قبل التحاقها بركب الولاياتالمتحدة في حربها على العراق، كانت اسبانيا خوسيه ماريا اثنار تغرد خارج سربها الأوروبي، في محاولة اثبات أنها ركيزة أساسية في هذا الاتحاد لا يمكن تجاوزها أو حتى الالتفاف عليها، على رغم حصولها على أكبر نسبة من المساعدات والتسهيلات التي تخصصها المجموعة. آخر معاركها تحالفها مع بولندا لإفشال اعتماد "الدستور الأوروبي الموحد" الذي أعده الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان. فهل سيبقى المحور الفرنسي - الألماني، ركيزة أوروبا، مكتوف اليدين أمام "خيانات" مدريد؟ أم سيدفع بالاتحاد الأوروبي للاقتصاص منها مالياً؟ لم يستسغ الرئيس الفرنسي جاك شيراك الأساليب التي يتبعها رئيس الوزراء الاسباني خوسيه ماريا اثنار في اللعب على تناقضات باريس مع دول شمال افريقيا التي تعتبر من مناطق نفوذ فرنسا تاريخياً، ومنفذاً مهماً لصادرات شركاتها. كما لم "يبلع" استخدامه ورقة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً عندما ترأست اسبانيا احدى دوراته، لتعزيز مواقعها على حساب مجموعة ال16 في حينه. فإذا كانت بريطانيا توني بلير مضطرة لأسباب مختلفة - هي المترددة أصلاً في تنفيذ القرارات الرئيسية المتخذة من قبل الاتحاد، ومنها موضوع العملة الموحدة اليورو - الانسياق الأعمى وراء واشنطن، إلا ان اسبانيا اللاتينية، المستفيدة من نعم أوروبا، ليست مضطرة لسلوك النهج الاعتراضي الحالي، الذي من شأنه الإساءة الى تضامنها الأوروبي، ما يطرح التساؤل حول الخلفيات والأبعاد التي شجعت أثنار على السير قدماً في هذا الطريق "الانفصالي المدروس" والاستفزازي في آن. ففي حين يؤكد بعض الأوساط الفرنسية المقربة من وزارة الخارجية أن أثنار هو "حصان طروادة" داخل الاتحاد، يلعب لعبة الاميركيين لإضعافه وإرباكه بخلق العراقيل أمام تقدم مؤسساته، ترى مراجع أوروبية اخرى ان السبب الحقيقي وراء الخطوات الأحادية الجانب التي تتخذها مدريد يكمن في العقدة المزمنة التي تتحكم في مصادر القرار التي يمثلها اثنار، والتي تعتبر ان الوقت حان لاستعادة مجد اسبانيا المفقود كقوة اقليمية رائدة في محيطها. وما احتلالها جزيرة "ليلى - تورا" عسكرياً قبل حوالى عامين، والتذكير تكراراً بدورها في حسم قضية الصحراء الغربية - احدى بقايا مستعمراتها في شمال افريقيا - ودخول السوق الجزائرية من باب قطاع الهيدروكربورات، واثارة المفاوضات مع بريطانيا حول استعادة مضيق جبل طارق، ورفض البحث في مستقبل مدينتي سبتة ومليلة، والمشاركة العسكرية في الحرب ضد العراق، وأخيراً، لا آخراً منع أوروبا من التوصل الى اتفاق على دستورها الموقت، سوى دلائل على هذه القناعة التي بدأت تأخذ منحى مقلقاً لدى الشركاء الأوروبيين الآخرين، خصوصاً عشية توسعة الاتحاد الذي سيصل عدد اعضائه الى 25 في ايار مايو 2004. أياً تكن التفسيرات أو التبريرات التي قدمها بعض رؤساء الدول الأوروبية للتقليل من انعكاسات افشال الدستور الموحد، إلا ان ما حصل يعتبر الهزيمة الثانية التي ألحقتها اسبانيا في أقل من سنة بالمحور الفرنسي - الألماني، في الوقت الذي رحبت فيه بريطانيا من دون ان تضطر للدخول في مواجهات. فقد ساعد حرص رئيس المعاهدة، فاليري جيسكار ديستان على مساعدة بلير على اللحاق بالمغامرة الأوروبية، في السماح للندن بالإبقاء على حقها بالفيتو المتعلق بالمجال الضريبي وعلى مستوى الموازنة وايضاً في الشأن الاجتماعي. معاقبة المتمردين امام هذا الواقع المقلق بالنسبة الى العلاقات المستقبلية داخل الاتحاد الأوروبي، قررت الدول الست الأغنى، التي تساهم بالجزء الأكبر من موازنته معاقبة الخارجين من الصف، أي اسبانيا بالدرجة الأولى وبولندا تالياً نتيجة إفشال عملية اصلاح المؤسسات. وفي هذا الاطار، وفي رسالة وجهتها كل من المانيا والنمسا وفرنساوبريطانيا وهولندا والسويد الى رئيس اللجنة الأوروبية رومانو برودي، اتخذت هذه الدول موقفاً من الموازنة لفترة 2007 - 2013. فالدول المعنية هذه ترفض بأن تتجاوز الموازنة الأوروبية، بعد توسعة الاتحاد، مستوياتها الحالية التي توازي واحد في المئة من ناتج الدخل القومي الاجمالي الأوروبي. ما يعني ان مدريد وفرصوفيا، المستفيدتين الأكثر من هذه المساعدات حتى الآن، ستكونان ضحية هذا الاجراء. ففي حين نددت بولندا بهذا الموقف الذي وصفته بالابتزاز، حافظت مدريد من جهتها على برودة اعصاب متناهية بانتظار جولة المفاوضات المقبلة حول الموازنة. ويمكن اعتبار افشال التصويت على الدستور الموحد بمثابة المعركة الأوروبية الأخيرة التي خاضها أثنار كونه لن يترشح مجدداً للانتخابات التشريعية الشهر المقبل. لذا، فعلى خليفته ماريانو راجوي اذا ما نجح، ان يواجه المفاوضات الجديدة حول الدستور. واذا كان ناتج الدخل القومي الاسباني يقترب من 90 في المئة من المعدل الوسطي داخل أوروبا الخمسة عشر، يمكن لاسبانيا، والحالة هذه، ان تحافظ على امتيازاتها حتى العام 2007، هذا ما راهن اثنار عليه عندما اتخذ موقفه المعرقل لإقرار الدستور بهدف اثبات الوجود والإبقاء على هذه المكاسب. وتعتبر اسبانيا حالياً المستفيد الأكبر من المساعدات الأوروبية، اذ حصلت في العام 2002 على حوالي 15 بليون يورو، أي ما يوازي 20.9 في المئة من الموازنة الأوروبية مجتمعة. فمع انضمام اعضاء جدد أكثر فقراً الى الاتحاد، ستجد اسبانيا نفسها فوق المعدل الوسطي لناتج الدخل الأوروبي، لكنها حصلت وفق "معاهدة نيس" على حق النقض في ما يتعلق بالآفاق المالية للفترة 2007 - 2013. الولد المشاكس فالهجوم الوقائي الذي قام به اثنار في الاجتماع الأخير، استهدف الحفاظ على بعض المساعدات البنيوية والزراعية العائدة للمناطق الاسبانية الأشد فقراً، كذلك الحصول على خفض تدريجي كبير بالنسبة الى المناطق الاخرى. ولا يعتقد احد في مدريد بأن راجوي سيكون اكثر مرونة من سلفه الذي اعلن اخيراً في مؤتمر صحافي في الارجنتين ان بلاده ستدافع حتى النهاية عن مصالحها داخل اوروبا، مضيفاً بأنه أياً سيكون شكل الحكومة التي ستعززها صناديق الاقتراع، فإنها ستتبع الطريق نفسه الذي سار عليه، ما يعني ان اسبانيا ستبقى ولفترة "الولد المشاكس" داخل المجموعة الاوروبية. باصطفافه وراء الرئيس جورج بوش ليس فقط في حربه على العراق، بل في مواقف اخرى من قضايا عالمية ذات طابع سياسي واقتصادي، يكون رئيس الوزراء الاسباني قد وضع حداً لثلاثين عاماً من الديبلوماسية التي وضعت اوروبا في قلب مصالح بلاده. فلماذا اتخذ اثناء هذا الخيار الذي لا يخلو من المغامرة والذي تعترض عليه غالبية الرأي العام الاسباني؟ واذا كان رده على هذا التساؤل المطروح بقي على الدوام في حدود العموميات، مثل: هل من المنطق التفكير طويلاً عندما يجب الاختيار بين صدام حسين وجورج بوش؟ الا ان الاسباب الفعلية للتغريد خارج السرب هي غير ذلك بالتأكيد. في هذا السياق، يشرح احد المقربين من اثنار ان هذا الاخير مقتنع تماماً بأن العالم دخل ولفترة طويلة في عصر السيطرة الاحادية المتمثلة بالسلام الاميركي المفروض بالقوة. لذا، فإن بلاداً كاسبانيا، هذه القوة المتوسطة الحجم في اوروبا، والتي تطمح الى الانضمام الى الدول الصناعية الثماني الكبرى، لا يمكن ان تحقق هدفها هذا الا اذا التصقت كلياً بالدولة العظمى المهيمنة وحيدة على العالم، وبالتالي حصد نتائج ولائها لها في كل المحطات والمحافل. من هنا، يمكن تفسير اسباب وجود اثنار الى جانب كل من بوش وبلير في القمة الثلاثية التي عقدت في اسبانيا وأعطت الاشارة بشن الحرب على العراق. لكن ما هو موقع اوروبا في ظل هذا التوجه الجديد بالنسبة الى اسبانيا؟ ان الوقائع المتتالية تؤكد بأن رئيس الوزراء الاسباني ضحى بسهولة بحيث تساءل بعضهم عما اذا كان حقاً مؤمناً بهذه الاوروبات. باختصار اصبحت سياسة اسبانيا الاوروبية بعيدة عن كل التزام ومادية محضة. بمعنى ان بقاء مدريد داخل الاتحاد بات مرهوناً بحجم المساعدات التي تحصل عليها، كذلك بالتنازلات التي يمكن ان تنتزعها لمصلحة الصيادين والمزارعين. ولم يخف اثنار في يوم من الايام انزعاجه مما وصفه بالمحور الفرنسي الالماني الذي يمثل النموذج الاقتصادي المترهل في مقابل محور نيو ليبرالي مؤلف من مدريد ولندن وروما، الذي يجب ان يصبح مرجعاً داخل الاتحاد الاوروبي. فسياسة "خالف تُعرف" التي تشهدها اليوم الساحة الاوروبية وتقبل بها على مضض نابعة من نظرية الالتصاق الكلي باميركا القادرة وحدها، بنظر اثنار، على تحصين وضع اسبانيا داخل الاتحاد، وتسهيل اختراقاتها عالمياً وفي الضفة الاخرى من المتوسط. من هنا يمكن ايضاً فهم تشدد الحكومة الاسبانية لناحية فكرة التعاون العسكري الاوروبي المعزز، الذي سيؤدي لو تحقق، الى توجيه ضربة لحلف شمال الاطلسي الذي تقوده عملياً الولاياتالمتحدة. ولمكافأة مدريد على خدماتها "الجليلة" هذه كشفت واشنطن عن نيتها دعم هذه الاخيرة للحصول على مشروع المفاعل النووي الاختياري "ايترا" ذي الابعاد الاقتصادية والتقنية الكبيرة. فهذا المشروع الذي تبلغ كلفته 4.57 بليون يورو على مدى عشرة اعوام من شأنه خلق 200 وظيفة علمية جديدة الى جانب 400 وظيفة لتقنيين، اضافة الى ايجاد وظائف غير مباشرة مقدرة بين 120 ألفاً و340 ألفاً سنوياً على فترة ثلاثين عاماً. ما يجعل اسبانيا "تركب رأسها" اكثر فأكثر متحدية الركائز الكبرى للاتحاد الاوروبي. وتقف المجموعات المالية والصناعية الاسبانية الى جانب اثنار في خياره التحالفي مع واشنطن، كذلك تؤيده في مماحاكاته البراغماتية مع اوروبا. كما تساعده في الوقت نفسه على مواجهة المعارضة الداخلية والاعداد للانتخابات المقبلة لحزبه. ما يجعله عملياً في وضع مريح يمكنه من السير قدماً في نهجه المتفرد اوروبياً، وفي اختراقاته داخل منطقة شمال افريقيا التي وضعت فيها اميركا اسبانيا في صلب استراتيجيتها الجيوبوليتيكية والاقتصادية في المستقبل. وتفيد المعلومات ان الادارة الاميركية اعطت موافقتها على دخول 91 مؤسسة اسبانية ميدان المنافسة على العقود في السوق العراقية وحدها. شمال افريقيا لقد ضغطت واشنطن في الاشهر الاخيرة بشكل لافت على غالبية دول اتحاد المغرب العربي لافساح المجال امام الشركات الاسبانية لدخول اسواقها من ابوابها الواسعة. ومن ناحية اخرى دفعت لتدوير زوايا الخلافات مع البعض، مثل المغرب تحديداً. بناء عليه ابدت الرباط مرونة في التعاطي السياسي والديبلوماسي والاقتصادي مع مدريد، ما ازعج الى حد كبير الحليف الرئيسي فرنسا، فقبل اشهر مهّدت الحكومة المغربية لذلك، بالموافقة على اتفاق مشترك للتنقيب عن النفط في المياه الاقليمية المتنازع عليه على ساحل مدينتي طنجة والعرائش، واعطت الترخيص لشركة "ريبسول" وتلت هذه الخطوة الزيارة التي قام بها اثنار للرباط في كانون الاول ديسمبر الماضي على رأس وفد كبير مؤلف من ثمانية وزراء وعشرات رؤساء مجالس ادارة الشركات الاسبانية ورجال الاعمال كان بنتيجتها توقيع العديد من الاتفاقات، وتحويل اجزاء من الدين المترتب على المغرب لاستثمارات. بذلك تكون قد طويت صفحة التأزم التي سادت العلاقات بين البلدين طوال السنتين الاخيرتين والتي وصلت الى حدود المواجهة العسكرية. وفي الاتجاه نفسه فتحت الجزائر قطاع الهيدروكربورات والبنيات التحتية امام المجموعات الاسبانية على حساب الشركات الفرنسية التي كانت قد احرزت تقدماً في الاشهر الماضية بفضل مساعدة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي تمنت عليه واشنطن حسب بعض المصادر، تنويع الشراكات مع اوروبا مع النصيحة بالالتفات اكثر الى حلفاء واشنطن مثل اسبانيا وايطاليا. وكانت الادارة الاميركية قد شجعت اثنار على زيارة طرابلس بعد ايام من حل مشكلة لوكربي والاجتماع مع العقيد القذافي الذي وعد بتعزيز مواقع شركة "ريبسول" النفطية عبر اعطائها تراخيص جديدة للتنقيب. ومما يؤكد اطلاق يد اسبانيا في منطقة شمال افريقيا واستمرارها بالتغريد خارج سربها الأوروبي، التصرف "المتعالي" الذي بدر عن أثنار في قمة الحوار الأولى 5"5 التي عقدت في تونس بداية شهر كانون الأول ديسمبر الماضي، بحضور رؤساء دول أوروبية ومغاربية. فلقد حضر رئيس الوزراء الاسباني قبل انعقاد الجلسة الافتتاحية بخمس عشرة دقيقة وغادر بعد انتهائها بساعات، متغيباً عن الجلسة الختامية في اليوم التالي، من دون أن يشارك في الاجتماعات الرئاسية بحجة ارتباطه بمواعيد طارئة. ولم يركز رئيس الوزراء الاسباني في خطابه المختصر سوى على مسائل الهجرة غير الشرعية والاستقرار على ضفتي المتوسط ومحاربة "الإرهاب الدولي الذي تقوده بنجاح الولاياتالمتحدة"، حسب تعبيره. ومن مظاهر اطلاق يد مدريد في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، تخصيصها مبلغ 4 بلايين يورو لاقتناء أسلحة "تحميها من الخطر الجنوبي"، كما ورد على لسان وزير دفاعها فدريكو تريليو، ما يعني اعتماد هذا البلد الخيار العسكري لتعزيز سياساتها الخارجية القائمة منذ فترة على التشدد واستعراض القوة والتفرد على المستوى الأوروبي. ويرى المراقبون أن هذا التوجه لزيادة التسلح، المدعوم أميركياً، سيضمن لاسبانيا تفوقاً استراتيجياً على دول منطقة شمال افريقيا مجتمعة، لفترة خمسين سنة مقبلة. كما يستطيع قطع الطريق سلفاً على المواقف الأمنية الموحدة التي يمكن أن تحصل في حال تقارب بين دول المغرب العربي. وكان قد سبق لمسؤولين اسبان أن أكدوا أن نشوء رؤية سياسية أو اقتصادية مغاربية موحدة، لناحية التعاطي مع الاتحاد الأوروبي، لن تلزم بالضرورة اسبانيا. ما يشير من دون أي لبس إلى نية مدريد عدم الالتزام الجدي بما تم التوافق عليه في قمة 5"5، خصوصاً بالنسبة إلى الملفات التي تخرج عن نطاق الأمن والإرهاب والهجرة السرية. واستناداً إلى ما تقدم ولما يمكن استشفافه من المواقف الاسبانية الاستعراضية في الفترة الأخيرة، يبدو أن قيادة هذا البلد باتت محكومة ب"عقدة القوة الاقليمية الرائدة"، التي لم تعد تقبل بتصنيفها كقوة ثانوية، سواء في محيطها الأوروبي أو المتوسطي، الذي يسحب نفسه بالتالي على منطقة شمال افريقيا. اليوم، وبعد نجاحها في تجربة انشاء محور، ولو ظرفي مع بولندا، وافشالها إقرار الدستور الأوروبي المدعوم من ست دول فاعلة داخل الاتحاد الأوروبي، من غير المتوقع أن تقبل مدريد بتراجع ولو محدود لدورها المستقبلي، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار المكافأة التي تغدقها عليها من دون حساب الإدارة الأميركية الحالية على كل الصعد، والتي لا بد أن تؤدي إلى المزيد من التصلب في مواقفها حيال الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد توسعته التي لن تكون حكماً في مصلحة اسبانيا مالياً، ما سيدفعها للتصعيد بهدف انتزاع تعويضات أو تنازلات بأشكال مختلفة من الآن وحتى حلول العام 2008، نهاية حقها في النقض