هل كان دعم الرئيس الاميركي جورج بوش لخطة أرييل شارون بلفظ غزة وابتلاع الضفة الغربية، تكتيكاً انتخابياً داخلياً أم انقلاباً استراتيجياً خارجياً؟ لنقل، أولاً، إن البصمات الانتخابية واضحة في كل أسطر رسالة الضمانات البوشية لشارون. فالرئيس الاميركي لم يكن ليقدم على فعلته هذه، التي أطاحت بشطحة قلم واحدة تاريخاً من الديبلوماسية الاميركية عمره 56 عاماً القرار 242، "الغموض الاستراتيجي"، ادعاء الحياد في الصراع العربي - الاسرائيلي، لولا شعوره بأن مصيره السياسي برمته بات معلقاً على مشجب يهودي. لماذا اليهود؟ لأن هؤلاء، وعلى رغم انهم لا يشكلون سوى 2 في المئة من الشعب الاميركي و4 في المئة من اجمالي الناخبين، يسيطرون على ما يسمى "الساحل الذهبي" في فلوريدا، الذي ينتظر أن يلعب في تشرين الثاني نوفمبر المقبل الدور الحاسم نفسه الذي لعبه في انتخابات الرئاسة العام 2000. من دون ان ننسى بالطبع ان الاموال اليهودية تمسك بخناق لوس أنجليس وسان فرانسيسكو وشيكاغو وميامي ونيويورك، التي تعتبر الخزان الاكبر للتبرعات والاصوات الانتخابية الرئيسة. وبما ان كل الاستطلاعات تشير الى أن الاصوات منقسمة بالتساوي تقريباً بين بوش وجون كيري، فإن دور اليهود الانتخابي والمالي قد يثبت أنه بيضة الميزان الأبرز في صناديق الاقتراع. لكن، وبعد قول كل شيء عن هذه الحاجة الانتخابية الملحة، تبرز على الفور علامات أخرى على الطريق تقودنا الى محصلات أخرى: بوش فعل ما فعل، لأن هذا يتطابق مع توجهاته الاستراتيجية الجديدة التي تبدأ وتنتهي بجملتين اثنتين: استبدال مفهوم السلام بمبدأ موازين القوى، ومبدأ القانون الدولي بمفهوم القوة. وهذا ينطبق على الشرق الاوسط، كما على قارة أوراسيا وبقية العالم. هذان الهدفان كانا تبلورا في وقت مبكر من العام 1992 في وثيقة اعدها فريق من المحافظين الجمهوريين الاميركيين بينهم بول ولفوفيتز وخليل زاد زالماي، نصت على أنه يتوجب على الولاياتالمتحدة أن تكون مستعدة لاستخدام القوة لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. كما قالت إن على أميركا ان تكون جاهزة لتعمل بشكل منفرد حين يصعب تنظيم عمل جماعي. وقبل ثلاث سنوات من احداث 11 أيلول سبتمبر 2001، وبالتحديد في كانون الثاني يناير 1998، كان فريق آخر من المحافظين يحذرون الرئيس بيل كلينتون في رسالة مفتوحة من ان "احتواء" العراق كان سياسة فاشلة، وأن ازالة الرئيس العراقي صدام حسين من السلطة، يجب أن تصبح الآن هدف السياسة الخارجية الاميركية. ومن بين الموقعين ال18: دونالد رامسفيلد، وولفوفيتز وريتشارد أرميتاج وريتشارد بيرل. وكل هؤلاء كانوا مسؤولين سابقين في الادارات الجمهورية وتبوأوا مراكز أساسية في ادارة جورج بوش الابن 2000. هاتان الوثيقتان، اضافة الى دراسات ومقالات تعكس آراء المحافظين الجدد، وجدت في النهاية فرصتها بعد احداث 11 ايلول. وفي النهاية ترجم ذلك نفسه في سياسات رسمية على مرحلتين : الاولى في 29 كانون الثاني 2002، حين اعلن الرئيس بوش عن مبدأ "محور الشر". قال في خطاب عن حال الأمة: "... دول كهذه، مع حلفائها الارهابيين، تشكل محور شر، وتتسلح لتهديد سلام العالم عبر السعي للحصول على أسلحة الدمار الشامل. هذه الانظمة تشكل خطراً متنامياً. انها يمكن ان تزود الارهابيين بهذه الاسلحة وتعطيهم الوسائل لتنفيذ أحقادهم. وفي كل الاحوال، ثمن اللامبالاة سيكون كارثياً". بالطبع لم تكن هذه المرة الاولى التي يستخدم فيها تعبير "محور الشر". ففي العام 1998 تحدث الرئيس كلينتون أيضاً عن محور غير مقدس بين الارهابيين والدول الخارجة عن القانون التي تؤويهم". وفي نهاية ذلك العام أمر كلينتون بشن غارات على العراق بسبب رفض صدام حسين التعاون مع المفتشين الدوليين. بيد ان هذه كانت مجرد اشارات الى مبدأ، ولم تتطور في عهد كلينتون الى سياسات محددة. الامر كان يجب ان ينتظر مجيء بوش الابن الى البيت الابيض، اضافة الى 11 ايلول. وهذا الانتظار لم يطل. فبعد نحو خمسة أشهر من "محور الشر"، ولد رسمياً مبدأ الحروب الاستباقية، ليحل مكان مبدأي الاستيعاب والردع اللذين سادا طيلة حقبة الحرب الباردة. في خطاب له في وست بوينت، سجل الرئيس بوش النقاط الرئيسة الاتية: طيلة معظم القرن الماضي، اعتمد دفاع الاميركيين على مبادئ الحرب الباردة الخاصة بالردع والاحتواء. في بعض الحالات، هذه الاستراتيجيات لا تزال قابلة للتطبيق. لكن التهديدات الجديدة تتطلب تفكيراً جديداً. فالردع - أي وعد الدمار الشامل ضد الدول - لا يعني شيئاً لشبكات الارهاب السرية التي لا تملك لا دولة ولا مواطنين بحيث تكون مضطرة للدفاع عنهم. الاحتواء ليس ممكناً حين يكون في مقدور الديكتاتوريين غير المتوازنين الحائزين على أسلحة الدمار الشامل أن يزودوا الارهابيين بها. لا نستطيع الدفاع عن أميركا وعن أصدقائنا بأن نأمل الافضل. اذا ما انتظرنا كي تتحقق التهديدات، سنكون قد انتظرنا طويلاً. أمننا يتطلب من الاميركيين أن يتطلعوا الى الامام، وأن يكونوا مستعدين للعمل الاستباقي حين يكون ذلك ضروريا، للدفاع عن حرياتنا وأرواحنا. هذا التوجه الجديد يفترض انه سجل قطيعة مع "مبدأ ترومان" حول الاستيعاب والردع الذي ساد طيلة حقبة الحرب الباردة. وهو عنى أيضا ان على الولاياتالمتحدة الا تكتفي بجعل القيم الاميركية تتنافس مع القيم الاخرى في اطار تعايش سلمي، بل عليها ان تعمل لتغيير الانظمة السياسية التي تتعارض مع هذه القيم. وهذا لا يشمل الانظمة المتشردة مثل العراق وايران وكوريا الشمالية فحسب، بل يطاول أيضاً روسيا والصين وربما أيضاً الاتحاد الاوروبي على الاقل في بعض توجهاته الامنية والسياسية الخارجية. تبريرات التبريرات التي قدمها أصحاب هذا التيار هي الآتية: موازين القوى ضرورية لكن يجب اضافة عناصر أخرى اليها لضمان استمرار الزعامة الاميركية في العالم. فالموازين تتغير باستمرار، والعناصر التي تضمن تجذر الهيمنة هي القيم الثقافية- الايديولوجية. وهذا يعني ان الهدف الاول للسياسة الخارجية يجب أن يكون فرض القيم الاميركية كشرط للانضمام الى النظام العالمي. الزمن لا يعمل لمصلحة الولاياتالمتحدة. اذ ان العديد من القوى الرئيسة في العالم تعرب عن امتعاضها من الهيمنة الاميركية. وقد لا يطول الوقت قبل أن يتحول هذا الامتعاض الى معارضة، والمعارضة الى تكتلات وتحالفات مناوئة لأميركا، خصوصاً في أورو - آسيا. ولذا يجب على الولاياتالمتحدة أن تعمل بسرعة لتركيز نظامها العالمي الجديد. وهذه السرعة لا يوفرها سوى التفوق الاميركي الكاسح. العولمة، بما هي مشروع اميركي تاريخي، لن تتوازن وتستقر الا أذا تمكنت الولاياتالمتحدة من فتح كل أسواق العالم أمام منتجاتها المادية والثقافية في آن. هذا التغيير الكاسح في السياسات الخارجية الاميركية، فسره بعض المحللين، على عكس كل التوقعات، على انه ناجم عن ضعف لا عن قوة. وهم يرون، كما مع ايمانويل فالرشتاين ان السلام الاميركي ولى، وان التحديات الممتدة من فيتنام الى البلقان حتى الشرق الاوسط و11 ايلول، أظهرت حدود التفوق الاميركي المطلق. وهذه التحديات هي حرب فيتنام، وثورات 1968، وسقوط جدار برلين 1989، والهجمات الارهابية في 11 ايلول. كل واحد من هذه التحديات - الرموز استند الى ما سبقه لتجد الولاياتالمتحدة نفسها الآن كقوة عظمى وحيدة تنقصها القوة الحقيقية، أو كقائد عالمي لا يتبعه أحد ولا يحترمه سوى البعض. اضافة الى أن انهيار الشيوعية أدى أيضاً الى انهيار الليبرالية من خلال إزاحته للتبرير الايديولوجي الوحيد الذي يقف وراء الهيمنة الاميركية. ولأن المحافظين الاميركيين يدركون هذه الحقيقة، فأنهم يطورون سياسات تعاكس هذا الانحدار. في مقابل نظرية الانحدار هذه، ثمة من يقول كستيفن بروكس ووليام هلفورث إن الولاياتالمتحدة هي في الواقع في حال صعود. وهذا ما تدل عليه مركبات القوة القومية. ففي المجال العسكري أنفقت الولاياتالمتحدة سنة 2003 على موازنة الدفاع أكثر مما أنفقه 15 الى 20 بلداً من كبار المنفقين مجتمعين. وتملك الولاياتالمتحدة تفوقاً نووياً كاسحاً وسلاح جو مسيطراً وأسطولاً حقيقياً للمحيطات وقدرة وحيدة على ارسال قوات عبر العالم. كما تقود الولاياتالمتحدة العالم في استغلال التكنولوجيا المتقدمة في مجال التطبيقات العسكرية، وهي أثبتت مهارة لا تجارى من حيث تنسيق المعلومات المتعلقة بساحة القتال وتحليلها. ولم تجعل الولاياتالمتحدة اللحاق بها امراً سهلاً، وهي تنفق على البحث والتطوير ثلاثة أضعاف ما ينفقه الستة الكبار مجتمعين في المجال نفسه. لا بل ما تنفقه أميركا على البحث والتطوير العسكريين، أكثر مما تنفقه ألمانياوبريطانيا على موازنتيهما الدفاعيتين كاملة. أما السيطرة الاقتصادية فهي تفوق أي قوة عظمى أخرى في التاريخ الحديث، باستثناء القوة الاميركية نفسها بعد العام 1945 حين قضت الحرب العالمية على كل الاقتصادات المهمة الاخرى. فاقتصاد أميركا حالياً ضعفا منافسه الأقرب اليابان. واقتصاد كاليفورنيا وحده اصبح الخامس في العالم، متفوقاً على فرنساً وآتياً بعد بريطانيا مباشرة. والنتيجة التي يخرج بها أصحاب هذا الرأي هي أنه لا يوجد تحد امام الولاياتالمتحدة في المستقبل المنظور، وبالتالي يمكن لهذه الاخيرة ان تتصرف في أي مكان في العالم وفق ما يحلو لها. قواعد القوة أي الرؤيتين على حق؟ قلة في الواقع تتبنى نظرية الانحدار، على رغم ان هذه تسند حججها الى معطيات تبدو مقنعة. بيد أن هذه النظرية تبقى رهناً بالمستقبل. اما في الحاضر والمستقبل القريب فإن الولاياتالمتحدة ليست فقط القوة العظمى الوحيدة في العالم، بل هي بدأت مع ادارة بوش تعلن ان من حقها ممارسة دور هذه القوة حتى الثمالة. ووضعت القواعد الآتية التي يمكن أن تكون دليلاً لصياغة استراتجية قومية: 1- يجب ان تتجذر الاستراتجية والسياسة في المصلحة القومية. وهذه الاخيرة تحمل أبعاداً اقتصادية وامنية وانسانية. 2- الحفاظ على قوة اميركا التزام طويل المدى ولا يمكن تأمينه من دون القيام بجهود واعية وصادقة. وما لم تقم أميركا باستثمارات حكيمة للحفاظ على قوتها، ستتضاءل هذه الاخيرة في غضون 25 عاماً وستكون مصالحنا عرضة للتهديد أكثر مما هي عليه اليوم. تأمين ازدهار أميركا مسألة حاسمة ستتعرض الولاياتالمتحدة من دونها الى الفشل في جهودها لقيادة العالم. 3- مساعدة المجتمع الدولي على ترويض قوى التفتت التي يساعد على نشرها عصر العولمة. ينبغي على الولاياتالمتحدة أن تلجأ في كل الحالات الى الديبلوماسية الوقائية، أي العمل بوسائل سياسية واقتصادية وبالتعاون مع الاخرين لاستباق النزاعات قبل ان تصل الى عتبة العنف الجماعي. بيد أن الديبلوماسية الوقائية لن تنجح باستمرار، وعلى الولاياتالمتحدة ان تكون جاهزة للعمل عسكرياً بالتعاون مع دول اخرى. هذه المبادئ الاميركية الجديدة، أعادت الى السوق السياسية بسرعة سلعتين اعتقد كثيرون انهما دخلتا غياهب متاحف التاريخ: الامبريالية والامبراطورية. والمثير هنا أن اليمين الاميركي، الذي كان يعتبر تعبيري الامبريالية والامبراطورية قبل العام 1979 مجرد "شتيمة أيديولوجية" لا قيمة علمية لها، لم يعد يمانع في الترحيب باتهامات اليسار حول احتمال كون الولاياتالمتحدة امبريالية جديدة ومهيمنة. وهكذا نشر مايكل اغناتييف، بروفسور سياسة حقوق الانسان في هارفارد، مقالاً في "نيويورك تايمز ماغازين" في 28 تموز يوليو الماضي قال فيه: "الامبريالية كانت توصف بأنها عبء الرجل الابيض، وهذا ما أعطاها سمعة سيئة. بيد أن الامبريالية لا تتوقف عن كونها ضرورية، لمجرد انها خاطئة سياسياً". وأضاف: "أفراد القوات الخاصة الاميركية في أفغانستان ليسوا عمالاً اجتماعيين. انهم فرق امبراطورية تنفذ سياسات امبراطورية". وهكذا ايضاً، كتب جون أيكنبري بروفسور الجيو - سياسة في جامعة جورجتاون، في "فورين أفيرز": "الآراء السائدة الان في إدارة بوش، تعتبر في صيغتها المتطرفة رؤية نيو _ امبريالية تعطي بموجبها الولاياتالمتحدة لنفسها حق تحديد المعايير، وتعيين الاخطار، واستخدام القوة، وفرض العدالة". والمثير هنا ان أيكنبري لم يهدف الى انتقاد هذه النزعة النيو- امبريالية، اذ يضيف: "أهداف اميركا الامبراطورية، أكثر محدودية وليونة بكثير من أهداف الأباطرة القدماء". الآن، واذا ما كانت الاحاديث الامبريالية على هذا النحو من الوضوح على جبهة اليمين، فهل سيكون مستغرباً بعد ذلك ان ينفض اليسار الماركسي والراديكالي الغبار عن نظريات الامبريالية التي تعود بجذورها الى لينين وروزا لوكسبورغ؟ كلا بالطبع. وهذا ما تم بالفعل. فقد أعيد التداول على جناح السرعة بكتاب هاري ماغدوف الشهير "الامبريالية من عصر الاستعمار وحتى اليوم"، الذي صدر العام 1969، والذي أكد فيه هذا الاقتصادي اليساري الاميركي مقولة لينين بأن "الامبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية" الاحتكارية. ويلخص جون بيلامي فوستر، وهو يساري اميركي آخر، وجهة نظر اليساريين من مسألة الأمبريالية على النحو التالي "مونثلي ريفيو" - تشرين الثاني /نوفمبر 2002: "ان اعادة اكتشاف الامبريالية من جانب الطبقات الحاكمة الاميركية، لا يعني إلا أنه بات من المحتم قيام الولاياتالمتحدة بانتهاج المسار الامبريالي. بيد ان مصير الامبريالية الاميركية لن يكون مختلفا عن مصير الامبراطوريات السابقة على يد من هم في الداخل وعلى يد "البرابرة"على أبوابها". على أي حال، وبغض النظر عن التسمية التي يمكن ان تطلق على الولاياتالمتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، من الواضح أن هذه الاخيرة وضعت موضع التطبيق توجهات استراتيجية عالمية جديدة. التطبيقات العملية لهذه المبادئ عنت بالدرجة الاولى الشرق الاوسط الذي بات بعد هجمات واشنطن ونيويورك بؤرة الصراع العالمي الرئيسة بدلاً من أوروبا. لكن خلف هذه النزعات التبشيرية حول الحداثة والتحديث، يكمن شبح القوة وموازينها التي تحولت كما أسلفنا الى عقيدة رسمية وعلنية في عهد بوش الابن. وهذا وجد تعبيراته العملية ليس فقط في أفغانستانوالعراق ، بل أيضاً في فلسطين، حيث أعلن بوش اخيراً انحيازه للأمر الواقع الذي فرضته القوة العسكرية الاسرائيلية في الضفة الغربية. لقد حاول مسؤول أميركي كبير، وبعض المسؤولين العرب في مجالسهم الخاصة، التخفيف من وطأة الانقلاب التاريخي الكبير الذي احدثه الرئيس بوش في السياسات الاميركية ازاء مسألة فلسطين. قال هذا المسؤول الذي يعتقد انه كوندوليزا رايس "كل العالم لم يفهم كلام بوش جيداً. فهو لم يغير موقفه ازاء المستوطنات والدولة الفلسطينية، ولم يقل ان المستوطنات ستبقى، بل شدد على أن مصيرها سيتقرر في مفاوضات الحل الدائم". وهذا رأي أيده كبير المفاوضين الاميركيين السابق دينيس روس، الذي كتب في "لوس أنجليس تايمز": "رسالة بوش الى شارون توضح بجلاء أن أي اتفاق على الوضعية النهائية، لن يتم إلا على أساس التغييرات المتفق عليها، والتي تعكس الحقائق الجديدة على الارض". تحفظ روس الوحيد على صفقة بوش - شارون كان في "عدم استشارة الفلسطينيين حولها". تكتيك انتخابي! اما المسؤولون العرب، فمالوا في معظمهم الى الاعتقاد بأن موافقة الرئيس الاميركي على خطة رئيس الوزراء الاسرائيلي، ما هي إلا تكتيك انتخابي آني، سرعان ما ستبدده المصالح الاستراتيجية الاميركية بعيدة المدى في الشرق الاوسط الكبير. هل هذه التحليلات "الباردة" أو التي تدعي البرود في محلها؟ كلا. البتة. فرسالة ضمانات بوش لاسرائيل وتصريحاته بعد القمة مع شارون، لا تقل عن كونها "وعد بلفور" جديداً، هدفه هذه المرة تقسيم فلسطين - 67 وزرع الاعلام الاسرائيلية فوق كل جسدها، في شعاع يمتد من مستوطنة أرييل في وسط الضفة، الى مستوطنة كريات أربع في أسفلها قرب البحر الميت. كما أنها وهنا الأهم تحيل الى متاحف التاريخ الموقف القانوني الاميركي الذي صدر في سبعينات القرن العشرين، والذي اعتبر المستوطنات "غير متطابقة مع القانون الدولي". وهذا يعني أن الولاياتالمتحدة انحازت بشكل نهائي الى مبدأ القوة على حساب مبدأ الشرعية في فلسطين. وهو انحياز تم الأفصاح عنه بوضوح في التعابير التي استخدمها الرئيس الاميركي في رسالة الضمانات مثل "الحقائق الجديدة على الارض" التي فرضت بقوة الاحتلال و"المراكز السكانية الاسرائيلية الكبيرة" بدل استخدام تعبير المستوطنات، و"عدم واقعية العودة الى حدود 1967" على رغم ان هذه الواقعية تستند الى القرار الدولي الرقم 242 الذي صنع في أميركا. هذه المعطيات تعطي مواقف بوش سمة الانقلاب الشامل، من دون ان يعني ذلك أنها كانت مفاجئة، كما أوحت بذلك تصريحات الرئيس حسني مبارك. لماذا؟ لأنه الانقلاب جاء متطابقاً كل التطابق مع التوجهات العامة للاستراتيجيات العامة لإدارة بوش: 1- فهي كرست كما أشرنا تفوق القوة على الشرعية في السياسات الاميركية في الشرق الاوسط، كما في كل أنحاء العالم. 2- وهي حققت رغبة المحافظين الجدد الاميركيين في نسف عملية السلام واحلال عملية موازين القوى مكانها، كما خطط لذلك ولفوفيتز وبيرل منذ أوائل التسعينات. 3- وهي، أخيراً، اوضحت بجلاء أن النظام الاقليمي الجديد الذي ستقيمه الامبراطورية الاميركية في الشرق الاوسط الكبير، سيكون في العمق كوندومينيوم حكم مشترك أميركياً - اسرائيلياً تضيع فيه الفوارق الى حد التلاشي بين طموحات واشنطن ومطامع تل أبيب. وبالتالي، ما يحدث الآن لا يقل عن كونه تطابقاً بين الرؤية الاستراتيجية البوشية لفلسطين والشرق الاوسط والعالم، وبين التكتيكات البوشية الانتخابية والسياسية في الداخل الاميركي. وهذه، كما هو معروف، معادلة خطرة للغاية، دفعت وودرو ولسون في أوائل القرن العشرين الى وضع مبادئه المثالية في خدمة الوطن القومي اليهودي على حساب الوطن القومي الفلسطيني. وهي تدفع الآن جورج بوش في أوائل القرن الحادي والعشرين الى تمديد هذا الوطن اليهودي الى ما تبقى من فلسطين. ومع مثل هذه المعادلة، لا مجال للتخفيف من وطأة الانقلاب التاريخي البوشي، كما حاول المسؤول الاميركي وبعض المسؤولين العرب. فالجروح العميقة لا تعالج بالمسكنات الخفيفة، والمضمون لا يبدله تغيير الشكل. وبالمناسبة، مضمون سياسات بوش موازين القوى وشكلها ممارسة القوة، باتا متطابقين كلياً هذه الأيام