المعركة التي يخوضها المستوطنون اليهود ضد خطة شارون، الرامية الى الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، هي حلقة واحدة: سلسلة طويلة من المطالب تتجاوز أهداف "أرض اسرائيل" فلسطين الكاملة. وتتعدى الحدود السياسية. بعضهم يطمع في تحقيق "الفرات الى النيل". وبعضهم يتطلع الى تركيا، بوصفها جزءاً من أرض الميعاد. ولا يترددون في التفكير بترحيل عشرات الملايين من العرب في هذه البلاد. والاستعداد للاحتلال الكبير. ومن ثم السيطرة على العالم أجمع. منذ أن بدأ الحديث عن "خطة الفصل"، التي يطرحها رئيس الوزراء الاسرائيلي، ارييل شارون، وبموجبها تنسحب اسرائيل من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية وتخلي المستوطنات اليهودية فيهما، تبرز معارضة متنامية في المجتمع اليهودي تصل الى حد اتهامه بالخيانة. في الظاهر يبدو ان هذه المعارضة سياسية وحسب. وهناك فعلا معارضة سياسية. لكن النواة الصلبة لهذه المعارضة، هي ايديولوجية، دينية، متعصبة، ترى في الانسحاب، ليس خيانة شارون للمبادئ اليمينية فحسب، وانما ترى فيه كفراً، او حسب تعبيرها "خيانة للوعد الإلهي لشعب اسرائيل". هذه النواة تعيش في المجتمع اليهودي في اسرائيل وخارجها منذ مئات السنين. لكنها لم ترفع رأسها إلا اليوم. لقد اسمعت صوتها ذات مرة، سنة 1979، اثر اتفاقات كامب ديفيد مع مصر. وحاولت الاحتجاج على الانسحاب من سيناء. لكن صوتها كان خافتاً. والجمهور الاسرائيلي أسكتها بفضل تأييده الجارف للحكومة في المسيرة السلمية. ومن سخريات القدر ان شارون، كان وزير الدفاع يومها، قاد بنفسه عملية اخلاء المستوطنات اليهودية الست من سيناء، وفي مقدمها مدينة يميت الاستيطانية. هذه المجموعة اصبحت ذات وزن كبير في المجتمع الاسرائيلي ومنتشرة في مواقع عدة. ليس فقط في المستعمرات، بل في القدس، والريف وفي كل مكان. وهي ليست مجموعة واحدة، بل مجموعات عدة، متباينة في المواقف وفي مدى التطرف. لكل منها رجل دين مسؤول عنها مسؤولية مطلقة، يقدسونه ولا يخالفون له أمراً وقوانينه وتعليماته وفتاواه، بالنسبة إليهم، فوق كل القوانين والانظمة المدنية. وفوق كل مجموعة من رجال الدين، يوجد رئيس روحي. ويتزعم رئيسان روحيان المتطرفين اليهود: الحاخام موردخاي الياهو والحاخام الاكبر ابراهام شبيرا، الذي اصدر أخيراً الفتوى التي تحرم اخلاء المستعمرات اليهودية وتعتبره إهانة للتوراة وتشبهه بأكل لحم الخنزير، وتحلل مقاومته بكل الطرق المتاحة بعضهم فهم ذلك على انه تحليل للمقاومة المسلحة لذلك بدأ يسجل من هم مستعدون للمشاركة في مقاومة الإخلاء عندما يحين موعده. لكن هناك رجال دين متطرفون اكثر من الحاخامين المذكورين. وهناك نشطاء من تلاميذهم أكثر تطرفاً. القاعدة الايديولوجية على رغم ان النشطاء الميدانيين في هذه المجموعات المتطرفة يبدون متوترين وقلقين، ويبكون امام شاشات التلفزيون على أرض اسرائيل التي تضيع من أيديهم، فإن حاخاماتهم يبدون هادئي النفس والرأس. فهم واثقون من ان خلاص الرب يأتي كرمشة العين. والمعجزة قادمة لا محالة في المصير اليهودي. الحاخام عزرائيل اريئيل، من أتباع الحاخام موردخاي الياهو الذي هو نفسه من التلاميذ الروحانيين لجمهور حزب "المفدال" والمستوطنين، كتب في موقع "موريه" على الانترنت يقول: "كل محاولة لان يكون المرء واقعيا زعما غير واقعية على الاطلاق". وهكذا يكتب في هذه الايام الحاخام زلمان ميلاميد، رئيس لجنة حاخامي المستوطنين والذي أنشأ اذاعة المستوطنين المعروفة باسم "قناة 7": "بقوة هذه الفروض أوقفنا جميع الذين نهضوا لإبادتنا. لقد أقمنا عريشة نظامية وفي خريف 1942، على سبيل المثال، وبفضل صلوات الحاخام هرتسوغ ووعوده انتصرت بمعجزة، جيوش الحلفاء على النازيين في معركة العلمين". وفي مكان آخر في هذا الموقع يتحدث الحاخام يتسحاق حاي زاغا عن حرب الايام الستة فيقول: "بعد يوم من النصر الرائع غير المنطقي وغير الانساني، خرج الجنرالات من جحرهم وتنازلوا عن الحرم...". ويضيف الحاخام يغئال كامينسكي من غوش قطيف: "نحن نرى انه تسقط مئات وآلاف قنابل الراجمات على المستوطنات، وبإذن الرب يكاد لا يصاب أحد. نحن نعيش في معجزة المعجزات". وعند حديثه عن المستقبل يقول الحاخام زلمان ميلاميد: "بلباليب الغصون سنضرب كل الأرواح الشريرة ونستظل بالعريشة". والرؤيا الاستيطانية التي يسهب الحاخاميون في حديثهم عنها تتطلع الى ما وراء أرض اسرائيل الغربية، وهذا هو السبب الثاني الذي لا يجعل المستوطنين قلقين من التشويهات الديموغرافية لأرض اسرائيل الغربية. في أساس هذه الرؤيا يتحدثون عن احتلال عظيم: "توسيع مملكة اسرائيل حتى الحدود الموعودة في العهد القديم". وتكتب لجنة حاخامي المستوطنات: "كل من في قلبه ايمان... يمتنع عن المساهمة في خيانة وعد الرب الوارد في توراتنا والتي وعد فيها شعب اسرائيل بأرض اسرائيل". ويقرر الحاخام دودي شبيتس، من رؤساء كتاب حركة "قيادة يهودية" ان "الحفاظ على العهد الذي وعدت به البلاد لأبناء أبينا ابراهيم، ليس موضوعا للمفاوضات. هذا إرث شعب اسرائيل". وأقوال مشابهة كتبها موتي كرفن منظر "القيادة اليهودية" يقول فيها "الوعي العقائدي يتناول حدود أرض اسرائيل كحدود الوعد. الحدود الواسعة. في يوم ما سنعود الى أنفسنا، نقف على وعينا، ونخرج في حرب الفريضة لتحرير البلاد". اما البروفسور هيلل فايس، أحد المنظرين والكتاب المهمين للحركة فيقول في كتابه "سبيل الملك" أموراً لا تقل حزما عن ذلك. وبرأيه فإن "غاية الكفاح المسلح هي اقامة دولة يهودية في كل أرض تحتل من نهر الفرات وحتى جدول مصر". مثل هذه المقولات والمواقف التي تعكس آراء المتطرفين والحاخاميين ورجال المستوطنين نجدها في مختلف وسائل اعلام اليمين الاسرائيلي ومواقعهم على الانترنت. ففي موقع "قيادة يهودية" هناك ترويج ودعاية كبيرة لكتاب "سبيل الملك" الذي يتحدث عن أهداف الحاخاميين والمستوطنين بإقامة الدولة اليهودية من الفرات وحتى جدول مصر. والى جانب الاقتباسات المطولة منه هناك أقوال حاخاميين كبار تتضامن معه وتشجع كل يهودي على السعي من أجل تحقيقه. ويكتب فايس في كتابه: "علم خلاص أرض الميعاد لابراهيم لا يرفع علناً ولكن أحداً لم يلقه. فهو ينتظر محروساً بعناية، كي لا يوقظ شياطين الخوف العلماني من حروب الاحتلال ومن الواقع الديني الذي سيسود اسرائيل في أكنافها". سر علني هو "معجزة" الايام الستة فقد أثارت رؤى غافية، أخرجت الحبس الخطير لشمشون وصموئيل من الخزانة. هذه الأحلام، أحلام الخروج من القمقم، لن يوقفها أحد. فها هو الحاخام زلمان ميلماد يدعو الى الحذر من تكرار الاحتلال الأصغر مما ينبغي، برأيه، للعام 1967، وهو يدعي انه يجب "اعداد الشعب لقفزة درجة ستأتي قريباً. أي الاحتلال الكبير، ذاك الذي يتم في شرق الاردن، ويدق بواباتنا، ويجب الاستعداد لأفعال حاسمة، بعد ان نخلص الأرض برمتها". حدود أرض الميعاد وما هي حدود أرض الميعاد حسب تفكير الحاخامات؟ انهم يريدون ان تكون بين النهرين وفقا لايمانهم: "لزرعك أعطيت هذه الأرض، من نهر مصر حتى النهر الكبير، نهر الفرات". الى هنا يتفق جميع الحاخاميين، لكن خلافا بينهم يظهر عندما يجري الحديث عن هوية نهر مصر. فهناك من يجعل آراءه غامضة بشكل مقصود. "القيادة اليهودية" في أحد تصريحاتها تصف الاهداف الآتية: "ملكية، هيكل، نبوءة وأرض اسرائيل الكاملة من الفرات وحتى جدول مصر"، لكنها لا توضح اذا كان المقصود النيل ام جدول العريش فقط. موتي كارفل، من مؤسسي الحركة وكاتب النصوص الايديولوجية لها، يقترح في كتابه "الثورة العقائدية" التفكير ايضاً باحتلال سيناء. الحاخام عزرائيل الياهو كتب في موقع موريا أن الحدود الغربية هي جدول العريش أو النيل. وبدا الحاخام حاييم شتاينر، حازماً اكثر عندما تكلم في مدرسة بيت ايل: "بشكل عام، الفرات والنيل هما نقطتا العلامة الأساسية وكذا البحر المتوسط والبحر الاحمر". كما ان الحاخام يسرائيل غينزبرغ، الشهير بتطرفه يقول: "جدول مصر حسب غالبية التفسيرات، بمن فيهم راشي، هو النيل". الحدود الشرقية، كما هي معروفة، نهر الفرات. ولكن هنا ايضا توجد تفسيرات مختلفة، فبينما توافق الغالبية على استناد مملكة اسرائيل المستقبلية الى الجزء الأعلى، السوري الفرات، فإن هناك روايات أوسع. ففي مقالة اكاديمية يتحدث الحاخام موشيه هكوهين، من جامعة بار - ايلان يقول: "بعض المفسرين القدماء رأى النهر كحدود في قسمه الأكبر والطويل جداً، الموجود شرق أرض كنعان، حتى مصبه في الخليج الفارسي". ويميل الحاخام شتاينر من مدرسة بيت ايل الدينية الى قبول هذه الرواية القديمة. وهو يفيد، على لسان الرامبام بأن "ابانا ابراهيم ولد في كوتا المجاورة للخليج الفارسي". ويقرر شتاينر بأن كوتا ليست أرض اسرائيل لانها شرق الفرات. ويمكن الاستنتاج من ذلك بأن ما هو موجود غرب الفرات، في طرفه الجنوبي، هو أرض اسرائيل. ويتحفظ شتاينر عن هذا بقوله أنه توجد آراء أخرى، ولكن من المعقول الافتراض بأن الرأي الذي سيسود سيكون الأوسع، وذلك عقب التزمت الفقهي للمستوطنين والتفسير الذي ينادي به الحاخام زلمان ميلماد: "بلدان عربية، مثل العربية السعودية، الكويت واليمن، التي لا خلاف عليها في انها خارج نطاق البلاد. فحيثما يوجد خلاف يجب التوجه نحو التشدد". العراق لا يذكر هنا، وليس صدفة لأن الفرات يتدفق فيه، ولما كان "يجب التوجه نحو التشدد"، فمن المحتمل ان يكون العراق غرب الفرات مضموماً ايضا الى خريطة أرض الميعاد، المقبولة من غالبية الحركة الاستيطانية. هناك من الحاخاميين من يرون ضرورة توسيع الحدود الشرقية الى شمال العراق ايضا. الحاخام يهودا هليفي عميحاي من "معهد التوراة والبلاد" في غوش قطيف كتب يقول: "في القسم الجنوبي من تركيا توجد مناطق تعود الى أرض الميعاد، حسب مناهج مختلفة". وهناك فكرة بعيدة الاثر أكثر بكثير يجلبها احد الحاخامين في موقع "موريا"، فحسب نهجه فإن "الحل العسكري الكامل هو فقط من خلال الاحتلال الشامل والاخضاع النهائي للدول العربية برمتها، من المحيط الهندي وحتى المحيط الاطلسي. ولكن لا يوجد أحد في اسرائيل يتصور هذه الامكانية في هذه اللحظة. ولكن غداً، وربما بعد غد، يجب ان نتذكر أقوال الرامبان، فبعد احتلالات كل أرض اسرائيل، فإن كل ما يتم احتلاله اكثر يحكم قدسية أرض اسرائيل وتكون له". ولكن حتى هذا ليس كل شيء بالنسبة الى الحاخاميين والمستوطنين، فهناك من يعتقد ان شعب اسرائيل يمكنه ان يسيطر على العالم بأسره. "ليس من المستبعد ان تكون لشعب اسرائيل القدرة على التهديد والضغط على العالم بأسره لقبول طريقه. ولكن حتى لو وصلنا الى ذلك وان تكون لنا القوة للسيطرة على العالم، فليست هذه هي الطريقة لتحقيق رؤيا الخلاص الكامل"، يقول الحاخام زلمان ميلماد. أما الحاخام اسحق غينسبرغ فأكثر حزما. فهو يرى انه في المستقبل القريب من شأن أرض اسرائيل ان تتوسع، بواسطة الحرب، في كل بلدان العالم. وعندها، يقول "من واجبنا ان نفرض على كل القادمين من العالم الفرائض السبع المريحة، والا فسيقتلون". الترحيل معظم المستوطنين ومؤيديهم لا يبحثون علانية في مصير عرب أرض الميعاد بعد "خلاصها"، لكنهم يطرحون رؤيتهم "العظيمة". الحاخام شموئيل الياهو، ابن الحاخام موردخاي الياهو وحاخام مدينة صفد كتب يقول: "الحل الأفضل هو على ما يبدو النقل الطوعي الى دولة عربية اخرى، مثل الاردن..." ميني ترانسفير؟ ترحيل صغير موقت فقط. وفي مقال آخر يبشرنا بأن "عامون وموآب وأدوم سيختفون في جيلنا". والمعنى، عرب الضفة الشرقية ومعهم فلسطينيو 48 وفلسطينيوالضفة الغربيةوغزة الذين سينتقلون الى هناك طواعية وسيختفون، سواء بالطرد ام بوسيلة اخرى". موشيه فايغلين، رئيس "حركة القيادة اليهودية" الذي انضم قبل اربع سنوات الى ليكود، يقرر بأن لا مكان للعرب في أرض اسرائيل الغربية: "على المدى البعيد، بقاء العرب في أرض اسرائيل الغربية سيصفي الهوية اليهودية للدولة... الترحيل محق وكما يبدو التاريخ سيستدعي أوضاعاً لتحقيقه" ويقرر زميله موتي كارفل ان "على عرب أرض اسرائيل الغربية، على جانبي الخط الاخضر، التنازل عن مواطنتهم. وإلا فسنضطر الى حلها مشكلتهم بحل الترحيل اثناء الحرب". ويتحدث كارفل وفايغلين عن وجوب طرد العرب من كل أرض اسرائيل الغربية. البروفيسور هيلل فايس الذي كتب أن "كل الصهيونية لم تقم إلا كي يكون اليهودي يهودياً جديداً، يغير طبيعته ويتمكن من ذبح عدوه"، أكثر حزما بكثير، فيقول: "الآن ستأتي اسرائيل وتصادر كل مدنهم، بما في ذلك تلك التي في الضفة الشرقية". الناطق العلني الأكثر صراحة من الجميع هو الحاخام زلمان ميلماد الذي يقرر ببساطة أن "فكرة ترحيل العرب وطردهم الى ما وراء نهر الاردن، مغلوطة من أساسها. يجب ارسالهم الى مكان آخر، الى بلدان مثل العربية السعودية والكويت واليمن". والمعنى الرقمي - الترحيلي للخيارات الاقليمية الأساسية التي استعرضت هنا، حسب الحاخامات، هو الآتي: أرض اسرائيل الغربية، سورية ولبنان والاردن: نحو 25 مليون نسمة. يضاف اليهم العراقيون غرب الفرات، فيصبح المجموع نحو 30 مليوناً. يضاف "مناطق مثل جنوبتركيا"، وإذ بنا نتجاوز 30 مليوناً. نضيف الى القائمة نحو 15 - 20 مليون مصري، يسكنون شرق النيل في شمال مصر بما في ذلك ايضا معظم القاهرة، لنتحدث عن ترحيل 45 - 50 مليون نسمة. واذا ما حصل كل هذا، بلباليب الغصون بحزم أكبر، بعد جيل فقط، فإن الأرقام ستقفز لتفجر سلم القياس. من الواضح ان هذه الافكار تبدو خيالية بالنسبة الى الكثيرين. فهل يعقل ان تجتاح اسرائيل العالم العربي وترحل عشرات الملايين؟ لا يعقل! ولكن كثيرين من انصار أولئك الحاخامات يؤمنون بكل جوارحهم بتلك الافكار. ولا يؤمنون فحسب، بل يحولون ترجمة هذا الايمان للغة الفعل. الدكتور باروخ غولدشتاين مثلا، اليهودي الاميركي الذي استوطن في مستعمرة كريات اربع قرب الخليل، حمل رشاشه ذات ليلة في العاشر من رمضان سنة 1994، ودخل الحرم الابراهيمي خلال صلاة التراويح وراح يطلق الرصاص على المصلين فقتل 29 منهم. وعندما حاول الفلسطينيون الخروج الى الشوارع للاحتجاج على المذبحة، دخلت القوات الاسرائيلية الى المكان وأكملت المذبحة بقتل آخرين. لم يكن غولدشتاين شخصاً شاذاً في المجتمع الاسرائيلي بل له كثيرون من الرفاق والمؤيدين. هؤلاء بنوا له نصباً تذكارياً تحول مزاراً لليمينيين المتطرفين، قبل ان تقرر المحكمة العليا في القدس إزالة هذا العار، بناء على طلب حركات السلام. وتم هدمه. لكن هدم النصب التذكاري لم يهدم الفكرة. فهناك عشرات المستوطنين الذين اقاموا تنظيمات ارهابية وعنصرية نفذوا خلال السنوات الاربع الاخيرة عمليات، قتل فيها 9 فلسطينيين وجرح 29 آخرون. وتم القبض على ارهابيين يهوديين وهما يضعان سيارة مفخخة تحتوي على 10 كيلوغرامات من المواد المتفجرة و4 انابيب غاز، امام مدرسة البنات في حي ابو طور في القدسالشرقيةالمحتلة بالقرب من مستشفى المقاصد الخيرية. وقبض عليهما بالصدفة، عندما مرت دورية شرطة. وفي كل هذه العمليات اعتقل 13 يهوديا. اطلق سراح معظمهم لان الاستخبارات "لم تنجح" في الحصول على معلومات منهم. ولم يحاكم سوى اثنين. قبل هذه الموجة من الارهاب، كانت اسرائيل قد اعتقلت عصابة ارهاب يهودية اخرى في مطلع الثمانينات، اعترف افرادها بأنهم خططوا لتنفيذ عمليات ارهابية مختلفة ضد الفلسطينيين، بينها تفجير المسجد الاقصى المبارك بهدف تدميره، وبناء الهيكل اليهودي مكانه، واطلاق الرصاص على حافلات ركاب فلسطينية، واغتيال عدد من القادة الفلسطينيين وغير ذلك. وقبلها كانت عصابة ارهاب يهودية قد حاولت اغتيال ثلاث رؤساء بلديات فلسطينيين بسام الشكعة، نابلس، وكريم خلف، رام الله، وابراهيم الطويل، البيرة وعصابة اخرى حرقت كنيسة القيامة في القدس. وهناك تلامذة في المدرسة الدينية اليهودية داخل البلدة القديمة في القدس يخططون لطرد الارمن من الحي الارمني المجاور لهم، من أجل توسيع الحي اليهودي على حسابهم. وقد اعتادوا على التحرش بالمواطنين وبالكهنة والبصق على الصليب. وفي القدس بالذات تعمل تنظيمات يهودية متطرفة، بعضها مخصص في شراء البيوت والحوانيت والاراضي الفلسطينية وتهويدها. وبعضها متخصص في تهويد الحرم القدسي، وهم يكتفون حالياً بإقامة الصلوات اليهودية في باحة الاقصى أخيراً اقاموا عرساً وشربوا النبيذ بشكل رمزي. بعضها يقوم بالحفريات تحت البلدة القديمة. وقبل شهرين، حذر وزير الامن الداخلي، تساحي هنغبي، من ان هناك عناصر تخطط لتنفيذ عمل بشع في الاقصى، بهدف التخريب على تطبيق خطة الفصل. وهذه ليست العصابة الوحيدة. فهناك ارهابيون يهود يخططون للقيام باعتداء او باعتداءات كبرى على الفلسطينيين، على امل ان يأتي رد فلسطيني متفجر، فتسقط خطة الفصل. وليس من شك في ان هذه القوة تتغذى بالطبع من السياسة العامة للحكومة، المبنية على التمييز ضد العرب والممارسات الاحتلالية ضد الفلسطينيين الموقع والمياه والترابط الاستيطاني "هذا مكان استراتيجي من الدرجة الاولى. يجب الاستيلاء على هذه التلة. نحن نبني هناك أولاً وقبل كل شيء بركة ماء. صحيح ان المكان مرتفع وستكون هناك مشكلة لضخ المياه، لكنني واثق من انكم قادرون على حل المشكلة". كانت هذه أوامر شارون للمستشار القانوني السابق، احاز بن اري، عندما بدأ التفكير بإقامة المستوطنات وبالتنسيق مع قادة اليمين الذين تحولوا الى مستوطنين متطرفين. كانت الخطة تقضي ببناء مستوطنة بعد أخرى وبشكل تسلسلي يضمن تواصلاً استيطانياً على اوسع منطقة من الضفة الغربية، لتكون النواة الاساسية لتحقيق الهدف الصهيوني "اسرائيل الكبرى" والسيطرة على الأرض من دون امكانية التخلي عن هذه المستوطنات مستقبلا. وحديث شارون كان حول مستوطنة "حورشا" غرب الضفة الغربية، والتي تقع على تلة ترتفع 780 متراً. واختيار شارون لهذه المنطقة لم يكن صدفة، فهي ليست فقط موقعاً استراتيجياً وأمنياً مهماً بالنسبة الى اسرائيل بل ايضا حلقة تربطها مع مواقع استيطانية اخرى بين تلمون في الجنوب ونحليئيل في الشمال. وتبنى شارون فكرة اقامة هذه البؤرة على ان تنطلق منها مشاريع استيطانية على شكل سلسلة مترابطة يستحيل الفصل بينها. واهتم شارون بتعزيز مشروعه من خلال لقاءاته الكثيرة مع المستوطنين حيث كان يشرح فيها أهدافه المستقبلية وكيف يمكن تعزيز الاستيطان وما هي أهميته في هذه المنطقة. وفي احد الاجتماعات قال لهم: "في أحد الاماكن هنا توجد بركة ماء ومنها يمكن ان ننطلق بمشروعنا. فعلى بركة الماء تضعون حارساً. الحارس لا بد سيشعر بالعزلة. فسيتزوج وتكون له عائلة. والاطفال سيحتاجون الى رفاق. وستأتي عائلات أخرى. وبعد ذلك يكون عدد. والعدد يحتاج الى كنيس. والنساء يحتجن الى مُصلى. والاطفال يحتاجون الى روضة ومتنزه. هكذا نجعل من متسبيه حورشا مستوطنة". وفي غضون سنوات قليلة تحول سيناريو شارون الى واقع. ومع انه في عهد الرئيس السابق للحكومة الاسرائيلية، ايهود باراك توقف نمو الموقع، إلا ان بنيامين بن اليعازر، وزير الدفاع في حكومة شارون الأولى أعاد اطلاقه. وقصة حورشا ليست حالة منفردة فقد تمت السيطرة على العديد من التلال الشبيهة بحورشا واستيطانها، سواء في أماكن استراتيجية مثل جبل أرطيس او ميجرون - المجاورين لبيت ايل، أم في إطار تواصلات يهودية كحلقات تربط بين المستوطنات والكتل الاستيطانية في كل مختلف أرجاء الضفة الغربية. ولقي المستوطنون كل الدعم من الحكومات المتتالية، وقد كشف تقرير الاسبوع الماضي عن المشاركة الفعالة للحكومة والجيش في دعم المستوطنين لتعزيز مشاريعهم واقامة عشرات البؤر الاستيطانية بشكل سيكون من المستحيل إزالتها. والأخطر من هذا ان المستوطنات أقيمت بشكل تسلسلي مترابط بات من الصعب التمييز بين المستوطنة القانونية والمستوطنة غير القانونية. وفي التقرير بند حول السنتين الاخيرتين وتقديم عشرات ملايين الدولارات من الوزارات والمؤسسات الحكومية وفي كثير من المشاريع كانت المصادقة على اقامتها مباشرة من شارون. لهذا، فإنه من الصعب على المستوطنين ان يتصوروا ان شارون يتراجع. لذلك يقاومون مخططه. ولا يقبلون تبريراته بأن انسحابه من غزة جاء ليضمن بقاء المستوطنات في الضفة الغربية.