ينتمي أمين معلوف المولود في لبنان 1949 والمتغرب في فرنسا منذ العام 1976 إلى قبيلة ترتحل أبداً في صحراء هي من العالم جهاته الأربع. فالبلدان عنده واحات يهجرها أهلها إذ تجفّ منها الينابيع، والمنازل خيمٌ تلبس الحجر، والهويات تواريخ ميلاد أو مراكب للسفر. فأمين معلوف يرى ان الذي يجمع بين البعض والآخر في انقضاء الأجيال ورحيلها، وفي ما وراء البحار، ووراء بابل اللغات وتشتتها، هو هدير اسم يدوي في البعيد فتحمله الأمواج وكأنه زفيف الريح البعيدة، أو حفيف الأوراق التي شاخت باصفرارها أو هينمات عشقٍ يحن الى أصول تبعد، فتشعل الحنين وتراوغه بتقريب البعيد، ولمّ الجروح ولو بالمراوغة وما فيها من استحالة. فأمين معلوف إذ كتب بعض "أصوله" الصادرة عن دار غراسيه باريس 2004، عاد يستلهم بحق أوليس وأرديته هو العائد من حرب طروادة بعد عشر من السنين، ليطوّف بعد مجهول الحرب في مجهول أقداره تتنازعه آلهة الخير والشر، في ما تتنازعه من مصائر البشر. فأوليس في مجاهيل الآلهة وعتمات أقداره استسلم لعبثية يتساوى فيها يقين الخلاص بيقين الموت. ولما كانت الأوديسة تعدّ ملحمة في تاريخ اليونان وكتاب فن الشعر لأرسطو وهي لم تستغرق من الزمن سوى عقدين، فما الذي يقال في ملحمة أمين معلوف التي سينطلق أبطالها من لبنان ليتوزعوا كما الريح في كل الجهات وصولاً الى الأميركيتين الشمالية والجنوبية وكوبا. إن ملحمة أمين معلوف التي تمتد مساحة مئة عام، سترسم تاريخاً لأسلافه، وتبتعث أقدار تلك القبيلة التي ترك أبناؤها لحفيدهم ان يقلق صمتهم، ويعود الى قبورهم، ويتسلل الى الذاكرة منهم يوقظ فيها الذكريات، لعله ينسج منها رداءً لا كفناً، يقيه صقيع غربته، فيدفأ بشموس تأتيه من عتمات ماضيه، وتحضنه بأنوار تبعد عنه شقاق النفس، وبعثرتها، فيلتم في مجهول ابحاره، ونأيه في المحيط، وفياً لمن غامر قبله، بغير ان يحسّ بأنه ابن "لقيط" هو الذي له من أسلافه ما يشهد على محتده، ومن لغاته ما يشهد على تعدده. فأمين معلوف في "الأصول" يصح فيه عنوان أدونيس "مفرد بصيغة الجمع" ولو انه في جمعه يؤثر لفظ الأصول على لفظ الجذور، لأنه شاء ان يؤصّل قبيلته فيقتلها علماً ليعرف أصلها، لأن الأصل بعد الترحال قد استئصل وكأنه اقتلع من أصله. ومن الأصل ان الماء يأصل أصلاً كأسِنَ اذا تغيّر طعمه وريحه من حمأة فيه حتى يقال: انني لأجد من ماء حبكم طَعُمَ أصَلٍ. أما الجذر الذي تحاشاه أمين معلوف مفرداً وجمعاً فهو من الحساب ما بلغ تمامه كجذر مئة وهو عشرة، أو جذر خمسة وعشرين وهو خمسة. فأنى لأمين معلوف ان يقبل بجذر وقبيلته لن تبلغ تمامها، إذ أن الترحال منها يبقى مفتوحاً، وبابل لغاتها قائم على الاحتمال والاضافة، وأنسابها عرضة للدخيل واللقيط والغريب والهجين! وإذ وضع أمين معلوف نقطة النهاية في كتاب "الأصول"، عاد بقاؤه الى نقطة بداية أخرى شاءها ان تبقى وعداً معلقاً، ليحرق القارئ انتظاراً له. فأمين وبعد ما يقارب الخمسمئة صفحة من القص والذكريات، قال: "أبي اذ اخترت وضع نقطة النهاية: فلأني وضعت حداً لمئة وخمسين عاماً بالوقوف عند العام 1930، فالأصول التي كتبتها لم تتوّج بعد بسيرة أبي الذي غاب، والذي لم أقل بعد فيه شيئاً. فأنا لم أذكر اسم رشدي الا مرة، ولو انني تناولت شذرات من أحاديث معه، وأخبرت اثنين أو ثلاثة من قصص مزاحه التي تدل على رهافة حسه وعميق ذكائه". وإذ يغيب رشدي المعلوف والد أمين عن أصول تقع في خمسمئة صفحة يتيقن القارئ ان أميناً "خدعه" بنص الأصول تمهيداً للنص الأصل الذي سيكون نص رشدي المعلوف. فالكاتب بعد ان أتم أصوله التاريخية والعائلية وصولاً الى أبيه، راح يرسم نقاطاً وكأن التاريخ بدأ يتقطع، والأنفاس منه تتقطع، إذ انه مقدم على فقد أبيه. فهو مذ فقد أباه، عاد الى أصول ذلك الأب الغائب الذي كان شديد الوله به. فأمين منذ الطفولة كان يجلّ أباه الى أبعد الحدود، حتى انه لم يستطع ان يتخذ لنفسه مهنة سوى مهنة أبيه في الصحافة والكتابة. فأمين معلوف أيضاً كان مع أبيه رشدي كالمريد وشيخه، إذ يمتحن الشيخ المريد الطري العود، ويخضعه لقسوة الاختبار، ويتركه يعاني نفسه بنفسه، ليحسم أمره إما في الخروج من الحلقة، وإما في الاستسلام لنشواتها وغيبوباتها حتى يصير من الواصلين الى لحظاتها الشعشعانية وتجليات الاتحاد والحلول والفناء فيها. تلك القبيلة التي راح يرصدها أمين معلوف بدءاً من الاضطرابات السياسية أيام الامبراطورية العثمانية هي قبيلة تشكلت من جماعة متصوفة، وأخرى من البنائين الأحرار، وأخرى من الأساتذة وأخرى من التجار، وأخيرة من معلمي اللغات الحالمين بغزو العالم. هذه القبيلة اذ تضجّ حتى اليوم في دماء أمين معلوف، هي التي دفعت به للكتابة الوفية ل"جينيالوجيا" صاخبة، وفاءً لأبيه، وكأنه الملك الآتي بعد طول انتظار، وكأن ما كان من الفروع والأصول يبقى بغير نهايات، وبغير تتويج، حتى يكتب أمين معلوف سيرة رشدي، ويكون فيها مسك ختامه، وختام المسك. إن أميناً إذ وفى أسلافه حقهم، فقد وفى لبنان تاريخاً يعبق بمئة وخمسين سنة من نضال آل معلوف ضد الاضطهاد العثماني. فهو إذ يذكر سلفه المعلم بطرس المعلوف في زيارة خاطفة قام بها الى أميركا، يقول ان تلك الزيارة كان هدفها "توحيد الصوت في المهجر الأميركي دفاعاً عن الشرق وأبنائه، وسعياً للنهضة بالصحافة في دول الهلال الخصيب". فبطرس كان يود ان تصبح الصحافة خبزاً يومياً للشرقيين كما هي عند الشعوب المتحضرة. وخاطب بطرس المعلوف الصحافة المهاجرة التي كانت نقلت نزاعاتها من الوطن الى المهجر، وباعت نفسها لطوائف تدعمها، ولإرساليات ومبشرين يدعمونها مادياً، فيخربون عليها قضاياها السياسية، وقضايا الوطن، وقضايا أبنائه الجياع والجهال والأميين الذين هربوا من الاضطهاد العثماني، ليتفرقوا شيعاً ومذاهب في مهاجرهم البعيدة التي أفادت منهم، واستمرت في ترسيخ خلافاتهم الطائفية، ما اضطر بطرس المعلوف ان يجمع هؤلاء قبل ان يعود الى لبنان ويخطب فيهم قائلاً: "هو حق مقدس ان ينتقد الصحافيون قادة بلادهم، ولو ان من واجبهم الا يصبحوا أسرى هذا النقد أو يتوقفوا عنده، فإذا كان الحكام فاسدين، فإن المحكومين أكثر فساداً منهم. فالحكام هم افرازات شعب متعفن. والاصلاح يبدأ بالجذور، وبمعالجة الجذور تنمو الشجرة وتخصب، وهذه هي مهمة الأقلام في الصحافة، وفي المؤلفات، وفوق المنابر! هذه هي الرسالة التي سأبقى وفياً لها ما حييت بعون الله تعالى". وإذ يرى أمين معلوف الى خطاب سلفه بطرس تستوقفه فيه بعض شذرات بلاغية، ينتقل منها الى معارك ذلك السلف الدون كيشوتي، إذ كان يحلم بمحو الأمية وإيقاظ أبناء الشرق. فبطرس المعلوف منذ العام 1901 كان يحلم بشرق مجيد، تشهد عليه رسالة مؤرخة في 18 آذار مارس من العام 1906، جاءته من أحد أبناء حمادة احدى عائلات الجبل الدرزية يقول فيها: "أنا ما زلت أستعيد تلك الأمسية في شرفة نجمة الشرق. كان الليل حالكاً، أما أحاديثنا فكان من غايتها ان تبدد حلكة الظلمات، وتنشر النور، أما النور فيحتاج الى أمثالك من الرجال، وأما انتشاره فيحتاج الى توحيد الأسلحة. عليك ألاّ تتراجع يا بطرس لأنك رجل حرّ، ولأن الرجال الأحرار لا يقبلون الظلم". وإذ عاد بطرس من أميركا الى مدينته زحلة، التحق بالكلية الشرقية "مديراً لدروس العربية" ومحارباً شرساً ضد الطائفية، والفساد، والظلامية. وطالما كرر بطرس القول: "ان الشعب الشرقي لا ينقصه شيء، ولا يعاني من آفة، ولله الحمد، باستثناء آفة الجهل والأمية. وقد أصابت هذه الآفة معظم أبناء الشرق فهي تارة تطل بنزاعاتهم العقائدية، وأخرى بالتقية والكذب، وأخرى بالعنف والثأر. لهذه الآفة دواء واحد وحيد هو العلم والمعرفة". فالهجرة ليست هي الدواء، بل المعرفة التي هجّرها أبناء الشرق الى الغرب، ثم لحقوا بها، ظناً انها غريبة عنهم. لِمَ أنكر الشرق علومه، ولا يزال ينكرها، وكأن الأنبياء وابن سينا وابن رشد ليسوا من الشرق، انبياؤه وفلاسفته! أكان ذلك بتأثير عثماني أنكر فيه الأتراك على أبناء الشرق تفوقهم، وريادتهم، إذ أذلوهم، وحرموهم التعلم، وأغرقوهم في عصور الانحطاط، ولم يتركوا لهم ما يتباهون به غير الطرابيش التي ميزت العهد التركي، إذ حجبت الرؤوس وما كانت تضج به من أحلام الحرية ودحر أعداء العلم والفضيلة؟ لذا قال بطرس المعلوف: "كان للشرقيين أيام الحكم العثماني وجهان: وجه قرد لتقليد الأسلاف، ووجه قرد آخر لتقليد الغرب. فالشرقيون مذ فقدوا ذواتهم ولبسوا وجوه القرود، نظر الواحد منهم الى الانسان الغربي يسأل عن تفوقه، فردّ هذا التفوق الى بذلة الغربي التي لا تشبه جلبابه، وقال البذلة سبب للتفوق. ثم نظر الشرقي الى ذؤابة الغربي تنهدل فوق جبينه، فردّ سبب التفوق الى الذؤابات، فتركها تتهدل من رأسه وتحجب عينيه، ونسي ان ما جاءه به أبناء الغرب البروتستانتي من حرية الفكر وموضوعية العلم، كان بإمكانها ان تنهض به في حرم الكلية السورية منذ العام 1866، أو تنهض به في حرم الجامعة اليسوعية منذ العام 1875. ان أسئلة عاناها المعلم بطرس المعلوف منذ مئة عام معلماً وصحافياً وضميراً حراً من ضمائر لبنان، هي الأسئلة التي لا تزال تتكرر في صحافتنا المقيمة، وفوق منابرنا الأكاديمية، وفي وجوه القرود المستعارة، وفي خطابات التقية، والمراوغة والكذب، وكأن الشرق لن يكون له خطاب حر، وكأن الهلال الخصيب لن يعرف العلمانية التي استشهد أنطون سعادة في سبيلها، وكأن آباء الكلية السورية هم مدعوون اليوم لمغادرة الديار التي جاؤوا اليها منذ زمن بعيد 138 سنة، حاملين علومهم، وحرية ضمائرهم التي أنكرها عليهم الشرقيون، لأن خوف الشرقي من العلم وحقائقه هو خوف دهري لا شفاء منه!