قبل أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، وبعدها خصوصاً، وإنما بوتيرة أقوى، بدأ بعض المثقفين والمفكرين الأميركيين البعيدين في الغالب عن مشارب الادارة الأميركية الحالية، يطرح بإلحاح السؤال الآتي: لماذا يكرهنا العرب والمسلمون؟ السؤال ليس جديداً. ويكفي النظر إلى ما يحصل في الشارع العربي والاسلامي، لتأكيد واقع متجذر منذ عقود، تعبّر عنه الشعوب أكثر من حكامها الذين تضطرهم مواقعهم الى استعمال اللغة الديبلوماسية، مع شيء من المرارة في الكثير من الحالات. لكن حرب العراق عادت لتؤجج هذا الشعور المتنامي، الكامن تحت رماد الدمار المتواصل، ليعبر عن نفسه من جديد، إذا سمح له بذلك. إن هذه الكراهية الحقيقية ليست، في الأصل، موجهة ضد الولاياتالمتحدة وحدها، بل تتعداها لتشمل الغرب في شكل عام، خصوصاً دول الاستعمار فيه. لكن أحداث فلسطين المتواصلة وشعور الاحباط حيالها جعلا هذا الشعور يتركز على الولاياتالمتحدة وحليفتها الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، بريطانيا العظمى. والواضح ان غالبية هذه الدول الغربية حاولت تصحيح علاقاتها مع العرب وجهدت فعلاً في هذا الاتجاه، الا الولاياتالمتحدةوبريطانيا، على رغم بعض محاولات "رفع العتب"، حتى ولو بدت هذه العلاقات جيدة مع الحكومات والقيادات في العالم العربي والاسلامي. فمن الأسباب التي تبدو بسيطة في مضمونها وهي ليست كذلك في الواقع، الى أخرى أكثر عدوانية، تراكمت المسببات في اللاوعي العربي حتى طفح الكيل. من صورة العربي القبيحة في الروايات الغربية، الى صورته في السينما الأميركية خصوصاً، يظهر العربي بربرياً، وارهابياً بالفطرة، ومتوحشاً يخاف التمدن. وفي كل الحالات، يكفي "رامبو" واحد ليقضي على جيش "ارهابي" بأكمله. والعربي، في الغرب، ظل يعتبر مواطناً من الدرجة الثانية، حتى في أكثر الدول "تسامحاً" وأقربها من البلدان العربية. فأصبحت صورته، تحت تأثير التضليل الاعلامي المقصود مشوهة كلياً ليصبح غير مرغوب به أينما حل. لكن الأغرب من ذلك كله انه لم يرتفع يوماً صوت مسؤول واحد ليعترض رسمياً على هذه الترهات. لكن الدافع الأساسي، وراء هذه الصور، بغض النظر عنها، هو محاولات الاذلال المتواصلة، والشعور بالاذلال في مراحل كثيرة من التاريخ الحديث، وهو ما دفع بهذه الكراهية الى الحد الذي وصلت اليه. وفي هذا المجال يقول توماس فريدمان، الصحافي في "نيويورك تايمز"، في مقال له في "هيرالد تريبيون": "إذا تعلمت شيئاً خلال تغطيتي للشؤون الدولية فهو ان القوة المضادة الحقيقية، والتي يتجاهلها الكثيرون على المسرح الدولي وفي العلاقات الدولية، هي الاذلال". هذا الاذلال الذي شعر به ملايين العرب، أمام شاشات التلفزة، وهم يرون الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، معروضاً في شكل مهين، يخضع لفحص طبي أميركي، إن دل على شيء فإنما يدل على هذا الهدف المقصود والمدروس بجدية، فملايين العرب اعتبروا إن اذلال صدام هو اذلال لهم، حتى ولو كان كثيرون منهم من المعارضين لنظامه وممارساته. لكن المسؤولين الأميركيين عن هذا "العرض" المتلفز، حتى ولو نجحوا في بث هذا الشعور، نسوا انهم بهذه الطريقة، يؤلبون هذه الملايين العربية ضدهم أكثر فأكثر أو ربما أدركوا ذلك، فامتنعوا بعدها عن اظهار صدام حسين بهذا المظهر المذل، لئلا يؤلبوا ضدهم البقية الباقية من العراقيين أو من العرب. صحيح ان هذا الشعور بالاذلال ليس محصوراً بشعب واحد. فشغف السيطرة لا يترك مجالاً للتساؤل عن شعور الآخرين وآرائهم. وأظهر التاريخ ان أكثر الذين صوّروا ثوراتهم على انها محاولات لوضع حد لاستغلال الانسان من جانب الانسان وقعوا في الفخ عينه. كما أظهر ان شعوباً ورجالاً، شعروا يوماً، عن حق أو عن غير حق، بالاذلال، هم الذين أطلقوا الثورات، بدءاً بالثورة الأميركية عام 1776 ونسيبتها الفرنسية عام 1789، وصولاً الى حروب التحرر من الاستعمار، مروراً بالشيوعية الروسية والصينية، وبالنازية والحربين العالميتين الكبيرتين، أكبر مواجهات القرنين الأخيرين المسلحة. وفي كل الحالات، هناك من سلموا بالخسارة كما ان هناك من عادوا مرفوعي الرأس بالنسبة الى الوضع العربي، فيجب الرجوع الى القرون الوسطى وأيام صلاح الدين والأندلس للعثور على مبررات لتغذية الثقة بالنفس المفقودة نتيجة الظلم العالمي المتواصل. لقد جعل الاستعمار الغربي، خصوصاً الفرنسي، من العرب مواطنين من الدرجة الثانية، أو شعوباً تحت الحماية، يرسل بها الى الموت في الحروب الأوروبية، لكنها ممنوعة من التعبير عن آرائها في صناديق الاقتراع. وأكبر دليل على ذلك، الثورة الجزائرية أو "ثورة المليون شهيد" التي انتهت بتحرير الجزائر وبإعلان الرئيس شارل ديغول انسحاب الجيوش الفرنسية من البلاد. فقد كان الجزائريون يعتبرون، في عقر دارهم، مواطنين من الدرجة الثانية في "الجزائر الفرنسية"، يموتون في الحروب من أجل فرنسا، ويفتقدون حقوقهم المدنية الأساسية والتعبير عن آرائهم. أما من حصل منهم على الجنسية الفرنسية، فبقي، حتى اليوم، يفتقر الى "الأصالة"، على رغم محاولات تغيير هذا الواقع المخجل. أما بالنسبة الى بريطانيا، فقد عمدت الحكومة، في محاولة لمقاومة الأتراك عام 1914، بالتلميح للشريف حسين، بإمكان بعث عصور الخلافة الإسلامية، بقيادة عربي أصيل مثله. لكنهم، كعادتهم في تلك الأيام، حنثوا بوعدهم تجاهه ليقوموا، مع فرنسا وإيطاليا، باقتسام المنطقة في اطار معاهدة سايكس - بيكو عام 1916. ثم قاموا عام 1917، من خلال وعد بلفور السيئ الذكر، بالاعتراف بحق اليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، واضعين بذلك كل دول المنطقة على فوهة بركان لم تهدأ حممه بعد. من هنا بدأ العرب يفقدون الثقة في الأوروبيين، ولم يكن الأميركيون أمسكوا بزمام اللعبة بعد، ما أدى الى نشوء حركات قومية وطنية عبر مختلف الدول العربية، وجدت في البداية بطلها القومي في شخص الرئيس جمال عبدالناصر، الذي حاول الرئيسان معمر القذافي وصدام حسين التمثل به في تجارب فاشلة لخلافته. وقام الأول أخيراً، والمعروف منذ البداية بعدائه المطلق للولايات المتحدة، بالالتفاف كلياً على المبادئ التي بنى شهرته عليها، ب"التصالح" مع الولاياتالمتحدة وترك "النضال" جانباً. أما الثاني فخرج نهائياً من اطار اللعبة الدولية. لكن، بدلاً من أن تسهل هذه التطورات مهمة أميركا، الممسكة وحدها بخيوط اللعبة اليوم، فقد زادتها صعوبة وتعقيداًً، ما أجج نار العداوة والكراهية ضدها. والواضح اليوم ان ذلك كله لم ولن يجعل العالم العربي حليفاً لحلم بوش الداعي الى "دمقرطة" المنطقة بأسرها، انطلاقاً من العراق، خصوصاً ان الجميع يعلم ان هذه "الغيرة" البوشية ليست غيرة على مصالحهم، بل تهدف الى القضاء على الارهاب لتأمين مصالح أميركا وإبعاد أخطاره عنها. إذا كانت حرب العراق ألهبت مجدداً شعور الشارع العربي والاسلامي وأيقظت كراهيته ضد الولاياتالمتحدة وحروب رئيسها، إلا أن القضية الفلسطينية هي التي تبقى أولاً وأخيراً القضية الأساس في هذا الشعور الشعبي المناهض للغرب ولأميركا في شكل خاص. فالقضية الفلسطينية التي وضعت دول المنطقة بأسرها على كف عفريت، ما زالت تتفاعل منذ عقود طويلة، ولا حل في الأفق الا الأمل. وقد وقفت الولاياتالمتحدة، الغيورة على مصالح المنطقة وأمنها واستقرارها، دائما ضد معظم الحلول التي توصلت اليها الأممالمتحدة، ضاربة عرض الحائط بمواقف أكثرية الدول ورافعة "الفيتو" في وجه كل القرارات التي تدين الاحتلال الإسرائيلي حتى الاتحاد السوفياتي في عصره الذهبي، والحليف الأول للدول العربية، لم يكن قادراً على الحؤول دون ذلك. فخسر العرب بعض حروبهم ضد اسرائيل بتدخل أوروبي مباشر، وخسروا أكثرها بدعم أميركي مفضوح، لم يوازنه مطلقاً الدعم السوفياتي لهم في تلك الأيام. وتفاقم هذا الدعم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفرد الولاياتالمتحدة بالقرار الدولي، لتصبح المدافع الأول عن انتهاك اسرائيل كل القرارات الدولية، وحقوق الانسان والرأي العام الدولي، في شكل فاضح، فيما المندوب الأميركي في الأممالمتحدة يرفع يده أوتوماتيكياً للمعارضة، كلما تعلق الأمر بإدانة اسرائيل. زد على ذلك، ان الولاياتالمتحدة، الداعية بقوة إلى تجريد كل المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، تتناسى ان الخطر الأكبر مصدره اسرائيل، صاحبة أكبر ترسانة نووية وكيماوية في الشرق الأوسط، من دون أن يرف جفن مسؤول أميركي. لكن هل يستطيع أي مسؤول أميركي أن يعارض سياسة إسرائيل، بل أن يقف على الحياد، من دون أن يواجهه أكبر لوبي صهيوني فاعل في الإدارة الأميركية منذ اعلان دولة اسرائيل. لكن الغريب في الأمر ان العارفين بكواليس الإدارة الأميركية يؤكدون ان الأميركيين الداعمين للوبي الصهيوني ولإسرائيل ليسوا "المحافظين الجدد" وحدهم. بل هم يُجَنَّدون من بين الجمهوريين الذين ينتمون الى الأصولية المسيحية المتكاثرة. ويعتقد هؤلاء بأن تفسيراتهم التوراتية لن تكتمل الا بعد ان تنتهي اسرائيل من ضم الضفة الغربية - التي ما زالوا يسمونها يهودا والسامرة - وقطاع غزة الى أراضيها. يقول العارفون بعقلية الرئيس بوش إنه يحصر اهتماماته ضمن نظرة ضيقة جداً لمصالح الولاياتالمتحدة الداخلية، ويعمل جاهداً على تقليص تدخلاتها الخارجية. في هذا الوقت، يبقى الفلسطينيون متروكين لمصيرهم، يواجهون غضبهم اليومي بحسرة متزايدة في وجه عدو قوي تدعمه أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم. والأرجح ان الولاياتالمتحدة، القادرة وحدها على وضع حد لهذه المعاناة، لن تقوم بشيء يذكر لمصلحة الفلسطينيين عشية انتخابات رئاسية هي جل ما يشغل الإدارة الأميركية في الوقت الحالي، ما يبشر بسنة دموية جديدة في الأراضي المحتلة. لماذا يكرهوننا؟ يتساءل بعض الأميركيين الواعين، وهم كثر. بينما الأجدى هو طرح السؤال في شكل معاكس، بعد كل ما ذكرناه: كيف يمكن ان ننتظر من العرب والمسلمين ان يحبوننا؟ وهم يعرفون ان عليهم اليوم، وبأسرع وقت ممكن، ان يعيدوا للعراقيين، وللفلسطينيين قبلهم، الاحساس الحقيقي بأنهم شعب راشد، وأن يعيدوا لهم مفاتيح مصيرهم. إن الأميركيين الذين ينظرون الى الأمور بهذه النظرة الواقعية كثيرون، وبعضهم في مراكز مسؤولية، بانتظار القرار الشجاع