط الجيش الأميركي بها. وقد عرف في ما بعد ان الرجال الأربعة ينتمون الى شركة "بلاكووتر" الصغيرة، البعيدة كل البعد عن تأمين المرتزقة والأعمال التقليدية المشابهة، وأنها ضمن مجموعة كبيرة من الشركات اختارت التخصص في صناعة مزدهرة جداً، في مجال الشركات العسكرية الخاصة التي تؤمن اليوم في العراق مجموعة كبيرة من المهام المختلفة كانت في السابق من اختصاص العسكريين وحدهم، ومن بينها القيام بأعمال قتالية. وهي شركات تُعدّ اليوم بالمئات، وتشغّل آلاف الموظفين، وتتقاضى بلايين الدولارات. أما كيف تبرر الادارة الأميركية اللجوء الى هذا النوع من الخدمات، في مهام تتطلب دقة وخبرة، كالاستخبارات وجمع المعلومات وحماية المراكز الحساسة والشخصيات، فهي تؤكد ان حاجتها تنامت كثيراً، بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 الى شركات تؤمن خدمات ضرورية كالمترجمين، وتؤمن لاحقاً اخصائيين بإمكانهم ارغام المعتقلين العراقيين على الاعتراف، كما حصل في أفغانستان. ويكفي القاء نظرة على عشرات المواقع التابعة للبنتاغون على شبكة الانترنت لأخذ فكرة عن حاجات وزارة الدفاع التي تعرض وظائف في العراق، في مجالات الاستجواب والتحقيق مع المعتقلين، والترجمة والألسنية وجرائم الحرب واختصاصات أخرى كمحاربة التجسس والتدريب. لقد ارتفعت في الأسابيع الاخيرة اصوات في الكونغرس الأميركي تطالب الرئيس بوش بتعليق فوري للعقود مع الشركات الضالعة في المراقبة والأمن واستجواب المعتقلين. وسُلطت الأضواء في شكل خاص على شركتين اتهم بعض العاملين فيها بالضلوع في عملية تعذيب المعتقلين، هما "كاسي انترناشيونال" و"تيتان"، ورد ذكرهما في تقرير الجنرال أنطونيو تاغوبا ونشرته صحيفة "نيويوركر"، من دون ان يبلغ حتى اليوم عن ملاحقات بحق الأشخاص المتهمين. تعمل الشركات العسكرية الخاصة في حوالى 50 منطقة نزاع حول العالم، وتعتبر الدولة الأميركية مستخدمها الأول. فقد وقعت واشنطن خلال العقد الأخير أكثر من 3 آلاف عقد عمل مع هذا النوع من الشركات، اذ دفعت نهاية الحرب الباردة الادارة الأميركية الى تقليص عدد العسكريين وحصر النفقات العسكرية بحدود 30 في المئة، فنتج عن ذلك نمو ملحوظ للشركات العسكرية الخاصة، نتيجة الطلب المتزايد على الانتشار العسكري الأميركي في العالم والمتطلبات التقنية المتزايدة للحرب الحديثة. وكانت هذه الشركات، حتى بداية حرب العراق، تعمل بخفر شديد، فيما كانت المعلومات عنها نادرة. وكان عسكريون قلائل يعلمون مثلاً ان الطائرة التابعة لوكالة الاستخبارات الأميركية والتي أسقطت خطأ طائرة مدنية تقل مبشرين أميركيين فوق البيرو، كانت مستخدمة من قبل هذه الشركات. وكذلك بالنسبة الى الأميركيين الثلاثة الذين قتلوا في غزة في خريف 2003، فكانت أكثرية المتابعين لهذه الأخبار تجهل انهم موظفون في احدى هذه الشركات العسكرية الخاصة. مع بداية حرب العراق، أخذ دور هذه الشركات يتوضح شيئاً فشيئاً. وهي تتقاضى مجتمعة مبالغ مالية هائلة، يؤكد المطلعون على كواليسها انها قد تتعدى 100 بليون دولار في السنة. وقد شارك قسم منها في تمويل حملات انتخابية ودعم أحزاب أميركية. ولاحظ المراقبون ان شركة "هاليبرتون"، التي كانت تقدم دعماً ملحوظاً للحزب الجمهوري، توقفت عن ذلك بعد وصول رئيسها ديك تشيني الى نيابة الرئاسة الأميركية. لكنها في المقابل، ضاعفت عقودها مرات وعوّضت خلال رئاسة جورج بوش، أضعاف ما استثمرته قبل ذلك. وهي شركات لعبت منذ البداية دوراً أساسياً في الحرب في أفغانستان، فقد انتشر رجالها مع طلائع العسكريين الأميركيين ورجال "سي. آي. ايه" في المنطقة، وأسندت اليهم مهام صيانة العتاد العسكري، والدعم اللوجستي، والمشاركة في عمليات المراقبة الجوية لتحديد الأهداف. ويتابع "موظفون" في هذه الشركات اليوم عملهم مع الجيش الأميركي ووكالة الاستخبارات المركزية في محاولة القبض على زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن وجماعاته على الحدود الأفغانية - الباكستانية. كما شاركوا في السابق في مهمات متعددة في الفيليبين ضد الثوار، وفي كولومبيا ضد تجار المخدرات، وفي جورجيا حيث قاموا بتدريب وحدات الجيش الجديد بعد انفصال الدولة عن الاتحاد السوفياتي. والمعروف أيضاً ان معتقلي غوانتانامو محتجزون في سجن عسكري قامت ببنائه شركة من مجموعة "هاليبرتون"، حيث يقوم محققون من شركة "تيتان" العسكرية الخاصة باستجوابهم. لكن هذه الصناعة الجديدة لم تبلغ ذروتها الا مع حرب العراق. فهي شاركت في شكل واسع في أعمال التحضير والتموين والتسليح وحتى التدريب وتمارين التحضير للمعارك والتخطيط لها في صحراء الكويت. حتى ان المجمع العسكري الضخم في الدوحة الذي انطلقت منه العملية العسكرية قامت ببنائه وصيانته وادارته وحراسته شركات أميركية خاصة. وقد زادت ضرورة اللجوء الى خدمات هذه الشركات قوة خلال احتلال العراق، مع فشل العديد من السيناريوهات العسكرية المحبوكة في البنتاغون وتتمحور مهام هذه الشركات حول نقاط ثلاث أساسية: 1- الدعم العسكري المتواصل. 2- التدريب القتالي والاستشارات العسكرية. 3- العمليات العسكرية والتكتيكية. ولا يخلو هذا التعاون من مشاكل مهمة في سير العمليات، لأن هذه الشركات لا تنتمي في الواقع الى مؤسسة الجيش، خصوصاً في تحديد الأدوار والمسؤوليات والعواقب. ويعتقد مسؤولو الادارة الموقتة للتحالف ان عدد موظفي الشركات الخاصة سيرتفع الى حدود 30 ألف بعد تسليم الحكم للعراقيين في نهاية شهر حزيران يونيو الحالي. وتهدف الادارة الأميركية من وراء ذلك الى تخفيف الكلفة السياسية للحرب. كما انها ليست ملزمة كما هي الحال مع العسكريين النظاميين بابلاغ أهل هؤلاء في حال وفاتهم، بل تترك الأمر لأرباب العمل. تستخدم هذه الشركات أشخاصاً من حوالى 30 جنسية مختلفة تتوزع كافة المهام الموكلة اليها. وقد نالت شركة "هاليبرتون" حصة الأسد في عقود العراق لتبلغ ما يقارب 6 بلايين دولار. كما تقوم شركة "دين كورب" بدور مهم في تدريب الشرطة العراقية بعقود قد تصل الى 800 مليون دولار. وأوكلت الى شركة "ايرينيس" مهمة تشكيل قوة شبه عسكرية لحماية حقول النفط، وهي لفتت الأنظار اليها عندما استخدمت عسكريين سابقين من جنوب أفريقيا كانوا شاركوا في عمليات القمع الى جانب نظام التمييز العنصري في تلك الدولة. وتقوم شركات مثل "فينيل" و"ام. بي. آر. آي" و"نور يو. اس. آيه" بالتفرغ لتدريب وتشكيل وتجهيز الجيش العراقي الجديد، بكلفة لا تقل عن بليوني دولار. وتضم شركة "ام. بي. آر. آي" بشكل عام عدداً كبيراً من قدامى العسكريين الأميركيين من بينهم جنرالات، وتقوم مهامها الأساسية على تدريب الجيش الأميركي، اضافة الى عقود في نيجيريا وكرواتيا والبوسنة وأفغانستان. واللافت ان عقود شركة "نور" قد علّقت بعدما ظهر انها مرتبطة بعضو مجلس الحكم العراقي أحمد الجلبي. لكن التطور الأساس في عمل هذه الشركات العسكرية الخاصة ظهر في الدور العسكري الجديد الذي تضطلع به. فللمرة الأولى في العراق تلعب شركات خاصة دوراً تكتيكياً الى جانب القوات النظامية للتحالف في ثلاثة مجالات أساسية: المشاركة في الدفاع عن المنشآت الحيوية، حماية الشخصيات المهمة مثل بول بريمر، ومواكبة القوافل على أنواعها، مما يعرضها للمخاطر نفسها التي يتعرض لها العسكريون النظاميون. وقد شاركت هذه الشركات في معارك شرسة ضد المقاومة العراقية حيث خسرت العديد من مقاتليها. ويتقاضى "موظفو" هذه الشركات مبالغ تساوي أضعاف رواتب أفراد الجيش النظامي، وتصل الى الف دولار في اليوم في المهام الصعبة. لكن التمييز العرقي يظهر بوضوح فيها، بحيث يتقاضى عسكري أميركي سابق مثلاً، متخصص في المهام الصعبة، عشرة أضعاف ما يتقاضاه مثيله من جنسية أخرى من دول العالم الثالث. كما تتقاضى شركة "بلاكووتر" وحدها، وفقط لحماية بريمر، مبلغ 21 مليون دولار في السنة، وتؤمن له كل تنقلاته بواسطة مروحيتين عسكريتين. ويعتقد مسؤولو هذه الشركات ان العراق هو حالياً "منجم ذهب"، ذلك ان هامش الأرباح فيه يفوق بكثير المخاطر والخسائر الممكنة على الأرض. لكن كثيرين بدأوا يطرحون أسئلة حول مهام هذه الشركات، خصوصاً أن موظفيها لا يخضعون لأي قانون حربي، ويدورون في فراغ قضائي محيّر. فالمدنيون الذين يعملون مع الجيش الأميركي لا يخضعون للمحاكمات العسكرية اذا لم يعلن الكونغرس الحرب العامة مما يعني ان موظفي "تيتان" و"سي. آي. سي. آي" المتهمين بالمشاركة في تعذيب معتقلي أبو غريب قد لا ينالون عقابهم أبداً أرقام وفضائح تحاول شركة "تيتان" العسكرية الخاصة اخفاء فضيحتها الجديدة، بعدما تبين مشاركة اثنين من موظفيها في عمليات التعذيب في سجن أبو غريب، وهي كانت تعرضت لاتهامات تلتها تحقيقات معمقة من قبل ادارة الأسواق المالية الأميركية ووزارة العدل، لاتهامها بدفع مبالغ غير شرعية لمسؤولين في دول أجنبية. ويحاول عملاق الصناعات الحربية الأميركية لوكهيد - مارتن شراء شركة "تيتان" بحوالي 5.2 بليون دولار. لكن الغموض يلف قضية الشراء بعد الفضيحة الجديدة، المتهم فيها جون اسرائيل وعادل نخلة العاملان لديها بصفة رسمية كمترجمين لدى احدى مجموعات الاستخبارات والاستجوابات. وقد طرحت هذه التجاوزات مسألة تنامي دور هذه الشركات غير المضبوطة في العمليات العسكرية الأميركية. ذلك ان الشركات المذكورة أصبحت موجودة في شكل كبير لا يمكن اغفاله، حتى انه يعتقد ان هناك مدنياً مقابل 6 عسكريين موجودين في ميدان المعارك، يتبع لإحدى هذه الشركات. وكان هؤلاء المدنيون من أوائل الواصلين الى الأراضي العراقية مع كميات المعدات الضخمة والتجهيزات والأسلحة والذخائر تحضيراً لحرب العراق. لكن عدد العاملين في هذه الشركات الذين يستخدمهم الجيش الأميركي ما زال محاطاً بسرية، وكذلك الأموال المخصصة للعقود معها. وهي تتحاشى التمييز بين أعمالها المدنية والعسكرية. لكن هذه السوق تقدر، حسب بعض المصادر الموثوقة بحوالى 100 بليون دولار في السنة. ويؤكد هؤلاء ان حوالى 40 شركة تعمل مع البنتاغون على الأرض، من أهمها كيلوغ براون أند روت، التي قامت بتأمين الخدمات اللوجستية للقوات الأميركية في البلقان في مقابل 2.2 بليون دولار. وتقوم هذه الشركة التابعة لمجموعة هاليبرتون بتأمين الخدمات نفسها في أفغانستانوالعراق في مقابل 4 بلايين دولار. وارتكزت شهرة شركة "إم. بي. آر. آي" على انها توظف جنرالات متقاعدين بأعداد تحسدها عليها وزارة الدفاع نفسها. وهي تستخدم أكثر من ألف موظف، غالبيتهم من قدامى العسكريين. وحصلت خلال السنوات الأخيرة على أكثر من 200 عقد مختلف لتدريب وحدات عسكرية أميركية. وهناك شركات أقل شهرة وتنتشر في بلدان أخرى، مما دفع مكتب المحاسبة العامة في الكونغرس الى اتهام الجيش بغض النظر عن كلفة هذا النوع من الخدمات.