في السابع عشر من شهر آذار مارس الماضي وصل سعر برميل النفط في نيويورك الى 48.38 دولار، وهو أعلى سعر يبلغه منذ تشرين الأول أكتوبر 1990، حتى انه تخطّى سعر البرميل يوم بدء الهجوم الأميركي على العراق. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، بقي سعر برميل النفط الخام برنت فوق عتبة الثلاثين دولاراً، علماً ان منظمة الدول المصدّرة للنفط "أوبك" كانت التزمت التدخل، زيادة أو نقصاناً، في حال خروج سعر البرميل من مروحة واقعة بين 22 الى 28 دولاراً للبرميل. وعلى عكس هذا الالتزام تمسكت المنظمة خفض انتاجها ابتداء من أول نيسان أبريل 2004 بمعدل مليون برميل/ يوم، ما سيعزز حكماً ارتفاع أسعار النفط او بقاءها على مستواها المرتفع، في أقل تقدير، بحيث تشكل موضوع جدال في الانتخابات الرئاسية الأميركية. فما هو وضع النفط عالمياً واقليمياً في ضوء ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط؟ ولماذا وكيف انتقل النفط من أزمة جيوبوليتيكية الى أزمة جيولوجية؟ أولاً: النفط والبدائل: لا يزال النفط، وسيبقى لفترة منظورة، المصدر الأفضل للطاقة في العالم. فالطاقة النووية باتت تشكل تهديداً حقيقياً للسلامة العامة وحادثة تشرنوبيل أوضح دليل على ذلك. والفحم الحجري مضر بالبيئة، والطاقة المتجددة، كالطاقة الكهربائية، باتت مصدر تهديد للتوازن البيئي. وهكذا يبقى النفط المادة الأفضل لإنتاج الطاقة والأسهل من حيث النقل والأكثر استجابة لمتطلبات النمو الاقتصادي العالمي. راجع الجدول الرقم واحد هذا الطلب المتنامي على النفط سيرفع معدل الاستهلاك العالمي خلال ربع قرن بين 2000 - 2025 بما يصل الى 9.41 مليون برميل/ يوم. الجدول الرقم 2 واكثر بلدين يستهلكان النفط ويطلبان المزيد منه بفعل نموهما الاقتصادي هما الولاياتالمتحدة والصين. ان ارتفاع الاستهلاك من جانب وارتفاع الأسعار من جانب آخر يفسران الى حد كبير سياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط. فالأرقام حول استهلاك أميركا من النفط وارتفاع معدل استيرادها وتناقص انتاجها تبرّر لها سعيها للسيطرة على نفط المنطقة عموماً ونفط العراق خصوصاً والتحكم بمنظمة "أوبك" في شكل أخص. الجدول الرقم 3. ويتبين من هذا الجدول ان النفط الأميركي سيغطي ثلث احتياجات أميركا في نهاية العقد المقبل، وبالتالي عليها ان تستورد ثلثي استهلاكها، وهذه الكمية الهائلة لن يؤمنها الا نفط الشرق الأوسط حيث تقدر احتياطات النفط، حسب معظم المراجع الدولية من مؤسسات وشركات تعنى بالنفط بما يصل الى 4.65 في المئة من اجمالي الاحتياط النفطي في العالم والتي تقدرها هذه المراجع ب1047 بليون برميل. فإذا أضيف الى نفط الشرق الأوسط ما تملكه بعض الدول العربية في شمال أفريقيا مصر والجزائر وليبيا وتونس أصبح المعدل 6.69 في المئة من نفط العالم. باختصار، هناك ستة أسباب جوهرية بالمعنى الاقتصادي تجعل نفط الشرق الأوسط النفط الأفضل للدول الصناعية في سوق العرض والطلب: الأول: الأكثر وفرة من حيث الكمية. الثاني: الأفضل من حيث التركيبة معيار خام برنت للنفط في العالم. الثالث: الأقل تكلفة في الانتاج قربه من سطح الأرض. الرابع: انه الأقل تكلفة في التطوير لزيادة الانتاج وهي مسألة دورية. الخامس: وجود بنية تحتية للتصدير بكلفة قليلة وكميات كبيرة بفعل وقوعه قريباً من الموانئ البحرية لأربعة بحور: المتوسط والأسود والأحمر والخليج. السادس: كون الطلب الداخلي للدول المنتجة السعودية والعراق والكويت والإمارات وإيران يعد قليلاً بالنسبة الى الكميات المستخرجة بحيث لا يشكل الاستهلاك الداخلي لهذه الدول سوى نسبة قليلة من انتاجها النفطي الذي يذهب في معظمه الى التصدير. ثانياً: اشكالية الاحتياط النفطي العالمي: ان أهم موضوع مطروح الآن بالنسبة الى النفط هو "حقيقة" الاحتياط العالمي للنفط والذي هو مجموع احتياطات الدول المنتجة. ويربط كثيرون حالياً، بين ارتفاع أسعار النفط وبين عاملين مهمين: الأول: تدني سعر الدولار بالنسبة الى العملات الأجنبية، لا سيما اليورو، وبما ان العملة المتداولة في تسعيرة النفط هي الدولار الأميركي، فإن الدول المنتجة تجد من مصلحتها الحفاظ على حد أعلى من المروحة العادية بحدها الأعلى وهو 28 دولاراً لما بين 30 - 35 دولاراً للبرميل، كي تغطي فارق السعر في قيمة الدولار الهابط، وهذه مجرد مسألة حسابية. الثاني: هو الجدل القائم حالياً حول صدقية الأرقام المتعلقة بالاحتياط النفطي العالمي ما طرح اشكالية طاولت سوق النفط العالمية، وأثارت الكثير من ردود الفعل والنتائج غير المحسوبة في ظل وضع مأزوم أساساً بفعل الحرب على العراق. فما هي عناصر هذه الاشكالية؟ 1- في معنى الاحتياط النفطي: يقصد به كميات النفط الموجودة في حقول نفطية خزانات تحت الأرض ولم تستخرج بعد. وهناك وسائل علمية لقياس كمية هذه الخزانات وحجم النفط الموجود فيها في كل دولة ولدى الشركات المعنية بهذه الحقول شركات وطنية أو دولية التي لديها عقود في هذه الدول ومعنية بإنتاج النفط وتصديره وتسويقه. 2- وبما ان هذه الكميات تخضع لعملية التقدير وهي مخفية في باطن الأرض، فإن امكان التلاعب فيها يصبح ممكناً، إما صعوداً وإما هبوطاً وفقاً لمصالح شركات استخراج النفط أو تسويقه، بحيث تقوم بتضخيم الأرقام أو انقاصها بما يخالف الواقع الموضوعي ويؤدي خصوصاً في موضوع التضخيم الى فضائح اقتصادية ومالية كما حصل لرئيس شركة "شل" فيليب وات وهي ثاني أكبر شركة في العالم، اذ اضطر الى الاستقالة بعدما تبين ان مشروع "اورمن لانج" للغاز بين النروج وبريطانيا تم بتقدير احتياط الغاز فيه بحدود 400 بليون متر مكعب، ثم جرى انقاص الاحتياط بنسبة 20 في المئة، ومن ثم بما يعادل 500 مليون برميل / نفط ثم خفضت ثانية بما يعادل 166 ألف برميل نفط. هذا الخطأ المقصود في تقدير الاحتياط سواء كان غازاً أو نفطاً خلق أزمة كبرى بل أثار فضيحة حقيقية جعلت الشركات والدول ومراكز الأبحاث المختصة بالطاقة تعيد حساباتها وتدقق أكثر في موضوع الاحتياط من النفط والغاز. كما أثار شعوراً عاماً بالخوف والريبة من ان جهات تعمد أو ستعمد الى "نفخ" كميات النفط والغاز كي تغطي على الواقع الذي هو في العكس تماماً: أي في حال النضوب والشح وليس في حال الفائض! ومن هنا الميل الطبيعي، في وضع الشك، الى ارتفاع أسعار النفط الذي يصبح في الذهن أكثر ندرة في حين انه يمثل نسبة 37 في المئة من مصادر الطاقة في العالم. 3- ينبغي بداية التفريق بين ثلاثة أنواع من الاحتياط، ذلك ان تعريف الاحتياط يسهّل مهمة التعرّف الى حقيقة ما هو موجود منه فلا نضيع في الأرقام بين ما هو محقق وما هو مفترض: الأول، هو الاحتياط المثبت ويشار اليه في علم صناعة النفط برمز P1 وهو نفط يمكن استخراجه بمعدل 95 في المئة ضمن الشروط الاقتصادية الحالية وضمن امكانات التكنولوجيا الموجودة. الثاني، هو الاحتياط المرجّح ويشار اليه برمز P2 ونسبة استخراجه والحصول عليه تصل الى 50 في المئة. الثالث هو الاحتياط الممكن ويشار اليه برمز P3 وحظوظ الوصول اليه واستخراجه هي في حدود 5 في المئة. 4- بعد الكلام الصريح والهامس حول البعد النفطي في الحرب الأميركية على العراق، والسعي لاستبدال النفط السعودي بالنفط العراقي كمصدر ومرتكز أساسي لأميركا بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، والذي عكسه تصريح مقتضب لبول وولفوفيتز ب"أن العراق بلد يسبح على بحر من النفط"، جاءت فضيحة "شل" التي هزّت صدقية أرقام الاحتياط لدى الدول المنتجة، فاستغلت منابر معينة هذه الوضعية لتطرح موضوع الاحتياط النفطي للمملكة العربية السعودية. وهذا ما فعله محلل الطاقة ماتي سيمونس في ندوة مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن 23/2/2004 حيث شكك في قدرة المملكة على تلبية احتياجات السوق الدولية والأميركية في العشرين سنة المقبلة. وسيمونس هو مؤسس ورئيس شركة "سيمونس اند كومباني انترناسيونال" التي توفر الخدمات الاستثمارية لشركات الطاقة. وجاء الرد على سيمونس من جانب شركة "أرامكو" السعودية في المؤتمر ذاته، اذ أجاب محمود عبدالباقي نائب الرئيس لشؤون التنقيب في "أرامكو" على طروحات سيمونس مشدداً على حجم الاحتياط النفطي السعودي ومبرزاً الطاقات الانتاجية الممكنة للمملكة على فترة تمتد لمدة خمسين سنة مقبلة. وهنا يتوقف الكلام لتبدأ حرب الأرقام! راجع "الحياة" في 28/2/2004. 5- في الجانب الأول من الصورة تبارت مراكز أبحاث ووسائل اعلامية عدة متخصصة في موضوع النفط في الكلام على حجم الاحتياط النفطي لدى العراق ومقابلته بحجم الاحتياط لدى المملكة العربية السعودية لأسباب لا تخفى على أحد ولشرح معنى الحرب، أو جزء كبير منها، التي شنتها الولاياتالمتحدة على بلاد الرافدين. والمعروف عالمياً وتقليدياً لدى دارسي أرقام النفط في معظم المراجع الدولية ان لدى السعودية احتياطاً نفطياً يصل الى 225 بليون برميل يشكل ما يقارب 25 في المئة من الاحتياط النفطي العالمي، في حين ان احتياط العراق المثبت يصل الى 112 بليون برميل ويشكل ما يقارب 12 في المئة من احتياط العالم ويأتي في الدرجة الثانية بعد السعودية. وبالنسبة الى الاحتياط العالمي، رأى آلان بيرودون في كتاب بعنوان "أي بترول من أجل الغد؟" ان الخط البياني للاحتياط النفطي العالمي بدأ بالانحدار منذ العام 1992 بهبوط وصل في تلك السنة الى 2.18 بليون برميل، ووصل الاحتياط في أول كانون الثاني يناير عام 2000 الى 1016 بليون برميل. وهذا الرقم يعتبر حتى اشعار آخر الرقم المرجع للاحتياط النفطي العالمي "لوموند ديبلوماتيك" عدد آذار / مارس 2000 وفيها دراسة الخبير النفطي المعروف نقولا سركيس. 6- بالنسبة الى الاحتياط النفطي العراقي تؤكد المراجع كافة ان المثبت منه هو 112 بليون برميل. ولكن غالبيتها لدينا منها عشرة على الأقل تضيف الى هذا الاحتياط ما بين مثبت ومرجّح وممكن، احتياطاً لم يستثمر بعد هو في حدود 250 بليون برميل، أو 220 بليون برميل، أو 200 بليون برميل. وبعضهم يعطي الرقم المثبت للنفط العراقي ب245 بليون برميل. وهكذا بين الرقم الأعلى للاحتياط العراقي 112 " 250 = 362 بليون برميل بحسب سركيس "لوموند" 25/2/2003 والحد الأدنى 245 بليون برميل "لوموند ديبلوماتيك" آذار / نيسان 2003 كان يراد القول في الحالين: - ان لدى العراق ما يعادل السعودية بل ما يزيد عليها من الاحتياط. وهو ما عبّر عنه سركيس في عنوان مقابلته الصحافية "يمكن العراق ان يسلب السعودية سيادتها النفطية". - انه قادر على رفع انتاجه الى حدود عشرة ملايين برميل يومياً. - ان لديه الاحتياط الأهم من حيث الكمية والنفط الأسهل من حيث الاستخراج والنفط الأقل كلفة من حيث الاستثمار. 7- في الجانب الثاني من الصورة برزت ردود من جانب السعودية أرامكو على الطرح "العراقي" للاحتياط من جهة وعلى المحلل الأميركي سيمونس من جهة ثانية وذلك بما يؤكد، بالنسبة الى "أرامكو"، أمرين اثنين: الأول: ان السعودية كانت وستبقى الدولة التي تملك الاحتياط النفطي الأكبر في العالم. الثاني: ان السعودية هي الآن وستبقى للعقود المقبلة، الدولة القادرة على الحفاظ على دورها الرئيس في أسواق النفط العالمية: احتياطاً وانتاجاً وتسعيرة. ف"أرامكو" السعودية "ليست في وضع يمكّنها من الحفاظ على مرتبتها الأولى وحسب، بل تملك الامكانات اللازمة لتحقيق أكبر زيادة في امدادات النفط" "الحياة" 28/2/2004. وبالعودة الى لغة الأرقام، فقد لفت نائب الرئيس لشؤون التنقيب في شركة "أرامكو" محمود عبدالباقي الى ان "أعمال التنقيب والتطوير التي أنجزتها الشركة في العقدين الماضيين رفعت تقديرات الحجم الاجمالي للنفط الخام في مكامنه السعودية من 600 الى 700 بليون برميل. وتوقع تحقيق نجاح مضاعف في الفترة المقبلة، ما من شأنه ان يرفع هذه التقديرات للاحتياط بكل أنواعه الى 900 بليون برميل بحلول سنة 2025" "الحياة" 28/2/2004. ومع هذا الاحتياط الكبير بحسب تقديرات "أرامكو" تخطط الشركة لرفع انتاجها الى 15 مليون برميل يومياً سنة 2019 في حين تريد الولاياتالمتحدة منها ان ترفع انتاجها الى 5.19 مليون برميل يومياً نهاية عام 2020. 8- في محاولة لإبداء الرأي بين أرقام الاحتياط وامكانات الانتاج بين سركيس وسيمونس وعبدالباقي نلفت الى ستة أمور أساسية: الأول: هناك حجم للاحتياط المثبت لدى العراق ولدى السعودية يجعله عبدالباقي 260 بليون برميل وليس 225 بليون برميل بالنسبة الى المملكة و112 بليون برميل للعراق، وكل ما يزيد على ذلك يبقى مجرد تقديرات. الثاني: ليس هناك من مرجعية دولية موحدة قادرة على التدقيق في الأرقام بحيث يمكن الشركات الوطنية ان تعطي تقديراتها كما تريد من دون رقابة من أحد. الثالث: في النفط، كما في المياه، كما في المواد الأولية ذات الأهمية الاستراتيجية يتحول الرقم لدى بعض الأطراف في بعض الظروف الى مجرد وجهة نظر تخدم أهدافاً سياسية وجيو - استراتيجية أكثر مما تعبّر عن الواقع الموضوعي. الرابع: الثروة النفطية توجد في باطن الأرض ولذا يسهل على كثيرين من المعنيين تنويع الطروحات حولها ما دامت غير ظاهرة للعيان. الخامس: القول أن العراق يمتلك 362 بليون برميل يعني انه يمتلك ثلث الاحتياط العالمي. والقول أن السعودية تمتلك أو قادرة على امتلاك 900 بليون برميل يعني انها تمتلك نحو 90 في المئة من الاحتياط العالمي بعد 25 سنة. وهي أرقام لا بد من النظر في مضمونها العلمي. السادس: كل هذا ضمن نظريتين في موضوع الاحتياط العالمي. الأولى تقول أن اكتشاف الاحتياطات النفطية بلغ ذروته في الستينات وبدأ خطّه البياني بالانحدار منذ العام 1992. والثانية تقول بن الزمن المقبل مهيأ لاكتشافات جديدة وكبيرة لدى السعودية والعراق ترفع من معدل الاحتياط العالمي: وتجعل خطّه البياني مستمراً في الارتفاع. في الخلاصة، ان العالم الصناعي، خصوصاً الولاياتالمتحدة التي تستهلك وحدها ربع الانتاج العالمي من النفط بحدود 20 مليون برميل يومياً، يفكر منذ الآن كيف سيؤمن لنفسه زيادة تصل الى 43 مليون برميل يومياً بعد ربع قرن، وهو امكان لا تحققه الا دول الشرق الأوسط وعلى رأسها السعودية والعراق. وبما ان كمية الانتاج ترتبط حكماً بكمية الاحتياط التي تفرض كمية الاستثمار المالي ببلايين الدولارات، فإن أزمة النفط الحالية خرجت من كونها أزمة جيو - استراتيجية حول توزيع النفط في العالم بالسيطرة عليه الى أزمة جيولوجية تسعى للتأكد من الموجود منه في باطن الأرض للسيطرة على "أوبك". ... ولكن الحروب تبقى هي نفسها في الحالين!