يسود العراق واقع يتمثل في إن الولاياتالمتحدة توجه مستقبل العراق وفق تصوراتها والمعطيات التي تتوافر لديها، سواء من أطرافها أو من أطراف عراقية. ومن الغريب ان هذا التوجيه أصبح يتعارض مع مواقف ووجهات نظر عراقية مؤمنة إن العراق لا بد أن يسير على طريق الديموقراطية، سواء كان ذلك حلماً أم واقعاً أم صراعاً مريراً مع إرث صدام حسين ومصالح دول الجوار والأحزاب والجماعات التي تريد تغطية العراق بخرق ديموقراطية شكلية لضمان بقائها في الحكم. فقبل أيام قال مصدر اميركي لم يشأ ذكر اسمه ان العراق لو حصل على نظام شبيه بنظام الرئيس المصري حسني مبارك لاعتبرت السياسة الاميركية ناجحة وتكون قد حققت أهدافها. إلا أن مصادر ديبلوماسية اميركية أكدت ان هذا الموقف لا يتطابق مع السياسة الاميركية التي تريد إقامة نظام ديموقراطي في العراق. لكن ما هو أهم من هذا هو ان العراقيين أنفسهم يريدون اليوم نظاماً ديموقراطياً يساهمون باختياره. وقد ذهبوا أبعد حين أكد اكبر مراجع الشيعة آية الله السيد علي السيستاني ضرورة إجراء الانتخابات ودعا العراقيين إلى التأكد من تسجيل أسمائهم في الأماكن المحددة للتسجيل. وتنظر غالبية العراقيين إلى إسقاط نظام صدام باعتباره فرصة للخلاص والسير في طريق جديد. غير ان الأخطاء تتراكم وترفع الحاجز أمام هذا الأمل إلى حده الأقصى المتمثل باعتبار الاميركيين عدواً جديداً. لنأخذ أمثلة نقدية من الواقع: أعطت السياسة الأميركية اعتباراً مبالغاً فيه للعشيرة في العراق باعتبارها وحدة سياسية قادرة على السيطرة على أتباعها، فإذا العشيرة تنقلب وتجبر الأميركيين على القبول بها في أعلى المناصب. فضلا عن ان هذه السياسة أعطت نفوذاً لزعماء عشائر في سامراء والانبار وغيرهما لاستغلال عشائرهم في ابتزاز الحكومة الموقتة وتهديد الوضع العراقي برمته الأمر الذي لايمكن للقوة العسكرية المفرطة وحدها أن تكون حلا له. المثل الآخر تمثل في الحرب الإعلامية العربية الطاحنة التي أقصت القوة العسكرية الاميركية من ساحة المواجهة الفعلية وجعلت عقود إحالة الإعلام إلى شركات تلفزيونية غير عراقية غير مجدية في مواجهة الحملة الإعلامية ضد النظام الجديد والاحتلال الاميركي بحيث أصبح الحديث عن شرق أوسط ديموقراطي أمراً محفوفاً بالأوهام. وتصاعدت الحرب التي ساهم فيها إعلاميون وجهات ضالعة في دعم صدام ونظامه وسائرة في ركب التهريج والتحريض ضد العراقيين في وقت لايجد فيه العراقيون منبرا للتعبير عن آرائهم وآمالهم من خلاله. وأكثر من ذلك وجد إعلاميو عدي صدام حسين مكانهم في الأعلام الجديد العراقي والعربي بدلا من اولئك الذين عانوا من النظام منعاً وتهجيراً وسجناً وتكميماً للأفواه. المثل الثالث تمثل في استمرار الولاياتالمتحدة على التمسك بالعناصر الأولى نفسها التي وجدت عدم تجاوب من العراقيين، والتمسك بالتقارير الأولى التي رفعتها جهات عراقية معارضة قبل الحرب وفق مصالحها وحروبها الحزبية والنفعية واعتمادها حتى الآن طرفاً وحيداً لحكم العراق والحكم عليه من خلالها. نتائج مريرة كثيرة حصدها العراقيون جراء مثل هذه الأمثلة الثلاثة. أولها تدهور ثقة العراقيين بالنيات الأميركية لتغيير النظام السابق كلية واجتثاث إرثه السيئ الصيت وإشراكهم في العملية السياسية وتعويضهم عبر ذلك عن سنوات الاضطهاد والحرمان ونقل موقعهم من موقع الضحية إلى موقع المواطنة وتقرير المصير. أي استعادة حقوق العيش والعمل والمساواة في الوظائف العامة وليس احتكارها وتوزيعها على الأقارب والمعارف والحزبيين وفق أسلوب صدام حسين، الأمر الذي ترفضه حساسية العراقيين المفرطة تجاه التمييز والتهميش مهما كانت دوافعهما واتجاهاتهما. ثانيها دفع الطبقة الوسطى الى مواقع أكثر تخلفا مما دفعت إليه في عهد صدام حسين وعزلها عن العملية السياسية التي بدأت في عهد الحاكم المدني بول برا يمر وحتى الآن، سواء الطبقة الوسطى في الداخل أو الخارج، هذه الطبقة المسؤولة عمليا عن بناء الدولة والديموقراطية، والتي تواجدت في العراق منذ عهد مدحت باشا في ثمانينات القرن التاسع عشر وتطورت أفقياً وعمودياً في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين باعتبارها نخبة قيادة المجتمع والدولة. كانت سياسة اجتثاث البعث متطرفة كثيراً، على رغم إن تصفية الحساب مع إرث الحزب المعادي للحريات والأحزاب والقائم على تنفيذ سياسات التهجير والتطهير السياسي والقومي والثقافي وغياب القانون العام والولاء وعبادة الفرد وتسقيف المجتمع وأجهزة الدولة الإدارية بسقوف أمنية ومخابراتية، كانت وماتزال مهمة أساسية تمهد لبناء النظام الديموقراطي. لقد كانت تلك السياسة صراعاً بين تيارين من النظام الجديد أكثر مما كانت صراعاً بين النظام الجديد والنظام المنهار. وكانت عملية تصحيح الخطأ بخطأ آخر كارثة جديدة حين عاد النظام بوجوه بعثية في وقت مايزال يسيطر البعثيون المتوسطون على إدارات الدولة المدنية ويعيقون التحول نحو بناء دولة خدمات للمواطنين. لقد كلفت هذه السياسة المتخبطة الوضع المرتجى اهتزازاً خطيراً، إذ بدت وكأنها مكافأة للبعثيين مرتين وعقوبة لضحاياهم مرتين أيضاً. وتبدو الحكومة الانتقالية وكأنها حكومة مؤبدة حيث عينت أتباعها في كل ألاماكن الحساسة التي تتطلب أعلى قدر من التجرد الوطني، مثل أجهزة الأمن والاستخبارات والإعلام والديبلوماسية وأجهزة القضاء، في حين كانت التعيينات في الوظائف العامة التي تعود للدولة وليس للحكومة مثل السفراء ووكلاء الوزارات والمدراء العامين والمناصب الاختصاصية العليا. وعلى رغم التأكيدات المستمرة لرئيس الحكومة بأن الانتخابات ستجري إلا إن كثيراً من الأصوات ينطلق كبالونات اختبار لتأجيل الانتخابات، كان أخرها صوت رئيس الجمهورية غازي الياور الذي اعتبر إن موعد الانتخابات ليس مقدساً فهو ليس عيد الأضحى في حين يعتقد كثيرون أنها محاولة للتهرب من الالتزامات والتعهدات المقطوعة بكون هذه الحكومة موقتة حتى الشهر الأول من السنة المقبلة. إن ما هو بأهمية موعد الانتخابات الطريقة التي ستجري بها الانتخابات وفق نظام القائمة الواحدة أولا، ثم فوز الأسماء العشرة الأولى من القوائم الفائزة ثانيا. فكلا النظامين يؤمنان فوز القيادات الحالية التي في الحكم. فالعراق وفق قانون الانتخابات قائمة واحدة، كما ان الأسماء العشرة الأولى ستعتبر فائزة من كل قائمة حتى لو لم تفز القائمة بأكثرية الأصوات. من الطبيعي أن تخشى الولاياتالمتحدة فوز قوى متطرفة، خصوصاً القوى الدينية. غير إن هذا الخوف انعكس على وجود يد اميركية قوية في ترتيب الأوضاع الأمر الذي يجعل من السيادة والاستقلالية أمرين خياليين. كما إن الأموال التي تتحكم بها أميركا في العراق ستكون احد العوامل الاساسية في حسم نتائج الانتخابات، ومن شأن ذلك أن يكون عرفاً أو تقليداً، كما كانت تفعل بريطانيا أثناء العهد الملكي في العراق، لا يتيح لأية قوى أخرى أن تصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات لا عن طريق آخر. إن من شأن هذه الترتيبات الحديدية أن تعيد العراق إلى الأزمات التي كان يواجهها. فلا أحد يضمن عدم تدخل الجيش من جديد في السياسة عن طريق الانقلابات على رغم الإشراف الشامل لأميركا على تشكيل الجيش القادم. فبعد خمسة عشر سنة فقط من تشكيل الجيش العراقي عام 1921 قام الجيش بانقلاب كبير عام 1936 ثم استمرت الانقلابات وحددت الحياة السياسية في العراق بما فيها النظام السياسي العسكري. ويمكن للاختناقات التي تنتج عن التحكم الحديدي بمستقبل العراق وترتيب أوضاعه بيد اميركية حديديةان تنفجر بشتى الأشكال العنفية المدنية أو العسكرية، لأن مثل هذا الترتيب قد يكرس حرمان القطاعات السكانية التي كانت محرومة أصلا في النظام السابق ومسحوقة اقتصاديا واجتماعيا. خلال عام ونصف عام تبدلت صور الحكم واحتمالاته كثيراً. فبعدما كان أحمد الجلبي صورة أميركا الأولى في العراق تم نقله إلى الناصرية، في حين كان علاوي لا يزال على الحدود العراقية مع الأردن. وبعدما تشكل مجلس الحكم بنفوذ شيعي تقلص هذا النفوذ بتشكيل الحكومة الموقتة. وبعدما كان قانون اجتثاث البعث مخيما على العراق عاد البعثيون إلى المناصب الوزارية والأمنية والديبلوماسية، ما أثار حفيظة العراقيين الذين عانوا من نظام البعث وسلوك أعضائه وتسلطهم على مصائر العراقيين على مدى أكثر من ثلاثة عقود ونصف. من خلال ذلك يبدو أن مصير العراق خضع لصراع تيارين تشكلا قبل الحرب هما: تيار المؤتمر الوطني الذي يسعى إلى إنهاء مظاهر البعث برمتها وكان مدعوما من وزارة الدفاع ورجالها، وهو التيار الذي صعد في مرحلة الاحتلال الأولى حين كان البنتاغون مشرفاً على أوضاع العراق. وتيار الوفاق الوطني الذي كان مشروعه مع الاميركيين يقوم على القضاء على القيادة العليا للبعث، المدنية والعسكرية والأمنية التي لا تتجاوز خمسين شخصا والإبقاء على هيكلية الحكم بعد حلول الوفاق محل تلك القيادة، وهو المشروع الذي يعمل عليه الآن رئيس الوزراء اياد علاوي. وشهدت الفترة الأخيرة تسليم أسلحة من قبل المتمردين في مدينة الصدر في مقابل دولارات. غير ان هذه العملية قد لا تكون مجدية لأسباب عدة منها ان كميات الاسلحة هائلة وان تهريبها عبر الحدود لن يوقف بيعها للحكومة، إذ سيكون شراؤها من قبل الحكومة عاملاً مساعداً على اتساع عمليات تهريب الاسلحة. ان الوضع الراهن لا يتحمل الترقيع وانما يحتاج إلى إعادة النظر بالمرجعيات السابقة التي تأكد تخبطها واستعجالها الأمور وفق مصالح ضيقة، والى خطط استراتيجية تفتح الأبواب أمام عدة عمليات في وقت واحد، بدءاً من الشروع بمصالحة وطنية على أسس واضحة وعادلة لا تكافئ المذنب ولا تعاقب الضحية من جديد، إلى توسيع المشاركة السياسية لدخول أطراف جرى تجاوزها وتهميشها من قبل وإعادة الاعتبار للطبقة الوسطى وتمكينها من بناء الدولة ومؤسساتها وبناء مؤسسات المجتمع المدني بعيداً عن كونها واجهات للأحزاب والإيديولوجيات، وإعادة بناء الجيش على أسس مهنية وليست محاصصة حزبية او قومية او مذهبية، خصوصاً ان ما هو معروف في تاريخ الجيش العراقي ان مهنييه من ضباط الصف هم من أبناء الريف وفقراء المدن الذين يشكلون الجسم الميداني للجيش وهم من الشيعة غالباً، وتنظيم الإعلام وفق شروط حريته القانونية والمعايير المهنية وإيجاد حل لبقايا وزارة الإعلام التي كانت جهازا متضخما للدعاية في النظام المخلوع، وإعادة اعمار العراق وفق شروط النزاهة والشفافية وإيقاف عمليات النهب والتلاعب التي اتسعت وشغلت الكونغرس الاميركي لإعادة الثقة بالوضع الجديد باعتباره املاً للعراقيين لبناء عراق جديد كما بشرت به أميركا وهي تباشر حربها لإسقاط صدام حسين ونظامه