أخشى أن تتناقض العبر المستخلصة من محاكمة صدام حسين، فتضيع العبرة الحقيقية التي يجب أن تضاف إلى التاريخ السياسي والاجتماعي للعالم العربي في عصر الانطلاق الأميركي وإقباله غير المقيد صوب هذه المنطقة تحت عناوين مختلفة في محاولة لصوغ نظرية عامة مترابطة تنظم كل هذه الطروحات. فصدام حسين شخصية خلافية، لا يتفق اثنان في العالم العربي على أنه عميل أو ذكي، مخدوع أو ضحية لبطانته، قومي أو وطني، وغيرها من التصنيفات التي يصدق الواقع شيئاً منها ويجد المنظرون من هذا الواقع ما يسند نظريتهم في تشخيص صدام حسين. وحتى ديكتاتوريته وجدت من يعارضها ومن يبررها بأسانيد تاريخية وبصعوبة حكم المجتمع المتنوع بغير الحزم الذي يأخذ أحياناً شكل الاستبداد والقسوة والإجرام ما دام هدفه نبيلاً وهو المحافظة على الوحدة الوطنية والاستقرار والرخاء والمجد القومي، وكلها مصطلحات خلافية هي الأخرى في حالة صدام حسين. فنحن إذن أمام ظاهرة قد لا تتكرر في ظروفها وتكوينها وسلوكها وعلاقاتها بالوسط العربي وبقوى النظام الإقليمي والدولي. من الملاحظ أن صدام حسين تعرض لأمرين، الأول إسقاطه والثاني القبض عليه ومحاكمته والحكم بإعدامه. هذه التجربة فريدة في العالم العربي على الأقل إن لم يكن في العالم كله. هذه السابقة التبست فيها العلاقة الحميمة بين صدام وواشنطن والجفاء الأميركي وتغير الحظوظ والأقدار، كما التبس الشخصي بالرسمي وغيره من الاعتبارات. ويمكن القول إن هناك أربع عبر متناقضة بقدر التناقض المحيط بصدام حسين: العبرة الأولى: هي أن مصير صدام هو مصير كل من يعاند الولاياتالمتحدة ولا يتجاوب مع الرغبات الأميركية, أو حتى التعاون مع الرؤية الأميركية للمنطقة. هذا الدرس ركزت عليه واشنطن ونقلته صراحة إلى بشار الأسد ومعمر القذافي. ويقال صراحة إن تعاون القذافي واستيعابه لهذا الدرس جعله يفلت من المصير نفسه، بخلاف بشار الذي نقل اليه كولن باول في أيار مايو 2003 ضرورة أن يستوعب درس صدام، ولكن في نظر واشنطن لا يزال بشار متمرداً وعصياً على استيعاب الدرس. العبرة الثانية: هي أن صدام أساء إلى شعبه والوطن العربي وأن هذا مصير من يستخف بمصالح شعبه. هذه العبرة يقدمها صراحة الأكراد والشيعة في العراق. العبرة الثالثة: هي أن صدام بذل كل جهده لخدمة مصالح اميركا ولكن واشنطن لا صديق لها، فغدرت بصدام كما غدرت بالشاه وبغيره من ضحايا هذه العبرة. العبرة نفسها ترددها إيرانوالكويت على أساس أن هذا المصير جزاء المعتدي، خصوصًا أن إيران ترى أن واشنطن وصدام لقيا في العراق ما يستحقانه. أما العبرة الرابعة فهي أن صدام نموذج قومي وأن ما حدث له حدث لغيره من الأبطال في تاريخ الأمم، وأنه ضحية مؤامرة أميركية صهيونية وأن غزو العراق كان قراراً استراتيجياً بصرف النظر عن شخصية حاكم بغداد. الفريق الأول يرى أن صدام وطني قومي رفع راية العروبة حتى عدّه البعض امتداداً لعبد الناصر في قيادة التيار القومي ومناهضة الغرب وإسرائيل. وهذا الفريق ساند غزو صدام لإيران واعتبر أن هذه الخطوة جسورة، فإذا كانت إسرائيل في قلب العالم العربي، فإن إيران هي الخطر على الجناح الشرقي للأمة وصدام هو الذي ادخره القدر للتصدي لها، ويربط هذا الفريق بين تحالف ايران واسرائيل في زمن الشاه. كما أن تصدي صدام لمصر بعد انحرافها عن قواعد المصلحة العربية زمن السادات، كان إيذاناً بتوليه سدة القيادة، فلم تكن حربه ضد إيران إلا ذوداً عن حوض العروبة وحراسة لبوابتها الشرقية، وهذا هو المنطق الذي جند صدام به كل الجنسيات العربية التي كانت تعمل في العراق حينذاك، وهم الذين اعتبرتهم إيران مرتزقة. هذا الفريق صفق لصدام عندما غزا الكويت رغم تاريخها في خدمة العروبة وثقافتها السياسية والفكرية وكونها منارة للاعتدال العربي واحتضانها العمالة العربية الوافدة، وربما لم يلتفت هذا الفريق إلى الفارق الهائل بين محاربة إيران وبين غزو دولة عربية مجاورة لأول مرة في التاريخ العربي وتهديد دول عربية أخرى، كما لم يلتفت هذا الفريق أيضاً إلى أن صدام اشترط لانسحابه من الكويت أن تنسحب إسرائيل من فلسطين، رغم أن هذا الشرط محمل بدلالات بالغة الخطورة، لأنه يعني أن العراق مثل اسرائيل تحتل كل منها أرضاً عربية. ساند هذا الفريق صدام في كل جوانب هذه القضية سواء كان الاحتلال خطوة لتصحيح حدود رسمها الاستعمار وتحقيق الوحدة التي تقضي على التمزق والتشرذم، أو كان الاحتلال ضرورياً لتعظيم القوة العراقية اللازمة لمحاربة إسرائيل، وعزز صدام لدى هذا الفريق هذه القناعة عندما أطلق بعض الصواريخ على إسرائيل، ولم يدرك هذا الفريق مدى الدمار الذي ألحقه غزو الكويت بكل ما هو قومي. وأخيراً رأى هذا الفريق أن الاحتلال العربي أولى من الاحتلال الأجنبي، وترتب على ذلك أن هذا الفريق عارض استخدام القوة ضد العراق لتحرير الكويت كما عارض استقدام القوات الأميركية إلى المنطقة، وعاب على دول عربية انضمامها إلى التحالف ضد العراق، ولم ينتبه هذا الفريق إلى أن غزو الكويت هو الذي فتح بوابات الخطر ضد كل المصالح العربية، فوجه ضربة قاصمة الى الأمن القومي العربي، وسمح لواشنطن ألا تكتفي بتحرير الكويت بل بتدمير القوات العراقية في الكويت. ولما تم احتلال العراق صعّد هذا الفريق موقفه في مساندة صدام، والقول بان عروبته وصلابته هما سبب الغزو، وأنه ضحية هذه المواقف النبيلة وأن محاكمته هي انتقام من عروبته ومساندة المحكمة هي مساندة للاحتلال وتخلٍ عن العروبة وضياع للهوية. وزاد هذا الفريق أن صدام وقع ضحية التحالف الشيعي الكردي الإيراني. لا بد أن نضيف إلى ما تقدم، أن هناك شريحة إسلامية استهواها خطاب صدام خلال حربه ضد إيران، ما أدى إلى انقسام العالم العربي، كما أسبغ القدسية على قمع الأكراد المتحالفين مع الغرب عام 1991 خصوصًا بعد التمرد على حكومة بغداد، وأطلق على حملة التأديب اسم"الأنفال". بوسع هذا الفريق الموالي لصدام في ضوء ما تقدم أن يصور محاكمته كأنها استمرار للمؤامرة على بطل عربي وأن إعدامه تخليد لبطولته، كما إعدام الذين قاموا بمحاولة اغتياله في الدجيل عمل قانوني في ظل ظروف الحرب العراقيةالإيرانية وتمرد الشيعة ومحاولتهم اغتيال صدام خدمة لإيران، كما أن قمعه الأكراد هو حرص على منعهم من الانفصال. أما الفريق الثاني فيرى على العكس تمامًا أن صدام مستبد طموح بدأ حكمه بالتفاهم مع الولاياتالمتحدة ونذر نفسه لخدمة المصالح الأميركية ولإذلال شعبه، والإضرار بالمصالح العربية. ويرى هذا الفريق أن صدام استخدم العروبة والإسلام ستاراً لمغامراته ضد إيران وخدمة للمشروع الأميركي، ثم استخدم العروبة والقضية الفلسطينية لغزو الكويت فأحدث كسراً نهائياً في نظرية الأمن القومي العربي وأصبح العراق هو المهدد لأمن المنطقة. لكل هذه الأسباب يرى هذا الفريق أن استبداد صدام وعمالته أو غروره وقصر نظره وتوظيفه لكل المقدسات لخدمة مغامراته وجهله بقواعد وقراءة الأحداث، أدت الى مصيره ومصير العراق الذي كان الحصاد المر لكل ذلك. وأخيراً أظن أن العبرة التي يجب الخلوص بها من تجربة صدام حسين بالنسبة لآمال ومصالح العالم العربي هي تفادي الأخطاء التي وقع فيها صدام، فقد ظلم شعبه وتجبر في حكمه وأنزل بالأكراد ما يجاوز حدود المحافظة على وحدة البلاد، وخاض حرباً مع إيران نيابة عن الولاياتالمتحدة وضد كل قواعد الجغرافيا السياسية ثم غزا الكويت حتى سقط نهائياً في الشرك الأميركي ما دام مخطط السيطرة على المنطقة انطلاقاً من العراق ليس وليد الظروف التي قادت واشنطن إلى الغزو. صحيح أن الغزو غير مشروع وإسقاط صدام حسين مخالف للقانون الدولي وتدمير العراق هو من جرائم الإبادة الجماعية ومحاكمة صدام غير مشروعة وتأتمر المحكمة بأمر الاحتلال مما يجعل محاكمة صدام رديفاً لمحاكم نورمبرغ وطوكيو بحيث أصبحنا أمام عدالة المنتصر مع فارق هائل بين العراق وكل من ألمانياواليابان حيث اعتدت اليابانوألمانيا على الدول الأخرى، بينما غزت واشنطنالعراق وهو في عقر داره. تلك هي العبرة التي يفترض بالعرب أن يستخلصوها من حال صدام حسين، وألا تضيع العبرة بين فريقين متناقضين يلخص موقفهما حال التناقض التي تحيط بحال صدام. * كاتب مصري