قد لا يكون الحديث عن التقدم العلمي عالمياً في القطاع الزراعي بالأمر الجديد، بالنظر إلى فيض الدراسات والبحوث التي تتدفق عبر وسائل الاعلام يومياً، وتسير إلى جانب الانباء عن التطبيقات الفعلية للإكتشافات العلمية في هذا القطاع. فمثلاً، ساد تعبير"الثورة الخضراء"خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لوصف التغيير الحاصل في طرق الزراعة وأساليبها بأثر من التقدم العلمي. وفي أواخر ذلك القرن، تقدم العلم بالزراعة صوب افق جديد هو الجينات وابحاثها. وراج الحديث عن"الثورة الخضراء الثانية"التي قد يُحدثها التقدم المطرد في علوم الجينات، خصوصاً بعد توصّل العلماء الى تفكيك شيفرة التركيب الوراثي الجينوم Genome لمجموعة من النباتات الأساسية زراعياً، مثل الرز والقمح والموز، والتي تُشكل مصادر رئيسية لغذاء البشر. كما أمل بعض العلماء بالتدخّل في التركيب الوراثي لبعض الأنواع الزراعية، عبر تقنيات الهندسة الوراثية بيوتكنولوجيا Biotechnology، ليُصار الى "تحميل"الخضر والفواكه بأنواع من اللقاحات والفيتامينات والبروتينات وغيرها. ويُعتبر ذلك"الوجه المُضيء"من الأطعمة المُعدّلة جينياً، التي أثارت نقاشات جمّة عن الأوجه السلبية المحتملة لها. لقد انفتح درب جديد أمام الزراعة بفضل التقدم الجيني. وفي المقابل، بدا الأمر طريفاً، لأن التقدم في علوم الجينات ابتدأ بفضل الزراعة ونبتاتها أيضاً، وخصوصاً البحوث الشهيرة التي أجرها القس غريغور ماندل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي تُعتبر نقطة الانطلاق الفعلية لذلك العلم! أساليب التعديل الوراثي للمزروعات راهناً، يشمل التدخّل العلمي في هذا المجال طُرق الزراعة وسبل استخدام الأدوية والأسمدة، ووسائل تحديث الأنواع النباتية، إضافة إلى الناحية الطبية للمزروعات، إذا صح التعبير، أي ما يتعلق بالتركيب البيولوجي للنباتات والمزروعات كافة. ولذا، يُنظر الى الهندسة الوراثية، أي تقنيات التعديل الجيني للنباتات، باعتبارها عملية مصطنعة تعتمد تعديل الخلايا الحيوانية للنباتات وربطها بخلايا أخرى من النوع النباتي نفسه أو من أنواع مغايرة، بغية نقل الصفات الأحسن وزيادة الإنتاجية الزراعية والقيمة الغذائية للمزروعات. وتعتبر البيوتكنولوجيا من أبرز ما دخل على هذا القطاع في الوقت الحاضر، وتعمل على مستوى ال"دي أن آي"DNA أي الحامض النووي الريبوزي الناقص الأوكسيجين. وتُركّز تقنياتها على عزل الجينات وإعادة توليفها وصبّها في اشكال جديدة، ثم نقلها إلى خلايا ملائمة. وتُنتج النباتات المُعدّلة وراثياً إما باستخدام تكنولوجيا الخلايا والأنسجة النباتية، أما بتكنولوجيا التعديل الوراثي المباشر، عبر التلاعب بالجينات، أو باستخدامهما معاً. وتأتي الزراعة في مقدم الأولويات بالنسبة الى معظم البلدان النامية لأن هذه الأخيرة تعيش حمى الحاجة المتصاعدة لزيادة انتاجها من الغذاء، لكي تتمكن من اطعام سكانها الذين يزيد عددهم بصورة متسارعة. وكذلك تفيد الزراعة المتطورة تلك البلدان أيضاً في الحصول على فائض نقدي من تصدير محاصيلها، نظراً الى غلبة الطابع الزراعي على اقتصادياتها. وبذا، تبشّر التطورات العلمية في التكنولوجيا الهندسة الوراثية، بإدخال تحسينات ثورية على القطاع الزراعي لا عهد له بها قبلاً. ويراهن البعض على أن تصبح البيوتكنولوجيا الطريق الذي يتيح للفلاحين التغلّب على كثير من الصعوبات التقليدية التي طالما أعاقت نشاطهم الزراعي. وتتضمن البيوتكنولوجيا مجموعة من الوسائل والتقنيات المستمدة من البحوث الجينية، وخصوصاً مشاريع رسم الخرائط الوراثية الكاملة الجينوم للأنواع الحيّة كافة، بما في ذلك الكائنات المجهرية الميكروبات التي تتدخل في مسار الحياة عند الانسان والحيوان والنبات. وبذا، يُبشّر البعض ممن يتفاءلون بآفاق التطور في الأطعمة المُعدّلة، بقطاع زراعي أكثر انتاجية مما سبق. وفي المقلب الآخر من الصورة عينها، تُطرح مجموعة تساؤلات تتطلب أجوبة دقيقة من نوع ما إذا كانت هذه الزيادة في الإنتاجية ستعود بالنفع على أولئك الذين لا يملكون القدرات المالية لاقتناء المحاصيل الوفيرة. إن التقدم العلمي سريع للغاية، لكن هل سيكون بمقدور البلدان النامية تفادي وقوعها في شرك التبعية المطلقة للتكنولوجيات المستوردة من العالم الغربي، وبأسعار باهظة؟ هل يتحوّل العلم، إذاً، باباً جديداً للتبعية الاقتصادية والحضارية، ولتجديد علاقة السيد والتابع، المرتسمة راهناً في الاقتصاد العالمي المعولم؟ وفي المقابل، هل يمكن ان تتوصل دول العالم الثالث الى تبني تكنولوجية حيوية تتلاءم مع حاجاتها وبأسعار مقبولة؟ قد يتمثّل العائق أمام تطبيق البيوتكنولوجيا في التعقيد الكبير لتلك التقنية على مستويات متنوعة تتراوح ما بين الحاجة إلى رساميل ضخمة يد عاملة كثيرة العدد، وما بين الحاجة إلى التكنولوجيا المتطورة للغاية ومختبراً صغيراً لاستنبات الأنسجة الحية. إلا أنه يمكن القول أن القطاع الزراعي تأتّت له استفادة كبرى من التقدم العلمي خلال العقود الأخيرة، خصوصاً من تحسين نوعية المواد الكيماوية المستخدمة زراعياً، ومن تقنيات تكاثر النبات بالتلقيح الإصطناعي المتطور، والذي أنتج محاصيل زراعية وفيرة وأكثر ملاءمة للنمو في ظروف مناخية معينة. وأصبح من الممكن استحداث أنواع جديدة من النباتات ذات خصائص مُحَسَنة بسرعة أكبر ودقة أفضل من السابق، إضافة إلى القدرة على تهجين بعض النباتات غير المتجانسة وبالتالي الحصول على أصناف متنوعة. الهندسة الوراثية والاستثمار التجاري يوضح د. وجدي عبد الفتاح سواحل، وهو اختصاصي في الهندسة الوراثية، انه:"مع ولادة أول نبات مُهندَس وراثياً عام 1993، أصبح بالإمكان تفصيل نباتات تستطيع انجاز مهمات متباينة لم تكن تخطر على البال. وتحولت جهود الإنسان في تحسين النباتات من مجرد متابعتها وهي تتكاثر وتتحسن أجيالها، إلى التدخل في شيفرتها الوراثية باستخدام تقنية القطع والوصل والترقيع في بنية الحمض الوراثي"دي أن آي"ما يؤدي الى إعادة"تفصيل"الجينات المُتضمنة في ذلك الحمض. في نهاية المطاف، يستطيع العلماء راهناً استيلاد بعض النباتات المُعدّلة"بحسب الطلب"لتقوم بمهمات صناعية محددة ما يبشّر بثورة زراعية تتيح وفرة من الغذاء من طريق زراعة أصناف مُحسّنة وراثياً". وتولي المؤسسات التجارية اهتماماً كبيراً ومباشراً للنواحي العملية من العائد المادي لابتكارات الهندسة الوراثية. والمعلوم إن التحوير الوراثي للنباتات يتضمن عمليات باهظة التكلفة. إذ تصل تكلفة هندسة جين منفرد، بهدف تحسين صفة معينة داخل النباتات، إلى نحو مليون دولار. والنموذج النمطي للمصاريف الكلية التي تخصصها الشركة لإنتاج نبات معدّل وراثياً يتضمن 20 في المئة من الموازنة الإجمالية للبحوث وپ80في المئة ينفق على تكاليف زراعته وإعادة انتاجه. ويوضح سواحل أن:"الهندسة الوراثية تحوّلت من مجال بحثي إلى تكنولوجيا فعّالة تدر بلايين الدولارات سنوياً، يمسك بدفتها رجال أعمال عتاة، يديرون تطبيقاتهم وسط عالم السياسة والسوق والاستثمار والإعلام". ويضيف محذراً:"قد تتحول الثورة الجينية الغذائية إلى الجيوب بدلاً من إطعام العالم، وأن الرعب الغذائي، الذي قد يصبح السمة المُهيمنة على القرن 21، سيكون أكثر خطراً من الرعب النووي". أصبح من المؤكد ان الهندسة النباتية تعتبر من أكثر الصناعات المربحة في القرن الراهن، ويُقَدَّر ما يباع من البذور المُهَندسة وراثياً بما يوازي 6 بلايين دولار. وكذلك يتوقع أن تصل مبيعات المنتجات المعدلة وراثياً إلى 100 بليون دولار، في مستقبل قريب جداً. وتعتبر الولاياتالمتحدة الأميركية أكبر مُصَدّر للأغذية المُعالَجة وراثياً في العالم. ولا تزال أوروبا متخلفة عنها في الشق التجاري، إذ تظهر بعض الإحصاءات أن المبيعات الأوروبية لا تتجاوز 2،2 بليون دولار بينما تصل المبيعات الأميركية الى 7،7 بلايين. في مؤتمر مُتخصص عن الهندسة الوراثية واستخداماتها زراعياً، استضافته مدينة"قرطاجة"في كولومبيا عام 2000، عارضت بعض الدول الأوروبية استيراد المنتجات التي يجرى تعديلها باستخدام الجينات أو العناصر الوراثية للأنواع الاخرى، وذلك نظراً الى عدم توافر ما يكفي من معلومات عن تأثير التعديل الجيني للمزروعات في صحة الإنسان. من جهة أخرى، لم يرخص الاتحاد الاوروبي زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً في شكل تجاري، كما لم يسمح باستيراد الأغذية المصنعة منها، ما دفع بالولاياتالمتحدة إلى التهديد ببدء إجراءات نزاع ضد الإتحاد الأوروبي داخل منظمة التجارة العالمية لعدم استيرادها للأغذية المعدلة وراثياً. وبعد نزاع استمر سنوات، توصل الطرفان الأوروبي والأميركي الى ما يُشبه التسوية في هذا الصدد. أضرار التطوّر العلمي تُظهر بعض الإحصاءات نتائج خطرة ومقلقة بعض الشيء، بالنسبة الى الآثار الصحية للمنتجات المُعدّلة وراثياً. إذ ارتفعت نسبة الأمراض المتعلقة بالطعام المُعدّل من 2 إلى 10 أضعاف عام 2000 وهذا يعني أنها قد تتضاعف بمقدار 20 ضعفاً في العام الحالي. وشملت أعراض تلك الأمراض مروحّة من الشكايات الجسدية كالإسهال والتقيؤ وتسمم الدم والإجهاض ولبدم في البول ثم الموت أو حدوث اضطرابات مزمنة في القلب والجهاز العصبي أو الهضمي. وينبّه بعض الاختصاصيين الى أن بعض الدراسات أشارت إلى احتمال تواجد فيروسات وبكتيريا تطوّرت حديثاً جراء ظهور جينات لم تكن موجودة قبلاً، ما يعني ان تلك الكائنات تقدر على إحداث امراض من انواع لم يألفها البشر قبلاً. ولربما توالدت تلك الميكروبات في المحاصيل المعدلة وراثياً نتيجة اتحاد جينات متعددة المصادر في اللعبة الوراثية. وعلى خط مواز، تتأثر أيضاً الحياة البرية نتيجة التحكم الزائد في الحشرات والنباتات غير المرغوب فيها فتتسبب في وباء بيئي. ولم تظهر حتى الآن بحوث مؤكدة تثبت في شكل قاطع أن الهندسة الوراثية تغيّر من المكونات الغذائية للطعام فتجعله أغنى في مواده الغذائية. ويُضاف الى تلك الصورة المشاكل الاقتصادية الناتجة من مافيا الشركات المحتكرة والحقوق المحفوظة والتراخيص وغيرها. واستجابة لمخاوف عالمية، صدر"بروتوكول قرطاجة"للسلامة الحيوية في 29 كانون الثاني يناير 2000، متضمناً تشريعات وقوانين تنظم طريقة استخدام هذه التقنية الزراعية. كما لاحظ وجوب اتخاذ إجراءات مناسبة لإبلاغ البلدان التي قد تتأثر سلبياً. ولم تنضم كثير من البلدان العربية، ومنها لبنان، إلى هذا البروتوكول حتى الآن.