الإحصاء: ارتفاع مساحة المحميات البرية والبحرية في المملكة لعام 2023    الشكر للقيادة للموافقة على تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد اتفاقية تاريخية لمكافحة الجرائم الإلكترونية    استشهاد 18 فلسطينيا في قصف إسرائيلي على منزلين شمال وجنوب قطاع غزة    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مدينة نابلس وقرية النبي صالح    الإعلان عن أسماء الفائزين بالمراكز الأولى بجائزة الملك عبدالعزيز لسباقات الهجن فئة "جذع"    "الرأي" توقّع شراكة مجتمعية مع جمعية يُسر بمكة لدعم العمل التنموي    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    ندوة "التدريب المسرحي في العالم العربي : التحديات والفرص" في مهرجان الرياض للمسرح    جهود دعوية وإنسانية لتوعية الجاليات وتخفيف معاناة الشتاء    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    المملكة تدعم أمن واستقرار سورية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    رينارد: سنتجاوز الأيام الصعبة    اتركوا النقد وادعموا المنتخب    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    غارسيا: العصبية سبب خسارتنا    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    عبد العزيز بن سعود يكرّم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبد العزيز للصقور    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    طريقة عمل سنو مان كوكيز    الموافقة على نشر البيانات في الصحة    نقاط على طرق السماء    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    جامعة ريادة الأعمال.. وسوق العمل!    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحياة العجائبية الثانية لمحسن الايراني ضرير وبلا يدين ... واستاذ كومبيوتر
نشر في الحياة يوم 13 - 12 - 2004

على رغم انه كان ابناً لضابط في جيش شاه إيران، تحمّس محسن باكراً للثورة الاسلامية. وكان لا يزال صبياً حين راح يوزع المناشير وشرائط تحمل خطابات الإمام الخميني. وبعد ذلك حذا حذو مئات الألوف من الشبان الإيرانيين الذين تطوعوا لمحاربة الجيش العراقي في مطلع ثمانينات القرن العشرين. وهكذا ما ان ترك المدرسة الثانوية وهو في السادسة عشرة، حتى تطوع في "حراس الثورة". في البداية ألحق محسن بوحدة رادار، ثم بوحدة اتصالات هاتفية. وهو لا يزال يحتفظ من تلك المرحلة بصورة يظهر فيها مرتدياً اللباس العسكري وواقفاً أمام هاتف ميداني. بعد ذلك قرر محسن ان يتحول الى نازع ألغام، من دون ان تغيب عن باله خطورة تلك المهنة. فهو كان يعرف ان "الألغام شيء خطير جداً، وأنها أدت الى حوادث كثيرة، الى درجة ان كثيرين من رفاقي أصيبوا بعاهات دائمة وهم ينتزعونها. ولهذا السبب، بالتحديد، قررت ان أخوض المجازفة... خصوصاً لئلا يفقد رفاق لي حياتهم وهم ينكبون على نزعها، خصوصاً منهم من كان في وسعهم ان يكونوا قادة متمرسين".
في العام 1983 أرسل محسن الى جبهة كردستان الايرانية، في مناطق جبلية تبعد نحو 80 كلم عن سنندج، حين كان عليه ان ينقب عن الألغام المزروعة وسط الوحول، بواسطة عصا عادية لا أكثر. وهكذا حدث له ما كان ينبغي ان يحدث: انفجر لغم بين يديه في لحظة كان يحاول نزع فتيله، ففقد محسن ذراعيه وعينيه، وكان لا يزال في السادسة عشرة. وعولج طوال 16 سنة في ألمانيا. وهكذا بعد جراحات عدة، صار في امكانه ان يستخدم طرف يديه المقطوعتين مثل كماشة، كما صار قادراً بالتالي على وضع شريط كاسيت في جهاز موسيقي. لكن ذلك لم يمنعه من ان يصبح معوقاً حقيقياً. وخلال الفترة التالية عاش محسن مع أمه في منزل صغير وسط "حديقة الشهداء" حيث يقطن كبار مشوهي الحرب ومعوقيها، اضافة الى أسر المقاتلين الذين قضوا على الجبهة. وهو تمكن من ان ينهي دراسته الثانوية في مركز متخصص للعميان، حيث أمضى أسبوعين في كل شهر يتعلم لغة بريل التي صار يقرأها بواسطة شفتيه.
اللقاء الأول
لقائي الأول مع محسن جرى في العام 1986 قبل انتهاء الحرب بين إيران والعراق، كان لقاء متواتراً. ففي ذلك الوقت كان محسن عدوانياً، ما جعله يقول رأيه في الفرنسيين: "ان أفضل صديق لأعدائنا العراقيين هو فرنسا. فنحن لا يمكننا أبداً ان ننسى طائرات سوبر - ايتندار والرادارات. فإذا كنتم تريدون حقاً ان تكتبوا عني، اسألوا قبلها حكومتكم لماذا تبيع أسلحة الى العراق عدونا؟ هل تراها لا تفكر بأنها غداً، حين يخسر العراق الحرب، سيكون عليها ان تقدم كشف حساب للشعبين الإيراني والعراقي...". في ذلك الحين كان محسن شديد الايمان، حيث انه طبع لنا، بلغة بريل، هذه العبارات: "اللهم ساعدنا على محاربة المعتدين علينا. الله، يا الله احفظ لنا الخميني".
وفي ذلك الحين لم يكن محسن يعاني من أي مشكلات مادية. فالدولة تكفلت به، تدفع ايجار بيته، وتعطيه مرتباً شهرياً يعادل المرتب الشهري لموظف. ولكن، حين كان المرء يرى هذا المعوق الشاب وهو يمشي وسط حديقة المركز بخطوات مترددة، وأعلى ذراعيه متدليين على طرفي جسده، كان يشعر بألم شديد وهو يسأل عن المستقبل الذي ينتظر مشوّه الحرب هذا.
بعدما حوالي عشرين عاماً، التقينا محسن من جديد. وتبين لنا انه لا يزال يعيش في طهران. لكن حياته تبدلت، فهو الآن متزوج وله ولدان، واحد في الخامسة عشرة والثانية في الثانية عشرة. وهو يعمل حالياً في مكتب تابع لمؤسسة مشوهي الحرب حيث يشرف على تعميم تقنيات معلوماتية للمعوقين. انه اليوم يتحدث الانكليزية بطلاقة. ويبدو، خصوصاً، رزيناً.
الزواج
استقبلنا محسن في بيته الواقع في الضاحية الشمالية الشرقية لطهران. انه منزل صغير خصّته به مؤسسة ضحايا الحرب. ابنه علي يجلس الى جانبه على الديوان. وزوجته حوراء والابنة زهراء، ملتفتان كل منهما بتشادور لا يظهر سوى عينيهما، تجلسان غير بعيد منا. على الجدار ثمة صورة للامام الخميني، تتوسط صورتين لمراهقين: احداهما لمحسن قبل الحادثة، والثانية لشقيق حوراء الذي قتل في الحرب.
بداهة، كنا نريد ان نعرف كيف تمكن محسن، مشوه الحرب الكبير هذا، من الزواج من امرأته التي أنجبت له ولدين جميلين. وفسّر لنا محسن الأمر: "واحدة من صديقاتي كانت تعرف حوراء، التي ستصبح زوجتي. وهي حدثتها عني قائلة لها أنني أصبت بجروح خطيرة على الجبهة. وأنتم تعرفون اننا، عادة، في إيران، شديدو الفخر بكوننا قد خضنا القتال على الجبهات. وهناك دائماً فتيات كثيرات يرغبن في الاقتران من شاب جرح، على ذلك النحو، خلال خوضه القتال". فور ذلك جاءت حوراء لزيارة محسن في بيته 5 أو 6 مرات، عندما كان لا يزال يعيش مع أمه، ثم قررا الزواج.
لم نخفِ، أمام حوراء دهشتنا: ما الذي يجعل فتاة شابة ترغب في الزواج من واحد من مشوهي الحرب، فما كان من حوراء إلا أن راحت تشرح لنا دوافعها: "خلال الحرب، قاتل الرجال بضراوة للدفاع عن الوطن. وكانوا متطوعين من أجل ذلك. فالحرب كانت حرباً وطنية، ولكن كانت ثمة أيضاً عوامل أخرى، عوامل روحية: فالناس كانوا يقاتلون في سبيل الثورة. وأنا للأسف، لأنني فتاة، لم يكن بإمكاني ان أشارك في الحرب. فالنساء حين كن يذهبن الى جبهات القتال، كن يذهبن كممرضات، أما أنا فكنت صغيرة جداً. لذلك قررت ان أخدم وطني عبر خدمة شخص ضحى بنفسه في سبيل الوطن، متقاسمة معه القيم الانسانية والوطنية والروحية. رغبت في ان أخدم رجلاً فقد جزءاً من جسده وتشوه... كان ذلك واجبي".
إن هذا الخطاب، المغرق في بعده الديني، يبدو مفاجئاً لكثيرين. وحوراء تتحدث، بعض الشيء، على شاكلة أولئك الشابات المسيحيات اللواتي يدخلن سلك الرهبنة متحدات في شكل صوفي مع ايمانهن...
حوراء في الخامسة والثلاثين أو السادسة والثلاثين من عمرها، ما يعني انها تقارب محسن سناً. وهي ولدت في طهران وسط عائلة تقليدية، في حي تقليدي غير بعيد من الحرم الشيعي. ولها شقيقتان كما انها فقدت شقيقها، الابن الذكر الوحيد في الأسرة، اذ سقط على الجبهة في العام 1981 عند بداية الحرب. بعد المرحلة الثانوية، درست عامين لتصبح قابلة قانونية. ولكنها بعد ولادة علي، ابنها الأكبر، درست الدين لمدة أربع سنوات، في جامعة دينية في طهران.
وجهنا الى حوراء سؤالاً مباشراً: عندما كانت لا تزال صبية، هل كانت تحلم بالزواج من واحد من "حراس الثورة"، جرح على الجبهة، أم انها كانت تحلم بأن تتزوج عن حب؟
ترد: "زواج الحب موجود بدوره لدينا، وأنا أحترم الناس الذين يختارون هذا النوع من الزواج. إن الناس يمكنهم ان يحبوا. وهذا شيء عادي وطبيعي. ولكن، بعد عامين من ذلك، يمكن للمشاكل ان تبدأ في الظهور. أما أنا فكنت قد قررت ان أخدم أبي، وأن أجعل لحياتي هدفاً روحياً. وهكذا لست نادمة على شيء، بل انني راضية كلياً عما فعلت، اليوم. ان هذا الحب الروحي يختلف اختلافاً كبيراً عن الحب الذي يمكنكم ان تجدوه بين الناس. وهو بالنسبة اليّ يحمل فرحاً أكبر بكثير".
وحين لاحظنا أمام حوراء ان كلامها هذا يفسر تماماً دراستها العلوم الدينية، قالت على الفور: "أجل. لكنني تزوجت من محسن قبل ذلك..."!
ويروي لنا محسن كيف انهما احتفلا بزواجهما، عند أسرة حوراء. ويضيف، انه بعد حادثته لم يكن ليتخيل أبداً انه سيتمكن من الزواج يوماً. ويقول: "كل الناس يتزوجون وهذا أمر طبيعي. أما بالنسبة اليّ فالواقع يختلف، في شكل لا يمكنني تفسيره...".
وهنا تتدخل حوراء لتروي لنا كيف "اننا في ليلة الدخلة قررنا ان نصلي معاً. ولقد كان من المهم جداً بالنسبة الينا ان نبدأ حياتنا المشتركة بالصلاة".
علي وزهراء
يجلس علي بالقرب من أبيه، وهو فتى ممشوق القامة في الخامسة عشرة دائم الابتسامة، لا يتوقف عن النظر الى أبيه نظرات طافحة بالحب ازاء هذا الأب... البطل. ولا يخفي محسن ان ولادة طفليه كانت بالنسبة اليه حدثاً رائعاً: "لقد كان يوم ولادة علي يوماً استثنائياً، كما ان يوم مولد زهراء كان يوماً لا يمكن ان أنساه أبداً" يقول محسن ويضيف: "أنا أحبهما معاً. لكن هناك فارق بين صبي وصبية: فالصبية تتصرف في شكل خاص جداً، الى درجة ان الأب يشعر أحياناً ان ابنته تحبه أكثر، وتعتني به أكثر... لكنني أحب علي كثيراً جداً".
لعلي توجهات وأذواق تشبه ما لدى كل الصبيان من عمره: فهو يحب الكاراتيه وكرة القدم والسباحة. وهو يرغب في ان يصبح مهندساً الكترونياً. يمضي ساعات وساعات أمام جهاز الكومبيوتر العائلي، ويشغل مكانة المساعد التقني لوالده. وهو لا يخفي حياءه أمام الصحافيين الأجانب الذين يغزون بيته. وبالكاد يمكن لزهراء ان تتكلم أمامهم. زهراء مثل أمها، تحب رسم المناظر الطبيعية.
نسأل علي وزهراء عما اذا كانا فخورين بأبيهما. علي، الذي يفهم الانكليزية بما فيه الكفاية، يجيب فوراً: "أنا فخور بأبي" وكذلك تفعل زهراء حين نطرح عليها السؤال نفسه وعما اذا كانت فخورة بأبيها أو تخجل به فتقول: "أحس انني أكثر سعادة من بقية البنات".
محاولة انتحار
والحال ان هذه السعادة الجلية لدى محسن وعائلته، تسمح لنا على الفور بأن نطرح عليه أسئلة صعبة، ما كنا لنجرؤ ان نطرحها عليه حين التقينا به للمرة الأولى قبل عشرين عاماً: "ما هي اللحظة التي كانت الأكثر صعوبة بالنسبة اليك بعد الحادث؟ وهل حدث لك في بعض الأحيان ان فقدت الرجاء؟".
ويجيب محسن: "ذهبت الى جبهة القتال لأنني أردت ذلك ولم يجبرني أحد. وهناك حاربت ضد العدو. ولكن ليس ضد أي عدو كان. حاربت ضد صدام، ضد أميركا وضد اسرائيل. حاربت ضد الشيطان وضد قوى الشيطان. وكان الأمر رائعاً بالنسبة اليّ، كما كنت راضياً عن اصابتي في تلك الحرب..."!
راضياً عن اصابتك؟
- نعم... صحيح ان هذا النوع من الحياة الذي عشته كان صعباً للغاية، اذ لم يكن في وسعي ان أرى أو ألمس أي شيء؟ لم يكن في وسعي ان أمشي. وفي ذلك الحين كنت بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة. وكان الأمر صعباً بالنسبة الى شاب في سني. غير انني فكرت... وناضلت ضد مشاكلي، وتساءلت: لماذا تراني قد عشت؟ لماذا لم أُقتل؟ وإذ يصل محسن في حديثه الى هذه النقطة يستذكر لقاء له مع بيتر، وهو هولندي التقاه في طائرة كانت تقله الى مدينة مشهد، بعد حوالي 4 شهور من ولادة علي. فبيتر، اذ لاحظ ان علي يتكلم الانكليزية، سأله كيف جرح وكيف حدث له ان توجه الى الجبهة في سن مبكرة. ثم كيف تمكن من العيش والبقاء على رغم جروحه الرهيبة. "قلت له إنني في الأيام الأولى طرحت على نفسي، من دون هوادة شتى أنواع الأسئلة: لماذا أصبت في ذلك الحادث؟ لأي سبب كان ذلك؟ لماذا ما زلت على قيد الحياة؟ ثم فهمت انه كان ثمة سبب لهذا كله. فإذا مات المرء أو عاش، معنى هذا ان الكون كله خاضع لإرادة الله. وأريد منكم ان تفكروا بهذا: لماذا يعيش محسن من دون ان يخالجه أي حزن؟ أنا أحب حياتي، وأنهل من حياتي بقدر ما أستطيع. ولا أفكر أبداً بأنني انسان جريح، ضرير أو مشوه... أفكر دائماً ان الله يسهر عليّ ويعتني بي".
وهنا نلحّ في سؤالنا: "هل أغراك في بعض الأحيان ان تنتحر؟ هل وصلت الى درجة من اليأس حاولت معها ان تضع حداً لحياتك؟".
"أبداً" يرد محسن مضيفاً: "لقد حالفني الحظ دائماً. وكنت دائماً سعيداً. أما الآن وبعد كل هذه السنوات فأحس بأنني سعيد جداً ومحظوظ جداً".
ويتابع محسن مشيراً الى واقع انه، حتى في إيران حين تواصل الدولة العناية بالمحاربين القدامى لا سيما بالمعوقين منهم، لا يحق لضحايا الحرب بأن يُعترف بهم وبحقوقهم الا خلال السنوات الأولى: "والحقيقة انه خلال تلك السنوات كان الناس يعتنون بي وبرفاقي أكثر". ويضيف: "تعرفون انه عند بداية الحرب، وفي الكثير من البلدان، يهتم الناس أكثر بجرحى الحرب. ثم تدريجياً ينسى البعض ذلك كله. ومن هنا أصارحكم ان الأمور بالنسبة اليّ الآن أصعب مما كانت عليه في البداية. حتى وإن كنت أشعر بسعادة غامرة، وذلك لأنني تقدمت في العمر وزادت مشاكلي. فأنا اليوم لديّ ولدان، ويتوجب عليّ ان أحل مشاكل العيش، وأن أكسب مالاً. غير ان هذا لا يمنعني من أن أكون سعيداً. أنا الذي لم أكن أبداً شخصاً يائساً... ولم أفكر أبداً في وضع حد لحياتي...".
ويروي لنا محسن انه حين توجه الى الجبهة وكان بعد في الخامسة عشرة، كان بالكاد أنهى دراسته الثانوية. لذلك عمد، بعد ان أصيب بجروحه، الى استئناف الدراسة، وذهب الى الثانوية ثم الى جامعة الامام الصادق الدينية في طهران حيث حصل على ماجستير في الفلسفة الاسلامية.
لقد أراد محسن في حينه ان يتابع دراسته لينال درجة الدكتوراه، لكنه اصطدم بضرورة اجتياز امتحان، كان من الصعب على ضرير مثله ان يجتازه. وتعلم الانكليزية - خصوصاً عبر استماعه الى برامج صوت أميركا الموجهة الى المبتدئين... بلغة بسيطة جداً. ثم كرّس نفسه للبحث التقني من أجل وضع الكومبيوتر والانترنت في خدمة المعوقين من أمثاله، عبر استخدام برامج توليف صوتي تقرأ النصوص على شاشة الكومبيوتر، كما من أجل تعميم مفاتيح ذات ارتفاعات مختلفة تسمح للمعوقين بالضرب على مفاتيح الحاسوب.
ويفسر محسن: "لقد أردت ان أدرس، غير أنني لم أتمكن أبداً من الحصول على الكتب بنفسي. كنت دائماً في حاجة الى الآخرين من أجل ذلك. وأنا لم أحب هذا أبداً. لم أحب أن أتكل على أحد. كنت أريد أن أمشي وحدي. كما كنت أريد ان أحقق شيئاً من أجل رفاقي العميان. وأعتقد بأن المرء إذا أراد شيئاً فليس مستحيلاً عليه الوصول اليه. لقد كانت الحاسوبات شيئاً غريباً بالنسبة اليّ. ولم يكن في وسعي ان أتصور أبداً انني سأتمكن يوماً من الاشتغال على حاسوب. واليوم هأنذا أعمل على حاسوب من الصباح حتى المساء. أمارس كل اهتماماتي على الحاسوب وأحل مشاكلي. وأشتغل مثل كل خبراء الحاسوب. مشكلتي هنا تكمن في عدم توافر كل ما أريد من برامج في إيران".
اليوم، بفضل الانترنت، وبفضل معرفته باللغة الانكليزية كما بالعربية التي درسها أيضاً خلال هذه السنوات. ها هو محسن قادر اليوم على التواصل مع العالم. غير انه لا يستخدم البريد الالكتروني أبداً. لماذا؟ لأنني شديد الخوف من الفيروس.
محسن والسياسة
حتى اليوم لا يزال محسن يحب السياسة بكل شغفه القديم تجاهها. لذلك تراه على الدوام، يحول كل نقاش يخوضه حتى يصبح نقاشاً سياسياً. ولكن حين يُسأل عما اذا كان راضياً عن جردة حساب الجمهورية الاسلامية التي أعطاها كل حياته تقريباً، يتملك جوابه شيء من الحيرة: "أنا أعتقد بأننا حققنا بعض الانتصارات. كما اننا خسرنا في بعض الحالات. وأعرف ان لدينا في إيران مشاكل حقيقية: فالناس يحبون الحصول على بعض المواد الاستهلاكية بأسعار معقولة، مثلاً. ونحن لدينا أفكار تجاه العالم وتجاه وطننا، لكن العدو، الامبريالية، لا يتركنا نحقق هذه الأفكار أبداً. ثم ان لدينا مشاكل ثقافية. ولسوء الحظ ثمة أناس لا يفهمون ثقافتنا ومعتقداتنا وديننا. لذلك نراهم لا يتطلعون الا صوب الخارج. وعيونهم مثبتة نحو أوروبا وأميركا. والحقيقة ان عدداً كبيراً من مشاكلنا مستوردة".
فإذا سألت محسن عما اذا كان هذا هو السبب الوحيد حقاً، وعما إذا لم تكن لإيران مشاكل داخلية، يجيبك: "صحيح، فأنا لا يمكنني ان أغلق عيني على كل ما في وطني وأقول ان مشاكلنا كلها تأتي من البلدان الأجنبية. فهذا غير صحيح. أنا أعرف ان لدينا مشاكل عدة، إدارية وثقافية. ولدينا مشاكل مع الملالي الذين قد يتوجب عليهم ان يعملوا في شكل أفضل وأقوى من أجل حل هذه المشاكل. غير انني أقول أيضاً انه لن يكون في وسعنا حلها إن لم يترك العدو لنا فرصة حلها...".
وهنا يطرح محسن سؤالاً عن البرنامج النووي الايراني: "أنا شخصياً لا أحب الذرة. أنا ضدها ولا أريد لبلدي ان يمتلكها. ولكن لماذا يمكن لخمسة بلدان أو ستة، مثل الولايات المتحدة وانكلترا وروسيا، ان تمتلك الذرة ولا يمكن لنا نحن ذلك؟ انه سؤال مهم لست أرى أحداً راغباً في الاجابة عنه".
محسن وأسرته
ونعود الى حياة محسن الأسرية، مما تتألف أوقات فراغهم؟ وكيف يرفهون عن أنفسهم؟ "أنا أشتغل طوال الوقت على الحاسوب. وألعب مع طفليّ. أحب أن ألعب معهما. كذلك أنا أشاهد التلفزيون في رفقتهما. وأشاهد خصوصاً برامج الأطفال والرسوم المتحركة. هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا يمكنني من أن أجلس الى جانب الطفلين، انه أمر فائق الأهمية بالنسبة اليّ ان أجلس الى جانبهما. وليس المهم أن أشاهد التلفزيون".
واضح ان محسن لا يملك ما يكفي من المال كي يذهب في اجازات مع أفراد عائلته الصغيرة. لكنه بين الحين والآخر يصطحبهم الى مشهد أو الى شمال إيران. فمن هو الشخص الذي يعرف أكثر من غيره كيف يصف المناطق التي يمرون بها لمحسن على الطريق نسأله، فيجيب ضاحكاً: "انكم تريدون زرع الشقاق بيننا... ان هذا يتعلق، على أية حال، بالموقف نفسه. ففي بعض الأحيان يشرح علي بشكل جيد. وفي أحيان أخرى تتولى زهراء الشرح. وفي أحيان تكون حوراء هي المتصدية للأمر. أما بالنسبة الى التفاصيل فإن زهراء تتفوق. وتشرح أفضل من علي كثيراً".
ويبدأ المساء بالهبوط. ونجد أنفسنا على وشك الذهاب، فنودع محسن وأسرته. وإذ نفعل، يقول لنا محسن ان لديه رسالة يريد ابلاغها "حين تعودون الى بلدكم قولوا الحقيقة. نحن لسنا أشراراً. نحن مثلكم. نعمل، نأكل، نفكر، وثقافتنا ثقافتكم. في بعض الأحيان لا تكون التفاصيل صالحة تماماً. لكننا نؤمن بها. اننا نريد ان تقولوا لشعبكم ان ثمة في إيران، أناساً، ذهبوا للقتال في الجبهة ليس لأنهم يحبون الحروب، وليس لأنهم أرادوا ان يحتلوا بلدان شعوب أخرى، بل لأنهم أرادوا تحرير بلادهم".
ترى كيف يمكن لانسان ان يعيش من دون يدين، ومن دون نظر، كل هذه الحياة الصعبة؟ ولماذا تراه على رغم ذلك سعيداً لا يفكر بقتل نفسه؟ لماذا لا يزال محسن على قيد الحياة بعد 21 عاماً من اصابته... ولماذا لا يزال سعيداً؟ الحمد لله، الحمد لله الذي وجهني للذهاب الى الجبهة ومنحني هذه الحياة. فإذا كان الاسلام يتيح لإنسان ان يعيش مع هذه المشكلة واثقاً من انه سعيد ومن انه محظوظ... كيف تنظرون يا ترى الى هذا الدين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.