عرف التاريخ كثيراً من الرجال الذين حققوا اعمالاً جبارة من دون ان يشعروا بأهمية اعمالهم، او يقدروا النتائج التي ستنتهي اليها. وهذا الطراز من الرجال لا يصنع التاريخ ولا يتحكم في سيره، وانما هو اشبه بالمواد التي تستخدم في صنعه. فقد حاول هتلر مثلاً ان يحقق لالمانيا سيادة عالمية، لكن التاريخ اتخذه اداة لتدمير النظام الدولي القائم واعادة تقسيم العالم. وفي عالم الصحافة ثمة رجل قام بمثل هذا الدور، ولكن بنتائج معكوسة، وبدوافع نزيهه، ودفعه طموحه الشخصي الى احداث ثورة في الصحافة واساليبها فأصبح على غير علم منه - وسيلة لتحقيق نتائج لم تخطر له ببال، فكان أنجح ناشر صحافي في تاريخ الصحافة البريطانية. بعد طفولة فقيرة، ومحاولات عديدة لتحقيق ثروة سريعة، خاض شاب اسمه تشارلز وليم هامرزورث اللورد نورثكليف في ما بعد ميدان الصحافة كمراسل وكاتب في صحف شعبية مختلفة، ثم ارتفع بجده ونشاطه الى مناصب رئيسية في الصحف، وقرر ان يصدر صحيفة يمتلكها هو، سماها "أجوبة عن رسائل القراء" وبعد بعض المصاعب في الحصول على الدعم المالي، بدأ بنشر صحيفته، ثم اختصر اسمها الى "أجوبة" ANSWERS فحققت نجاحاً شعبياً واسع النطاق بما اظهره صاحبها من قدرة على تحسس أذواق جماهير القراء. واتبع صحيفة "أجوبة" بدوريات شعبية اخرى، رخيصة الثمن، فكانت هذه الصحف الاساس الذي قامت عليه في ما بعد اكبر امبراطورية للنشر عرفت باسم: AMALGAMATED PRESS. وفي سنة 1894 خاض الشاب الطموح هارمزورث ميدان الصحافة اليومية، فاشتري جريدة "لندن ايفنينغ نيوز" التي كانت على وشك الافلاس، وجعل منها جريدة شعبية رائجة، فارتفع توزيعها خلال سنة واحدة الى 160 ألف نسخة يومياً، وحققت ارباحاً مهمة. ثم اشترى جريدتين تصدران في مدينة "غلاسكو" ودمجهما في جريدة "غلاسكو ديلي ريكورد". وفي سنة 1871 صدر في انكلترا قانون التعليم الاجباري الذي يحتم على المواطنين جميعاً ان يذهبوا الى المدارس وينالوا قدراً ضرورياً من التعليم حتى سن معينة من اعمارهم. وعلى أثر صدور هذا القانون فكر هارمزورث ان نسبة الذين يحسنون القراءة والكتابة سترتفع في السنوات القليلة التالية لصدور هذا القانون ارتفاعاً كبيراً ومفاجئاً، وان هؤلاء المتعلمين الجدد سيميلون بدافع من طبيعتهم البشرية الى قراءة الصحف وتتبع الاخبار اذا وجدوا الصحف التي يفهمونها ويستسيغونها، والتي تعنى بنشر ما يهمهم من اخبار وموضوعات، ولا تفرض عليهم كما يفرض الدواء على المريض أموراً بعيدة عن نطاق حياتهم، وموضوعات لا تهمهم. وان هذا الميل سينقلب مع الايام الى عادة راسخة تصبح جزءاً لا يتجزأ من نظام حياتهم، يقبلون عليه بصورة طبيعية اقبالهم على طعامهم وشرابهم وتدخينهم. واستطاع هذا الشاب ببعد نظره وصواب تقديره، تدعمهما جذوة خارقة من الجد والنشاط، ان يصدر صحيفة تحتوي على كل ما يهم عامة القراء، سماها "الدايلي ميل"، في 4 ايار مايو سنة 1896، فحقق غيرها نجاحاً مثيراً لم يسبق له مثيل في الصحافة البريطانية. وكان السر في نجاحها تلك البراعة التي استغل بها عواطف الانسان ونقاط الضعف فيه ليجعل من موضوعاته قصة مشوقة او تقريراً مسلياً يغري بالقراءة، وبذلك أخرج عادة قراءة الصحف من حيزها الضيق المحصور في صفوف الطبقة المتوسطة، الى أفق فسيح يشمل جميع طبقات المجتمع، ورفع توزيع الصحيفة من الألوف الى الملايين. وهكذا جعل من تجربة "الدايلي ميل" اكبر مؤسسة صحافية في العالم في ذلك الوقت، كما حقق لنفسه ثراء عريضاً. كان نورثكليف يرى ان رسالة الصحافي هي تحقيق الصلة بين القارئ والحياة، تلك الصلة التي كانت الصحافة القديمة قد قصرت في تحقيقها بما اتصفت به من عجز واستعلاء. ولذلك قرر ان يؤسس جريدة يقرؤها الملايين من الاشخاص الذين لم تخطر لابائهم قراءة جريدة او تقليب صحيفة، اما لجهلهم القراءة، او لإهمال الصحافيين اياهم وتجاهلهم لاهتماماتهم، حاصرين عنايتهم بالخاصة من القراء وليس عامة الشعب. ولا شك ان هذا العمل الذي قام به "نورثكليف" كان انجازاً ايجابياً أدى الى نتائج أخطر مما يبدو في الوهلة الاولى. فقد انتشرت جريدته بين الناس انتشاراً عظيماً، واثرت في حياتهم تأثيراً بعيدا. ومع ذلك فإن كل عمل ايجابي له جانب سلبي، ولكل عمل بناء جانب هدام، وكان هذا الجانب من عمل "نورثكليف" هو التغيير الذي احدثه في رجال الصحافة انفسهم وفي سلوكهم واعتباراتهم الاخلاقية والاجتماعية. فقد كان رجال الصحافة قبل "نورثكليف" اشخاصاً مترفعين، معتزلين، يعيشون في عالمهم الخاص، وفي ابراجهم العاجية، اشبه بمعيشه اساتذة الجامعات. ولكنهم مع ذلك كانوا يحملون شعوراً بالمسؤولية تجاه قرائهم، ويحسبون لهم حسابا. وكانوا يكتبون لجمهور صغير، ولكنه جمهور من الخاصة يعرفون فيهم الفهم والتمييز، والقدرة على النقد والادراك. وكانوا يقفون من قرائهم موقف الاستاذ من التلميذ، وليس موقف المهرج الذي تنحصر مهمته في تسلية الجمهور. لقد هدم "نورثكليف" في الصحافيين شعورهم بتلك المسؤولية ازاء القراء، واستعاض عنها بمقياس آخر، هو "نجاح الصحيفة" وان كان ذلك على حساب الصحافي نفسه كما استعاض عن نزاهة الصحيفة وقوة تأييدها كمقاييس لنجاحها، بسعة انتشارها وتوزيعها، وأخذ يطالب أعوانه بالجرأة والقسوة، بل الوقاحة، بدلا من الخلق السوي والالتزام بالمبادئ. واشترى "نورثكليف" جريدة "دايلي ديسباتش" الاسبوعية وهي على وشك الافلاس تقريباً، وجعل منها باسم "صنداي ديسباتش"، اوسع الجرائد الاسبوعية انتشاراً في البلاد، كما انه انقذ جريدة "الاوبزرفر" من الاحتجاب، وفي سنة 1905 منح لقب "لورد" وصار يعرف باسم "لورد نورثكليف". وفي السنة التالية، أي في سنة 1906، بلغ نورثكليف قمة ما كان يطمح اليه، وما يعتبره مجده الصحافي، بجلوسه على عرش جريدة "التايمز" أعرق الصحف البريطانية اليومية. وأوسعها شهرة وأكثرها نفوذاً. وقد مارس اللورد نورثكليف، عبر صحفه العديدة، الواسعة الانتشار، نفوذاً كبيراً على السياسة البريطانية. وفي بداية الحرب العالمية الاولى شن حملة عنيفة على وزير الدفاع الشهير اللورد كتشنر وشملت حملاته ايضاً رئيس الوزراء اسكويث. ولكن كتشنر كان يعد بطلاً قومياً، ولذلك تدهور بيع الجرائد التي هاجمته كثيراً، ومع ذلك فإن آراء نورثكليف التي عبر عنها علنا في صحفه، شاركه فيها كثيرون من اعضاء الحكومة في الخفاء. ولما مات كتشنر غرقا في حزيران يونيو 1916، رحب نورثكليف بالحادث علناً ووصفه بأنه كان دعما للمجهود الحربي واعظم "ضربة حظ" حصلت عليها الامبراطورية البريطانية في تاريخها. وفي وقت تال من تلك السنة ازيح اسكويث من رئاسة الوزارة وجاء مكانه لويد جورج الذي حصل على تأييد صحف نورثكليف. وفي سنة 1917 تمكن الصهيونيون ان ينتزعوا من الحكومة البريطانية "وعد بلفور" المشين، وكان للسياسة التي أملت هذا الوعد خصوم ومعارضون من الانكليز ومن اليهود أنفسهم. فاهتم اللورد نورثكليف بهذا الموضوع من ناحية صحافية ومن ناحية انسانية ايضاً، وطلب الى رئيس تحرير جريدة "التايمز" ويكهام ستيد ان يسافر الى فلسطين لدراسة حقيقة الوضع فيها، والتعرف على امكان تنفيذ المشروع الصهيوني. وكان ويكهام مؤيداً لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين في ما يبدو، فظن نورثكليف ان ويكهام حالما يرى كيف كانت الأقلية اليهودية الصغيرة في فلسطين مصممة على استغلال كل وسيلة مشروعة وغير مشروعة لإبعاد الفلسطينيين عن وطنهم، سينحاز الى الحق ويغير موقفه ويتراجع عن تأييد مزاعم وايزمان وغيره من الصهيونيين. وهنا كان حساب نورثكليف خاطئاً، لأن تأثير الصهيونيين على ويكهام كان قوياً بدرجة انه رفض بصراحة تنفيذ أي من طلبات نورثكليف الذي كان يملك غالبية اسهم جريدة "التايمز"، أي الشخص الذي كان ويكهام أجيراً لديه. كما ان ويكهام رفض نشر مقالة تنتقد موقف الوزير بلفور من الصهيونية. وعلى أثر ذلك، قرر نورثكليف ان يذهب بنفسه الى فلسطين، فسافر اليها بصحبة صحافي معروف هو جيمس جفريز، الذي ألف كتاباً نشر في سنة 1939 بعنوان "فلسطين - الحقيقة" وهو كتاب لا يزال يعد من المراجع الرئيسية في تاريخ فلسطين خلال تلك الفترة. واطلع نورثكليف في فلسطين على الحقائق وتوصل الى النتائج التي سبق ان توصل اليها الباحثون والمحققون في الموضوع، وكتب قائلاً: "في رأيي، اننا من دون تفكير كاف، كنا نتعهد بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود على رغم ان 700 ألف عربي يعيشون هناك، ويمتلكون البلد. ويبدو ان لدى اليهود انطباعاً بأن انكلترا بأجمعها مؤيدة لقضية الصهيونية، متحمسة لها، وقد قلت لهم ان الأمر ليس كذلك، وسيكون هنالك اضطراب في فلسطين، والناس لا يجرؤن على مصارحة اليهود هنا بالحقيقة. وقد سمعوا بعض هذا الكلام مني...". ولكن المقالات التي بعث بها نورثكليف ومرافقه جفريز، لم تنشر في جريدته، بل ظهرت في ما بعد مع أوراق نورثكليف عند وفاته، فبعثت الرعب في نفوس الصهاينة الذين كانوا يحاولون في ذلك الوقت، الحصول على تأييد الشعب البريطاني لمخططهم في اغتصاب تلك الأراضي. أثار نورثكليف لدى عودته حملة شعواء على الصهيونية في جرائده الأخرى "الديلي ميل" و"الايفننغ نيوز" وصوّر الصهيونية للرأي العام البريطاني كخطر يهدد الامبراطورية، ووصف بالحمق وقصر النظر التزام الحكومة جانب خمسمئة ألف من اليهود في العالم - في أحسن تقدير - لتغضب خمسين مليوناً من العرب. ولما نشر وايزمان مذكراته المعنونة "التجربة والخطأ" أشار فيها الى اللورد نورثكليف والى الزيارة التي قام بها لفلسطين، بأسلوب ينم عن حقد شديد، وخرج فيه عن جادة الوقار والإتزان. أما جريدة "التايمز" التي كان يرأس تحريرها ويكهام ستيد فلم تنشر مقالات صاحب الجريدة نورثكليف. وفي اجتماع لمحرري "التايمز" انتقد نورثكليف ويكهام وموقفه بعبارات قاسية متوقعاً ان يقدم استقالته على أثرها. ولكن رئيس التحرير لم يستقل، بل قرر استشارة محام للحصول على رأي قانوني في أمر الاستقالة، ومدى الاستفزاز الذي يستوجب الاستقالة، فلم يؤيد المحامي ضرورة الاستقالة. ثم ذهب ويكهام الى أبعد من ذلك، واتصل بمحامي نورثكليف نفسه، وزعم في ما بعد ان هذا المحامي صرح بأن اللورد نورثكليف يعاني من وضع غير طبيعي، وانه عاجز عن أداء أعماله بصورة صحيحة، وان مظهره يدل على انه ليس من المحتمل ان يعيش طويلاً، وزعم ويكهام ان المحامي نصحه ان يستمر في عمله ولا يبالي بالضغط الذي يمارسه نورثكليف لحمله على الاستقالة. وبدأ ويكهام ستيد بنشر الإشاعات المغرضة عن صحة نورثكليف، بل انه قال لمدير تحرير "التايمز" انه على وشك الجنون. وفي 3 أيار مايو 1922 حضر نورثكليف في لندن دعوة غداء توديعية لرئيس تحرير احدى صحفه لمناسبة تقاعده. وصرح الحاضرون انه كان في حال صحية جيدة جداً. وفي 11 أيار 1922 ألقى نورثكليف خطاباً ممتازاً في "اتحاد الصحافة الامبراطوري" وشهد الذين سبق ان بلغتهم اشاعة مرضه أو جنونه، بأن ما بلغهم لم يكن صحيحاً مطلقاً. وبعد بضعة أيام أبرق نورثكليف، من فرنسا، بتعليمات الى مدير ادارة "التايمز" لترتيب اجراءات استقالة رئيس التحرير ويكهام ستيد. ولم يجد مدير الجريدة في هذه التعليمات أمراً غير اعتيادي، ولم يساوره أي شك أو قلق في شأن صحة اللورد نورثكليف. وذهب أحد أعضاء مجلس ادارة الجريدة لمقابلة نورثكليف فوجد وضعه الصحي والعقلي طبيعياً، ولم يلحظ أمراً غير اعتيادي في كلامه أو تصرفاته أو مظهره. في 11 حزيران يونيو، قابل ويكهام اللورد نورثكليف مرة اخرى، فقال له نورثكليف انه سيتولى رئاسة تحرير "التايمز" بنفسه، وطلب اليه ان يتنحى عن رئاسة تحرير الجريدة. لكن ويكهام كان قد دبر أمراً آخر. ففي اليوم التالي كان نورثكليف وويكهام وعدد من محرري "التايمز" في قطار مسافر الى سويسرا في سفرة كانت مقررة سابقاً، وكان ويكهام قد دبر وجود طبيب معين على القطار نفسه، وبعدما اتفق معه ان يقرر حجر نورثكليف بسبب اختلال عقله. ولما وصل القطار الى جنيف، كان هناك طبيب آخر في الانتظار، ليعلن الطبيبان ان نورثكليف مصاب بالجنون ويجب حجره. ثم أبرق ويكهام بالنبأ الى لندن، وأصدر تعليمات الى "التايمز" بتجاهل أي شيء يصلها من صاحب الجريدة. في 13 حزيران عاد نورثكليف الى لندن، وكان لا يزال محجوراً عليه وممنوعاً من ممارسة أي عمل في مؤسساته العديدة أو الاتصال بها، بل ان خطوط هواتفه كانت مقطوعة جميعاً، ووضع رجال شرطة على أبواب مكاتب "التايمز" لمنعه من دخولها اذا تمكن من الوصول اليها. وفي اليوم نفسه، بينما كان نورثكليف منقطعاً عن العالم، وصوته المدوي قد أخرس، صوتت "عصبة الأمم" لإعادة تأييد الانتداب البريطاني على فلسطين تمهيداً لسيطرة الصهيونية عليها بأساليب العنف والتزوير. وبعد شهر واحد، أي في 14 آب اغسطس 1922، توفي اللورد نورثكليف الذي كان يوماً ما عملاق الصحافة البريطانية وامبراطورها الذي كان يهابه رؤساء الوزراء وقادة الجيش ورجال السياسة، وكانت وفاته بمرض التسمم الدموي العنقودي والتهاب شغاف القلب، ولم تعرف أي تفاصيل عن الحجر عليه في ذلك الوقت، وبقى الأمر مكتوماً لمدة ثلاثين عاماً، ولم يظهر ما حدث له إلا بعد ان نشر كتاب "التاريخ الرسمي لجريدة التايمز"، ثم بتفاصيل أوسع في كتاب الباحث دوغلاس ريد المعنون "الخلاف على صهيون". كان اللورد نورثكليف بجهاده الصحافي، يرمي الى الشهرة أولاً، وكانت الشهرة لديه أعز من المال، ولكنه مع ذلك جمع ثروة طائلة، كما نال شهرة واسعة. على ان النتيجة التي حققها من غير ان يرمي اليها، هي أنه أوجد في حياة بني قومه أولاً، وفي حياة الناس جميعاً بعد ذلك، غذاء فكرياً جديداً يسعون الى طلبه. ورفع قراءة الصحف من مرتبة الكماليات الى مصاف الضروريات، وهو فوق كل هذا وذاك، أضاف الى السلطات الثلاث الرئيسية في حياة الأمم سلطة رابعة لا تقل عن أخواتها تأثيراً وأهمية، وهي سلطة الصحافة، وكان بحق عملاق هذه المهنة ومن أبرز روادها، ولكنه ذهب ضحية اخلاصه لمبادئه وأفكاره وانتصاره للحق، وربما سبقه لزمانه