فريمان دايسون عالم فيزياء أميركي شهير، يؤمن ايماناً عميقاً بأن التكنولوجيا ستكون قادرة على تحرير الانسان في كل المجالات، وبأن العلم يمكن أن يكون اخلاقياً ومتصالحاً مع مفهوم العدالة الأجتماعية. وهو من هذا الموقع التفاؤلي الوردي، يتخّيل عالماً بشرياً مستقبلياً وردياً. يقول، في كتابه الاخير "عوالم متخّيلة": "تصوّروا ماذا قد يحدث بعد 50 سنة من الآن، حيث ستتمكن بطاريات خاصة في قرى صغيرة منتشرة في كل انحاء العالم من تخزين الطاقة الشمسية، وحيث ستكون الأشجار مهندسة جينياً لتوليد وقود سائل، وحيث ترتبط أفقر القرى وأبعدها في مصر والمكسيك بالانترنت. كل هذا سيقضي على الفقر في الأرياف ويجذب سكان المدن اليها مجدداً، فتحل معضلة تعفن المدن الاجتماعي وتلوثها البيئي. تخيلّوا أيضاً والكلام ما زال لدايسون ماذا سيحدث بعد 50 سنة، حين يتم تطوير علم جديد يدعى "علم الاعصاب التموجي"، يستطيع ترجمة المعلومات في الاجهزة العصبية الى اشارات كهرومغناطيسية، فماذا سيحدث؟ هذا سيفتح الأبواب على مصراعيها أمام نمط جديد كلياً من الاتصالات تدعى "راديو تيليباثي" يستطيع بموجبه مواطن في الرياض الأتصال بصديقه في نيويورك من دون ان ينبس ببنت شفة ومن دون أن يستخدم جهاز الهاتف. كل شيء سيتم مباشرة من الدماغ الى الدماغ، من خلال رقاقة كومبيوتر متناهية الصغر تلصق في مكان ما من الجسم. وهذا بالطبع سيّغير ليس فقط حياة الانسان بل ربما طبيعته أيضاً. قفزات التكنولوجيا هل هذه الورود التفاؤلية في محلها؟ حسناً، التكنولوجيا تقفز بالفعل قفزات نوعية هائلة هذه الأيام الى الامام، وفي كل المجالات تقريباً. فعلى صعيد "الفكر والمادة" أو الراديو تيليباثي، لم تعد القدرة على جعل الافكار البشرية قادرة على تحريك الاشياء المادية أو الميكانيكية، مجرد حلم مستحيل التحقق الا في عالم الاساطير، او المعجزات، أو الخيال العلمي. فقد تمّكن فريق من العلماء الاميركيين بقيادة ميغيل نيقوليليس، من جعل القرود قادرة على تحريك الاشياء بأفكارها، من خلال زرع رقائق معدنية أرق من الشعرة في أدمغتها ووصلها بجهاز كومبيوتر وبذراع ميكانيكي. في البداية تم تدريب القرود على تحريك الذراع بواسطة مقبض يدوي، فيما كان الكومبيوتر يسّجل أوامر الدماغ المترافقة مع تحريك الذراع.لكن بعد حين، عمد العلماء الى فصل المقبض اليدوي، وحينها وقعت المفاجأة: القرود واصلت تحريك الذراع الميكانيكي ولكن بواسطة دماغها وحده هذه المرة، فيما الكومبيوتر لا يلعب سوى دور المترجم للأفكار.وهذه كانت المرة الاولى التي يتم فيها التأكيد على ان الاشارات الكهربائية الرقيقة المنطلقة من الدماغ، تستطيع تحريك اجهزة بسيطة في العالم المادي والتأثير عليها. وتقول كارن موكسون، بروفسورة هندسة الطب البيولوجي في جامعة دركسيل في فيلادلفيا: "قدرة بعض البشر على التواصل مع شاشة فيديو تبدو أمراً مهماً. لكنها لا تقارن بما فعلناه نحن حين تمكّنا من جعل الافكار تؤثر على العالم المادي. ان هذا انجاز علمي كبير". وهي على حق بالطبع، خصوصاً عندما نعلم ما يمكن ان تفعله هذه التكنولوجيا الجديدة في مجال الطب العصبي. فبعد حين، سيكون في امكان الأشخاص المشلولين بسبب اصابات بالغة في الجهاز العصبي، تشغيل آلات أو أدوات بواسطة أفكارهم، كما يفعل الناس العاديون بأيديهم. لا بل يمكن لهذه التكنولوجيا أيضا أن تمكّن المشلولين من تحريك ايديهم أو أرجلهم مجدداً، عبر بث توجيهات الدماغ ليس الى الآلات بل الى العضلات مباشرة. ويتوقع ألا يمر وقت طويل قبل أن يتمكن العلماء من تطوير عملية زرع الرقاقات في الدماغ، بحيث يمكن بث الاوامر العقلية الى الالات بشكل لاسلكي. جنباً الى جنب مع هذه "الثورة العصبية الالكترونية"، كانت التكنولوجيا تتقدم بخطى حثيثة نحو تحقيق الحلم الأزلي للأنسان باكتشاف "اكسير الشباب" وكسر عائق الزمان - المكان أمام الجنس البشري. وهذا تم عبر الأنجازات الآتية: قيام حبة "الفياغرا" الزرقاء بتحطيم حواجز العمر البيولوجية، فقلبت بذلك المسن الى شاب، ووعدت بحل معضلة العجز الجنسي التي شكلت على مدار التاريخ هاجساً بشرياً ثابتاً. وبالطبع الأمر لن يقتصر على الأحلام، بل سيؤدي أيضاً الى سلسلة انقلابات اقتصادية - سياسية حيث الفياغرا ستكون في حد ذاتها اقتصادا عملاقا يقدّر بعشرات مليارات الدولارات ! ونفسية وديموغرافية. وعلى صعيد الزمان - المكان، جاء وعد العلماء بأنهم سيتمكنون قريبا من اختراع "الكومبيوتر الكمّي"، الذي قد يجعل قدرات "الجن" في الأنتقال ب"رمشة عين" من مكان الى آخر، مجرد قدرات تكنولوجية "متأخرة". اذ أن "كومبيوتر الكم"، الذي يحاول الأستفادة من نظريات فيزياء الكم الأغرب من الخيال حيث الشيء يمكن أن يتواجد في مكانين في آن، سيكون قادرا في غضون 30 ثانية، على حل مشاكل قد يحتاج الكومبيوتر الكلاسيكي المتطور الى 10 بلايين سنة لحلها! وعلى رغم أننا قد لا نرى هذا الكومبيوتر قريبا، الا أن العلماء أثبتوا دوما بأنهم حين يعدون يفون بوعودهم. وبالتالي ليس علينا سوى ترّقب ولادة ما قد يكون أضخم اختراق بشري لأسرار الكون والوجود. ومرة أخرى، المضاعفات الأقتصادية - السياسية لمثل هذا الأختراق مذهلة. في العام الماضي سجلت "التجارة الالكترونية" قفزات كبرى، دفعت العديد من الشركات العملاقة الى تغيير استراتيجياتها الانتاجية والتسويقية بما يتوافق مع ثورة الأنترنت. بالطبع، الاختراقات التكنولوجية لم تتوقف عند هذه الحدود، على رغم كونها تبدو بلا حدود. ففي الفضاء، جاء اكتشاف الماء على القمر و في بعض الكواكب الاخرى، اضافة الى تصوير ما يمكن ان يكون غيوما كونية هائلة من الماء في الفضاء، ليرجّح كفة النظريات التي تقول ان الله تعالى يريد للانسان والحياة ان يتمددا الى كل الكون. وعلى الارض، كان اعلان العلماء بأنهم نجحوا في انماء خلايا بشرية أساسية في المختبر من أنسجة جنينية، خطوة عملاقة أخرى نحو علاج أمراض مستعصية مثل السكري والشلل والايدز وامراض القلب وغيرها. ومثل هذا الفتح العلمي، قد يجعل صناعات "البيوتكنولوجيا" درة التاج الاقتصادي والاجتماعي للقرن الحادي والعشرين. وماذا أيضاً؟ ثمة الكثير الكثير في الجعبة العلمية - التكنولوجية. اذ ان التكنولوجيا لا تتقدم سنة فسنة، بل يوما بيوم وأحيانا ساعة بساعة. وفي كل تقدم تخطوه التكنولوجيا نحو التطويرات الاقتصادية الجديدة، تتراجع مواقع القوة الكلاسيكية أي السياسة بصفتها المدخل الاساسي للثروات والسلطة وبالطبع الصراعات والحروب كما كانت على مدار التاريخ.فالمعرفة تصبح شيئا فشيئا هي القوة. والتكنولوجيا تصبح أكثر فأكثر هي المحرك الأساسي للتاريخ البشري. لكن، وبعد قول كل شيء عن "معجزات" التكنولوجيا الحالية والمقبلة، تبرز أمامنا سريعاً المخاطر المترافقة مع هذه الانجازات على الصعد الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، الوجودية - الاخلاقية. على الصعيد الاول الاقتصادي - الاجتماعي، تتساوق وعود صناعات البيو-تكنولوجيا والهندسة الجينية بالقضاء على الفقر، مع الوعيد برمي مئات ملايين الفلاحين في شتى انحاء العالم الى أشداق الفقر والبطالة. فهذا العلم، الذي بات يعّرف بأنه "أي تقنية تستخدم المخلوقات الحية لتعديل المنتوجات النباتية والحيوانية"، بدأ ينتج داخل المختبرات العديد من السلع الزراعية التي اعتادت البشرية اشتقاقها من الأرض طيلة خمسة آلاف عام. على سبيل المثال، تحل الآن مادة "الأيسوكلوكوز" الكيماوية مكان قصب السكر الذي يعتاش من زراعته ملايين الفلاحين في الدول النامية. كما بات بامكان علماء الكيمياء انتاج الفانيليا في المختبرات، الامر الذي سيحيل جميع سكان مدغشقر الى التقاعد المبكر. تصدير زيت جوز الهند، الذي يوفّر معيشة ربع سكان الفيليبين، مهدد حالياً ببديل آخر هو حبوب الصويا التي تم تطويرها بالهندسة الجينية. اما الدول النامية التي تعتمد على تصدير سلعة واحدة مث الكاكاو أو السكر، فعليها ان تبدأ من الآن بتغيير "مهنتها"، لأن المستهلكين الاجانب سيحصلون على هذه السلعة قريبا وبأسعار أرخص بكثير من المختبرات المجاورة لاماكن اقامتهم. وكذا الأمر بالنسبة الى منتوجات زراعية كالمطاط. فعما قريب سيفقد 16 مليون مزارع في ماليزيا واندونيسيا عملهم، لأن علماء البيو- تكنولوجيا أوشكوا على تطوير مطاط اصطناعي أفضل جودة من الطبيعي. لا بل يجري الحديث الآن عن قرب التوصل الى انتاج اللحوم والأسماك في المختبرات، بكل ما سيعنيه ذلك من ثورة هائلة في نمط عيش البشر. ضحايا الثورة التكنولوجية بيد ان الفلاحين "الكلاسيكيين" لن يكونوا الأضاحي الوحيدة على مذبح الثورة التكنولوجية الجديدة. هناك أيضاً العمال "الكلاسيكيون" من ذوي الياقات الزرقاء الذين تتهدد وظائفهم الان ليس فقط على يد عمال الياقات البيضاء النشطين في مجالي الكومبيوتر والاتصالات، بل أيضا على يد عمال غير بشريين: الروبوتس، أو البشر الآليون. شيئاً فشيئاً، بدأ "الروبوتس" بالحلول مكان العمال الكلاسيكيين في العديد من مجالات الانتاج الصناعي، وسط تصفيق حار من الدول الصناعية الغنية والشركات الكبرى. ولا عجب. فالبشر الآليون لا يحتاجون الى أجهزة تكييف هواء، ويستطيعون العمل في الظلام فيوفرون الطاقة. لا يتعبون ولا يشتكون ولا يطالبون برفع رواتبهم. والى ذلك، فهم يساهمون في ادخال ليونة اكبر على الانتاج، لأنهم مبرمجون على القيام بمهام مختلفة. وبالطبع، ليس الأمر في حاجة الى كبير خيال لمعرفة ماذا سيحل بمئات ملايين العمال في العالم، حين تستكمل ثورة "الروبطة" اندفاعتها الراهنة. فمصير العمال هنا مع هذا النوع من التكنولوجيا، لن يكون أفضل حالاً من مصير الفلاحين مع البيو-تكنولوجيا. هذه التمزقّات الاجتماعية المتوقعة بدأت تثير، كما هو متوقع، ممانعات قوية نجحت، خصوصاً في اوروبا، في عكس تفاؤليات المستقبل التكنولوجي الى تشاؤميات عبر طرح السؤال: هل الثورة في مجال البيوتكنولوجيا الزراعية والهندسة الجينية مفيدة للأنسان والبيئة أم تشكل خطراً عليهما؟ أميركا، الحاضن الأول للشركات البيوتكنولوجية، سارعت الى الاجابة: لا مخاطر علمية واضحة من هذه التكنولوجيا. والدليل أنه على رغم مرور عقد كامل على انزال الاطعمة المعّدلة جينيا الى الاسواق البشرية والنباتية والحيوانية، لم تظهر بعد أية مضاعفات جانبية ذات شأن. لكن أوروبا، المقاوم الأول للهندسة الجينية، سارعت بدورها الى الرد على هذا الرد: لا أدلة بعد على ان هذه الاطعمة لا تشكل خطرا على الانسان والبيئة. وبالتالي، لا مناص من التريث قبل السماح باستهلاكها. القوى التي تقف في اميركا الى جانب تكنولوجيا الطعام معروفة. انها الشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات الممّولة للاستثمارات الضخمة في هذا الحقل، والتي تشن حربا حقيقية على كل من يقف في طريقها. اما القوى التي تناهضها في أوروبا، فهي مزيج من الحركات البيئية والسياسية والعلمية، التي تتبنى شعار أحزاب الخضر المسمى "المبدأ الاحترازي"، الداعي الى تجنّب التكنولوجيات الجديدة، طالما أنها لا تزال تفرض مخاطر نظرية. وفي الفترة الأخيرة حوّل الطرفان القارة الافريقية الي تضم ربع السكان الجائعين في العالم اكثر من 800 مليون نسمة الى مسرح لصراعاتهما. أمل القارة السمراء فالاميركيون يقولون أن البيوتكنولوجيا هي الان الامل الوحيد أمام القارة السمراء للقضاء على الجوع والمجاعة. لا بل ذهب الرئيس الاميركي جورج بوش، الذي بالطبع يدعم بقوة الشركات، الى أبعد من ذلك بكثير حين ألمح الى ان الاوروبيين يعرقلون المساعي لمواجهة الجوع. قال: "من أجل قارة تتهددها المجاعة، أحث الحكومات الاوروبية على وقف معارضتها للبيوتكنولوجيا. يجب علينا ان نشجّع انتشار البيوتكنولوجيا الآمنة والفعاّلة لكسب المعركة ضد الجوع العالمي". بيد ان الاوروبيين يردّون باتهام الاميركيين بالرياء والديماغوجية. وهم يتهمون الشركات الاميركية بالمبالغة عن قصد في تضخيم دور التكنولوجيا في حل مشاكل افريقيا. وتشّدد هنا مسؤولة البيئة في الاتحاد الاوروبي مارغوت وولستروم على القول: "انهم يحاولون الكذب على الناس لاجبارهم على قبول هذه التكنولوجيا. لكن، وعلى رغم كل الحملات البلاغية والاعلامية التي تشنها الشركات الاميركية حول مساعدة افريقيا، الا ان مبلغا زهيدا جدا من اموال البيوتكنولوجيا ذهب الى الابحاث المتعلقة بالمحاصيل الرئيسة في هذه القارة، مثل الموز، الذي يعتاش منه ملايين الافارقة". من سينتصر في هذا السجال؟ اذا كانت موازين القوى الراهنة هي المقياس، فالفوز سيكون من نصيب الشركات العملاقة. وهذا لا يجب ألا يكون مفاجئاً. فالعصر هو عصر النيو- ليبرالية التي لا تعترف بأية حدود صحية ولا تقف أمام أية قيود أخلاقية - اجتماعية. هذا على صعيد تأثيرات ثورة التكنولوجيا على الجبهة الاقتصادية - الاجتماعية. فماذا عن الجبهة السياسية؟ هنا المضاعفات السلبية تبدو أكثر سطوعاً بما لا يقاس. فالسياسة لا تتأثر فقط، كما المزارعين والصناعيين، بهذه الانقلابات التكنولوجية، بل هي ربما "تحتضر" بسببها. كتب المفكر الفرنسي مارسو فيلدن، في مؤلفه الجديد "موت الديموقراطية"، أن السياسة "خسرت السباق مع التكنولوجيا والاقتصاد ولم يعد أمامها الآن سوى محاولة التأقلم مع السيد التكنولوجي الجديد للعالم، عبر محاولة تطوير ما يسميه "التكنو - سياسة". وهذا رأي يوافق عليه المنظّر الفرنسي جاك أتالي، المستشار الخاص للرئيس الراحل فرنسوا ميتران، الذي يعتبر أن الخطر الرئيسي في عالم القرن الحادي والعشرين، "سينبثق من التناقض بين التكنولوجيا واقتصاد السوق، وبين السياسة والديموقراطية". والحال أنه يبدو واضحا الآن في أميركا والعالم، أن التكنولوجيا والعولمة أكثر دينامية بما لا يقاس من الديموقراطية، لآن ثمة قوى هائلة تدعمهما: فالبحث، على سبيل المثال، عن الاموال لتمويل الحملات الانتخابية، وانتشار الفساد، وتوسّع الاقتصاد الأجرامي أي اقتصاد المافيات بشكل انفجاري بعد العام 1989، والصعود الهائل في دور جماعات الضغط الاثنية، كلها مؤشرات على اضمحلال السياسة والأخلاقيات الديموقراطية. ومضاعفات هذا التطور ستكون عميقة: فالأقليات المالية القوية التي تسعى للافادة الكاملة من اقتصاد السوق، تريد السيطرة التامة على الموارد والسلطات، وهي تعتبر القرارات الديموقراطية الجماعية للاغلبيات الفقيرة "أعباء لا تطاق" على حرية حركتها. ومع خسارة البرلمانات، وكذا السلطة القضائية، لسلطتها على المصارف والشركات الكبرى، ستصبح نخب السوق - التكنولوجيا، أقوى من النخب الديموقراطية، وستبرز طبقة جديدة من "البدو التكنولوجيين"، وسيسقط الاعلام في يد الشركات متعددة الجنسيات التي ستوجّه أفكار الناس وأذواقهم نحو قيم معادية للسياسة، وللمبادئ الديموقراطية المشتقة من هذه السياسة. وهكذا، ستذوي السياسة وتندثر، وستحل مكانها ميكانيزمات السوق والفساد، وستهيمن ديكتاتورية السوق، من دون ان توازنها مؤسسات سياسية قوية. نأتي الأن الى النقطة الاخيرة: تأثيرات التكنولوجيا على المسألة الوجودية البشرية. السؤال هنا لا يقل اثارة واخافة عن الصعيدين الاقتصادي - الاجتماعي والسياسي. اذ ما هو الميزان، ليس شيئاً آخر سوى احتمال تغيير الطبيعة البشرية نفسها عن طريقي الهندسة الجينية وتقنيات الكومبيوتر. انه كابوس فرانكشتاين وقد بدأ يتحقق. قد يعتقد بعضهم هنا أن هذا الخطر افتراضي أو هو، في أسوأ الاحوال، في رحم مستقبل بعيد. لكن الامر ليس كذلك. فثمة العديد من الاصوات التي بدأت تلعلع في الولاياتالمتحدة وغيرها، مطالبة بالتدخل المباشر ل"تسريع" تطور الانسان الى "ما بعد الانسان"، او حتى الى مخلوق جديد لا علاقة له البتة بالبشر. هذه الاصوات تنتظم الآن في حركة. وهذه الحركة أسمها "ترانس هيومان" transhuman أي "العابر للانسان" أو ما "ما بعد الانسان". وهي تستقطب مروحة من العلماء في شتى المجالات وشخصيات بارزة سياسية واقتصادية وقطاعات من الشباب المتحمسين ل"تغيير الوعي البشري". وهي وضعت برامج مرحلية تنفيذية لتحقيق أهدافها، مركزة تركيزاً شديداً على العقل، والتخطيط العلمي، والخطوات البراغماتية المدروسة. يلخص أندرز سانديبرغ، أحد أبرز مفكري الحركة أفكارها الرئيسة بالآتي: المصائر البيولوجية طيلة أزمان سحيقة، كان الانتخاب الطبيعي البطيء هو المسؤول عن تطور أجناس المخلوقات. لكن آن الاوان كي يمسك الانسان بزمام التطور بنفسه، وأن يتحرر من التغير البيولوجي التدريجي عبر ما تسميه الحركة "التطور الذاتي الاوتوماتيكي". كيف؟ من خلال استخدام التكنولوجيا نفسها التي مكنتنا من التغلب على الامراض والاوبئة، وزيادة معدلات الحياة، والتخلص من الالام النفسية. هذه التكنولوجيا تتطور الان بسرعة، وبدأت تمكننا من تغيير بيئتنا وزيادة وعينا بالقدرة على تغيير مصائرنا البيولوجية. نجحنا في السابق في تحرير أنفسنا من بعض القيود الاساسية المفروضة على كل الاجناس الحيوانية على الارض. لكننا بدأنا ندرك حاليا كيف يمكننا أن تحرير انفسنا حتى من بعض ا"لقيود البشرية". سيكون في وسعنا قريباً تطوير أشكال جديدة من البشرية، عبر الهندسة الجينية، وعبر علم البيونيكس الذي يزيل الفوراق بين الانسان والالة، وعبر مضاعفة الذكاء ودمج الانسان والكومبيوتر وتطوير العقاقير التي تؤثر على الذاكرة والتركيز. كل هذا سيعني بداية النهاية للجنس البشري، تماما كما انتهت من قبله اجناس اخرى عدة مثل "الانسان المنتصب" وغيره، وولادة عرق جديد "ما بعد انساني". هذا المولود الجديد سينقسم الى فروع: بعض "ما بعد البشر" سيطورون انفسهم ليكونوا مثل آلهة الاغريق الاسطوريين، فيعيشون طويلا ويكونون كاملين جسديا وعقليا. البعض الاخر سيطوّر نفسه بشكل اكثر راديكالية بكثير، وربما يتحّول الى أشكال حياة رقمية ويسبح عبر شبكات المعلومات، أو يكون عقلا متفوقاً يتجول بين كواكب المجموعة الشمسية قد يقال هنا ان هذه "الرؤى" ليست جديدة. وهذا صحيح. فمنذ أقدم الازمنة والانسان يحلم بتجاوز قدراته البيولوجية. وهكذا ولدت أساطير البشر- الالهة أو انصاف الالهة، وتلتها في العصور الحديثة أحلام "الانسان المتفوق" السوبرمان الذي أبدع في وصفه الفيلسوفان نيتشه وبرنارد شو، كل من موقعه. كل هذه الاساطير والاحلام لم تكن اكثر من ذلك: أي مجرد أساطير وأحلام. بيد ان الصورة الآن تغيرت تماماً: تغيير طبيعة البشر لم يعد احتمالا بل واقعاً. لم يعد فرضيات في عالم الغيب، بل تطبيقات في علم الواقع. النانوتكنولوجيا التكنولوجيا متناهية الصغر، تمكّن الان العلماء من ادخال عقول الكترونية بحجم رأس الدبوس الى جسم الانسان، حيث يمكنها اما ان تجري عمليات جراحية موضعية او تعمل على تغيير السلوكيات. ورقائق الكومبيوتر بدأت تندمج بالتدريج ب"رقائق" خلايا الدماغ البشري لتكون جزءا منه أو ليكون هو جزءا منها لا فرق. والهندسة الجينية تتوّج كل هذه الجهود بوعود قدرتها على ادخال تغييرات كاسحة على بنية الجسم البشري. وهذا يعني أن انصار "الترانس هيومان" لا يسبحون في بحيرة لا ماء فيها، كما كان الامر مع أصحاب الاساطير والاحلام حول الانسان المتفوق. انهم يرتكزون الى أساس وينطلقون من قاعدة تكنولوجية متقدمة باستمرار، ومتنامية باستمرار، ومذهلة باستمرار. وأخطر ما في هذه الحركة هي انها تعد بتغيير طبيعة البشر القائمة على الحقد والعنف والقلق، الى طبيعة اخرى تقترب من صورة الملائكة المسالمين والعقلانيين والقادرين على فتح كل مغاليق المعرفة. وهذا ما يستدرج الى صفوفهم العديد من الناقمين على التاريج البشري المدمّر للذات والبيئة. لكن هناك العديدين أيضاً الذين يدركون المخاطر الكبرى لدمج البشر بالتكولوجيا. ويسند هؤلاء منطقهم الى التالي: "الترانس هيومانيون" يؤمنون ايماناً أعمى بقدرة التكنولوجيا على ابداع جنس بشري جديد، سواء عبر تعديل جينات الجنس الحالي، او من خلال ادماج المادة الميتة الكومبيوترات بالمادة الحية أجسامنا. لكن من يضمن بأن يكون هذا الجنس الجديد اكثر حكمة من الجنس القديم؟ على الاقل، الجنس الحالي، على عنفه الشديد وانانيته المفرطة، يمر بمراحل استفاقة ضمير تجعله يتعاطف مع الضعيف، ويحن على الفقير، فيما الجنس المقبل سيكون علميا بالكامل لا شفقة لديه ولا رحمة. المشروع الجديد سيؤدي الى انقسامات هائلة بين البشر، ستبدو معها حروب كارل ماركس الطبقية في التاريخ، نزهة بريئة في حديقة جميلة. فالبشر المتفوقون الجدد في المجتمعات الغنية، سيشعرون بأن البشر العاديين تحتهم متخلفون ولا يستأهلون الحياة ولا بالطبع الحرية. وهذا ما قد يدفعهم الى احياء نظريات الابادة الجماعية الهتلرية. وبالطبع ليست ثمة ضرورة للتساؤل عن الموقف المحتمل لهؤلاء من شعوب العالم الثالث التي تشكل ثلثي البشرية، والتي لا تمتلك أصلا المداخل الى التكنولوجيا المطورة للاجناس البشرية! ما يضمن أن يكون البشر الجدد سعداء حقا؟ صحيح ان وافر الصحة، وطول العمر، والذكاء المضاعف، ستخفف من الآلام، لكن هذا لا يكفي لتحقيق السعادة. وتجربة السويد في هذا المجال تبدو فاقعة: كلما تحسنت ظروف الناس الصحية والاقتصادية والسياسية، كلما ازدادوا رغبة في الانتحار. هذه المعطيات المتناقضة حول وعد التكنولوجيا ووعيدها يجعلها، اذاً، سيفاً ذو حدين. فهي يمكن أن تكون نعمة كبرى كما يمكن أن تنقلب الى طامة كبرى. انها الحلم والكابوس وقد تعايشا تحت سقف واحد. لمن ستكون اليد العليا في هذه الثنائية الملحمية؟ لندع فرانسيس فوكوياما يجيب: "لا أحد يعرف أي" احتمالات تكنولوجية ستنبثق من التعديل الذاتي للجنس البشري. لكن الحركة البيئية على حق حين تعلمنا ضرورة التواضع واحترام وحدة الطبيعة. نحن في حاجة الان الى تواضع مماثل في ما يتعلق بالطبيعة البشرية. وما لم نفعل، سنكون قد أفسحنا في المجال امام ما بعد الانسانيين لتشويه البشرية ومسخها بجرافاتهم الجينية". لكن، هل نحن البشر قادرون حقاً على التواضع