في ليلة باردة من ليالي شتاء هذا العام، جمع توني بلير كبار مساعديه، وطرح عليهم قضية في غاية السخونة: كل الأبعاد المحتملة والخيارات الممكنة لاحتمال تحّول إيران الى دولة نووية. وينقل فيليب ستيفنز، أحد الكتاب في "فينانشال تايمز"، عن أحد هؤلاء المساعدين قوله إن الحضور أجمعوا سريعاً على ان: "الحكومة الايرانية" اتخذت، على الأرجح، قراراً استراتيجياً بالحصول على الاسلحة النووية". وحينها، قال بلير بنبرة إنكليزية هادئة، ولكن قوية: "حسناً، لا نستطيع ترك إيران تحصل على الأسلحة النووية. حتما لا نستطيع. التأخير لم يعد مفيداً. البرنامج يجب ان يتوقف". هذا الموقف البريطاني الجازم والحاسم، كان مجرد رجع صدى متأخر لموقف آخر لطالما اتخذته الولاياتالمتحدة، ومفاده أن إيران تمارس سياسة "التضليل الاستراتيجي" حيال تسلحها النووي، تماماً كم فعلت إسرائيل مع برنامجها النووي طيلة نصف قرن. فهي تتسلح سراً وتعلن أنها لا تتسلح. وهي تستخدم ورقتها النووية كورقة ضغط وردع ضمناً، فيما هي تصّرح علناً بأنها غير راغبة في ممارسة لعبة الرعب النووي في الشرق الأوسط. وبالتالي، وفق منطق واشنطن، لا مناص من مواجهة ألعاب إيران بكل الوسائل الممكنة لاجهاض شهيتها النووية، قبل أن تعتاد تناول هذا الطبق الخطر. لكن، لماذا هذا التصميم القاطع على قطع أصابع طهران النووية؟ ولماذا، في المقابل، هذا التصميم الايراني على حيازة القنبلة؟ هنا لائحة الأسباب تبدأ وتكاد لا تنتهي. بالنسبة إلى اميركا، التسلّح الايراني سيخل بموازين القوى العسكرية الراهنة في الشرق الاوسط، ويضع القوات الاميركية في العراقوأفغانستان والمنشآت العسكرية الاسرائيلية تحت رحمة الصواريخ غير التقليدية الايرانية. وهو سيخل أيضاً بموازين القوى الاستراتيجية. فالولاياتالمتحدة تضع صراعها مع إيران في إطار اندفاعتها الكبرى بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 للسيطرة على الشرق الأوسط الكبير. وهي تريد استخدام هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة التي تمتد من غرب افريقيا الى جنوب شرقي آسيا، كمنصة انطلاق نحو السيطرة على كل قارة أوراسيا أوروبا - آسيا. وبالطبع، نفط العالم الاسلامي، وموقعه الاستراتيجي الوسيط بين اوروبا وآسيا، يلعبان دوراً كبيراً في حفز هذه الاندفاعة. كتب توماس دونالي، من مؤسسة "أميركان انتبرايز" للأبحاث: "سياستنا تجاه الجمهورية الاسلامية الايرانية يجب ألا تكتب في فراغ أو على ورقة بيضاء. إنها يجب أن تكون في إطار الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط الكبير. والحال أنه مهما كانت نتيجة الانتخابات الاميركية، فإن صيغة ما من "مبدأ بوش"، الذي يستهدف أساساً الحفاظ على النظام العالمي الليبرالي والمستقر والمسالم عموماً الذي نجم عن انهيار الامبراطورية السوفياتية، ستستمر". ويقول باحث آخر من دورية "ويكلي ستاندرد" المحافظة إن "إدارة جون كيري لن تستطيع، حتى لو أرادت، تجنب مسؤوليات والتزامات الدولة العظمى الوحيدة. إذ مهما حاول الديموقراطيون دفن رؤوسهم في الرمال الاستراتيجية، وعلى رغم كراهيتهم الشديدة للرئيس بوش، إلا أنهم لن يستطيعوا تأمين حياة هادئة للولايات المتحدة. وهذا يشمل، على وجه الخصوص، إدعاءات كيري بإمكان العودة الى الأمر الواقع في الشرق الاوسط الكبير، وموازنة نظام قمعي بنظام آخر مثله، إضافة الى تطوير استراتجية شراكة مع الدول الأوروبية مثل فرنسا والمانيا. كل هذا أصبح مستحيلاً في عالم ما بعد 11 أيلول". ليس ثمة، برأي هؤلاء، بديل لمبدأ بوش الهجومي المعنون "استراتيجية متقدمة للحرية في الشرق الأوسط الموسّع". الاستراتيجية الدفاعية باتت غير ممكنة، لأن النظام السياسي الشرق اوسطي لما بعد 11 أيلول في المنطقة كان هو المصدر الرئيس للعدمية والعنف اللذين أديا الى الهجمات الارهابية، وبالتالي يجب تحقيق أهداف مبدأ بوش بالكامل إذا ما أرادت أميركا الحفاظ على زعامتها، وهي: ضرب المنظمات الارهابية الاسلامية والحكومات التي تدعمها، احتواء القوة العسكرية الصينية، ومنع قيام "محور شر" حقيقي بين الراديكالية الاسلامية وبين القوة الصينية الصاعدة. هنا تطل إيران برأسها بوصفها عقبة محتملة في وجه هذا المشروع الكبير، خصوصاً إذا ما امتلكت أسلحة الردع النووي. فهذه القوة الاقليمية تعارض مباشرة مشروع التغيير الاقليمي الاميركي. وهي على رغم العزلة الدولية، والهزيمة المدّمرة في الحرب مع العراق، وانتشار القلاقل الداخلية على نطاق واسع، إلا أنها ما تزال تحتفظ بزخمها الايديولوجي وبقبضتها المحكمة على السلطة. لكن إذا ما كانت ثمة إستمرارية في أهدافها الاستراتيجية والسياسية، إلا أن وسائلها تغيرت بشكل دراماتيكي. فقد اكتشفت طهران أنها غير قادرة على إخراج الاميركيين من منطقة الخليج والشرق الأوسط الاوسع، وانها بعد حربي أفغانستانوالعراق باتت مطوقة بالقوات العسكرية الاميركية من كل جانب. وربما لهذا بالتحديد، أزدادت أهمية الخيار النووي بالنسبة إليها، خصوصاً بعدما اقتصرت جهودها للحد من الدخول الأميركي الى المنطقة على الخيارات التقليدية، مثل توجيه الصواريخ نحو مضيق هرمز، وتعزيز الدفاعات الجوية، وبعدما بات من الصعب عليها القيام بعمليات "إرهابية"، كما كان الأمر قبل العام 1996. ويوضح توماس دونالي أن الخيار النووي الايراني كابوس في حد ذاته بالنسبة إلى الأميركيين. لكن ليس لأن الايرانيين قد يسلمون الارهابيين أسلحة نووية فهذا أمر مستبعد تماماً تقريباً، بل لأن هذا الخيار يهدد بتقييد حركة الاميركيين في الشرق الاوسط الكبير. الخطر هنا هو أن تمد إيران ردعها النووي، سواء مباشرة أو كأمر واقع، الى مجموعة من الدول والمنظمات في كل المنطقة، كما فعلت الولاياتالمتحدة خلال الحرب الباردة. وإذا ما عقد الغرب صفقة مع إيران تحتفظ بموجبها بالأسلحة النووية، فهذا سيقرأ في المنطقة على انه بداية تراجع استراتيجي للزعامة الاميركية في العالم، وتخلٍ عن مشروع الشرق الأوسط الكبير. وحينها ستسعى دول أساسية، مثل السعودية، إلى التأقلم مع طهران كما فعلت في التسعينات، فيما ستفكر دول أخرى، كباكستان، بالتراجع عن السياسات التي التزمت بها امام واشنطن بعد هجمات 11 أيلول. ويحذّر المحافظون الجدد الأميركيون من ان خسارة أميركا لمعركة تجريد إيران من ورقة التسلح النووي، ستكون لها مضاعفات دولية خطيرة. إذ حينها ستكون فرنسا وألمانيا أكثر جراة بما لا يقاس لتحدي النفوذ الاميركي في الشرق الاوسط الكبير، وحتى في أوروبا نفسها. والأخطر ان هذا قد يشجع الصينوإيران على تعزيز تحالفهما الاستراتيجي، الأمر الذي قد يشكل بداية لتحالف أوسع بين العالمين الصيني والاسلامي. وهذا هو الكابوس بعينه لدى صانعي القرار في واشنطن. جهوزية إسرائيلية هذا عن أميركا، فماذا عن إسرائيل؟ ما بات يعرف بالمواجهة الجيو-استراتيجية الشاملة بين إسرائيل وإيران، بدأت فور انتهاء الحرب الباردة العام 1989، وشملت المنطقة الممتدة من جبال آسيا الوسطى والقوقاز الى شواطئ بحر العرب. هذه المواجهة اندلعت حين باشرت الدولة العبرية تطبيق سياسة "مناطق النفوذ" في ما أسماه رئيسا الوزراء الاسرائيليان السابقان إسحق رابين وشمعون بيريز "الشرق الاوسط الجديد". وهو مفهوم أرادا منه إسقاط كل من مفهوم النظام الاقليمي العربي ونظام الشرق الاوسط الاسلامي في الوقت ذاته، لمصلحة مفهوم شرق أوسطي جديد محوره تل أبيب. هذا المسعى حقق نجاحات واضحة في الداخل العربي، بسبب الضعف الشديد للنظام الاقليمي العربي في أعقاب حربي 1967 و1991، لكنه ارتطم بجدار إيراني بسبب رغبة طهران هي الأخرى في التحّول الى القوة الاقليمية الرئيسة في المنطقة. الصدام كان حتمياً. وهو تجلى في البداية في الحرب بالواسطة التي شنتها إيران ضد إسرائيل في جنوبلبنان من خلال "حزب الله"، ثم في فلسطين عبر دعم الأولى لحركتي "حماس" و"الجهاد". لكنه الاشتباك يتخذ أشكاله الأخطر الآن في العراق. فتل أبيب تحركّت بسرعة كبيرة فور دخول القوات الاميركية الى بغداد منتصف العام 2003، لتثبيت أقدامها بين أكراد العراق بهدف تحقيق جملة أهداف دفعة واحدة: 1- مواجهة القوة الشيعية الايرانية والعراقية الناشئة في بلاد ما بين النهرين، بقوة كردية متحالفة مع الدولة العبرية. 2- ترسيخ تقسيم العراق الفعلي الى ثلاث دول، وإشغال كل الدول الاقليمية المحيطة به، خصوصاً إيران، بحروبه الاهلية المنطلقة من فوهة بركان القضية الكردية. 3- استخدام ورقة الأكراد في العراقوإيران، لمساومة إيران على ورقة "حزب الله" في لبنان، كما يرى عن حق المحلل الاميركي كافي أفراسيبي. 4- تحقيق الحلم الإسرائيلي التاريخي بمد خط انابيب نفط من الموصل الى حيفا. 5- وأخيراً، وضع مشروع "إسرائيل الكبرى" موضع التنفيذ، هذه المرة من خلال نافذة "الشرق الاوسط الجديد" أو الشرق الاوسط الموّسع لا فرق. كل هذه الأهداف دقّت، كما هو متوقع، أجراس الانذار بقوة في طهران، التي كانت تتوجس أصلاً من التهديدات التي بات يفرضها وجود القوات الأميركية على حدودها مع العراقوأفغانستان، فإذا بهذا الخطر يتمدد الآن ليصبح أميركياً - إسرائيلياً مشتركاً، تستخدم فيها تل أبيب بكثافة ورقة الأكراد العراقيين والايرانيين لزعزعة الاستقرار السياسي في طهران. والآن، وإذا أضفنا الى نقطة الاشتباك العراقية هذه بين الطرفين، نقاط الاشتباك الاخرى في لبنانوفلسطين وما يسمى بمسائل الارهاب، إضافة الى المسألة النووية، لاتضح مدى خطورة الوضع الراهن. والحال أن مثل هذه الخطورة طفت بقوة على سطح الاحداث في الشرق الاوسط، بعدما صنفّت القيادة الأمنية الاسرائيلية أخيراً للدولة الاسلامية الايرانية على أنها "الخطر الأكبر" على الدولة العبرية، وبعدما أكدت أنها ستحوز على السلاح النووي قبل العام 2007. لا بل يبدو ان تل أبيب باتت مقتنعة بشكل جازم، كما قالت "جيروزاليم ريبورت"، بأن البرنامج النووي الايراني وصل الى مرحلة اللاعودة مخلاً بذلك، وعلى نحو خطير، بموازين القوى لغير مصلحة الدولة العبرية. الحرب والسلام حسناً. إذا ما كانت إيران مصممة على التحرك بخطى سريعة نحو الانضمام الى النادي الذري، وإذا ما كانت أميركا وإسرائيل والغرب مصممون هم أيضاً على منعها من ذلك، فكيف يمكن ان تنتهي هذه اللعبة الخطرة: بالسلم والصفقات، أم بالحرب والغارات؟ معهد "جافي" الاسرائيلي للأبحاث الاستراتيجية، قال في تقريره السنوي الاسبوع الماضي إن "الولاياتالمتحدة جادة في نيتها ضرب المنشآت النووية الإيرانية". وهو نقل عن الدكتور شلومو بروم، أحد خبرائه، بأن "تورط أميركا في العراق، لن يحول دون توجيهها ضربة عسكرية لإيران، وهي قد تقوم بهجوم محدود لا يدمر قدرات إيران النووية، لكنه قادر على المس بها بصورة جديّة". قبل ذلك، وفي 15 أيلول سبتمبر الماضي، نسبت "فاينانشال تايمز" عن محللين قريبين من الادارة الاميركية قولهم إن "تحذيرات واشنطن من انها لن تتحمل وجود إيران نووية، اطلقت نقاشاً حامي الوطيس في الولاياتالمتحدة حول مزايا الضربات العسكرية ضد البرنامج النووي الايراني". وأضاف هؤلاء انه يتم الآن درس الخيارات العسكرية، لكن ذلك لم يصل بعد الى مستوى بدء الاستعدادات الفعلية لتوجيه الضربات العسكرية. حسناً. الاستعدادات الفعلية لم تبدأ، لكن الخطط على ما يبدو باتت جاهزة. فقد نشر مركز الأبحاث الاميركي "غلوبال سيكيوريتي" قبل أيام، سيناريو كاملاً للعمليات العسكرية الأميركية المحتملة ضد إيران تضمنت الآتي: غارات جوية وصاروخية تستهدف دزينتين من المنشآت المشتبه بأنها نووية، بينها مفاعل بوشهر ألف ميغاوات القادر على انتاج ما بين 50 الى 75 قنبلة، ومفاعل ناتانز. الغارات الاميركية ستكون أضخم بكثير من الغارة الاسرائيلية على "مفاعل تموز" العراقي العام 1981. إنها ستكون أكثر شبهاً بالأيام الافتتاحية للحرب الجوية على العراق العام 2003، وستستخدم فيها قاذفات الشبح ستيلث - بي تو التي ستنطلق من دييغو غارسيا أو ستطير مباشرة من الولاياتالمتحدة، ربما برفقة مقاتلات "ستيلث - 117" التي ستنطلق من قاعدة "العديد" في قطر أو من قواعد اخرى في المنطقة. العمليات قد تكون محدودة بهدف تأخير البرنامح النووي الايراني، أو قد تكون أكثر شمولاً فتتضمن أهدافاً أخرى مثل أسلحة الدمار الشامل، والقوات التقليدية وغير التقليدية الايرانية التي يمكن أن تستخدم لشن هجوم مضاد. وإلى هذه الاستعدادات الاميركية، هناك الخطط الاسرائيلية. فالطيارون الاسرائيليون يتدربون منذ فترة غير قصيرة على نموذج لمفاعل "بوشهر" الأيراني في صحراء النقب. والدولة العبرية حصلت أخيراً من أميركا على قنابل ضخمة قادرة على اختراق التحصينات السرية تحت الأرض، وأيضاً على طائرات متطورة من طراز "اف - 15 إي" قادرة على الطيران لأكثر من 4450 كيلومتراً، وطائرات "اف - 161 سوفا" التي يبلغ مداها 2100 كيلومتر والتي تحمل خزانات كبيرة من الوقود. ومعروف ان مفاعلات بوشهر وأصفهان لا تبعد عن إسرائيل سوى 1500 كيلومتر. لكن، سيكون من الصعب على إسرائيل شن الغارات من دون تنسيق مسبق مع الولاياتالمتحدة، بسبب حاجتها لعبور الأجواء العراقية التي يسيطر عليها الاميركيون. لكن، هل ستكون مثل هذه الغارات المحتملة مجرد نزهة سريعة؟ العديد من المحللين الأميركيين لا يعتقدون ذلك. فالإيرانيون نشروا منشآتهم النووية في طول البلاد وعرضها تحت الأرض وفوقها، ولن يكون من السهل على أجهزة الاستخبارات الاميركية والاسرائيلية معرفة الحقيقي منها والمزيف. والأهم أن إيران قادرة على تحويل الحياة الى جحيم للأميركيين وحلفائهم في الشرق الاوسط والعالم.ففي إمكانها زعزعة إستقرار العراقوأفغانستان المزعزعين أساساً، وبالتالي تعريض القوات الاميركية هناك الى أفدح المخاطر. كما في وسعها اشعال الجبهة العربية - الاسرائيلية عبر منح "حزب الله" الضوء الأخضر لالهاب ظهر إسرائيل في الجليل الاعلى وصولاً الى حيفا وتل أبيب بالصواريخ. ثم بإمكانها أيضاً استنئاف ما انقطع من نشاطات "إرهابية" ضد الاميركيين والاسرائيليين في شتى انحاء العالم. وفوق هذا وذاك، ليس مضموناً أن تؤدي الغارات الجوية الى وقف البرنامج النووي، خصوصاً بعدما بات الايرانيون مكتفين ذاتياً في مجالي المعرفة التقنية والمعدات. وهذا يعني أنه إذا ما أرادت الولاياتالمتحدة الاجهاز الفعلي على البرنامج الايراني، فإن العمليات المحدودة لن تكون كافية. قد يكون عليها المضي قدماً لغزو كل أرض فارس واحتلالها. وهذا ليس مشروعاً مغرياً عسكرياً، فإيران بلد شاسع وكثيف السكان وذو طوبوغرافيا وعرة للغاية. الصفقات هذه الصعوبات والمضاعفات، تدفع الآن مراكز القرار والابحاث في الولاياتالمتحدة الى البحث عن وسائل اخرى أقل خطورة وأكثر فائدة. "مجلس العلاقات الخارجية" الاميركي، الذي يتمتع بنفوذ كبير على أصحاب القرار، نشر قبل أسبوعين تقريراً بعنوان: "إيران: حان الوقت لمقاربة جديدة"، اقترح فيه إبرام صفقة مع إيران تستند الى "جزرة" الابقاء على برامجها النووية وفك الحصار الاقتصادي عنها، في مقابل تخليها عن هدف التسلح النووي. ويعدد المجلس المنافع التي يمكن ان تجلبها مثل هذه الصفقة لاميركا، منها أن طهران يمكن أن تلعب دوراً مهماً في تعزيز استقرار حكومة تعددية في بغداد. كما يمكن حفزها على لعب دور بناء في كل من العراقوأفغانستان، خصوصاً أنها تمتلك قدرة على خلق صعوبات مهمة لهذين النظامين إذا ما أستعدياها". ويوصي المجلس الادارة بأن "تتعامل بشكل انتقائي مع إيران لتعزيز الاستقرار الاقليمي. وهذا يتطلب إعادة النظر حيال المقاربة الاستراتيجية إزاء هذه الدولة". وعلى رغم انه يؤيد اندفاعة الولاياتالمتحدة لتحقيق الديموقراطية في الشرق الأوسط الكبير، إلا أنه يدعو الولاياتالمتحدة الى التخلي عن "خطاب تغيير الانظمة"، وعلى رأسها النظام الايراني، لأن ذلك سيثير المشاعر القومية دفاعاً عن النظام، حتى لدى أولئك الذين يعارضونه. هذا التوجه أثار حفيظة المحافظين الاميركيين، الذين اتهموا مجلس العلاقات ومعه المرشح الرئاسي جون كيري الذي يبدو انه يميل الى تأييده، بالتخلي عن مسؤوليات اميركا في الشرق الاوسط والعالم. بيد انهم، بدورهم، لا يبدو انهم يحبذون علناً على الاقل الخيار العسكري. فقد اقترحت مؤسسة "اميركان انتربرايز" الناطقة باسمهم حلاً وسطاً بين "الصفقة الكبرى" المرفوضة وبين الحل العسكري الصعب، يقوم على تطوير الحصار الاقتصادي - العسكري لإيران ليصبح حصاراً ايديولوجياً أيضاً، من خلال مواصلة مشروع إدراة بوش في نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. وتحدد المؤسسة هدفين: الأول، منع إيران من الحصول على دعم قوى كبرى. وعلى رغم ان قطع علاقات إيرانبالصين سيكون صعباً، إلا أن الأمر ليس كذلك مع الهند التي يمكن اغراؤها بقطع علائقها مع طهران في مقابل إقامة تحالف استراتيجي بينها وبين أميركا. أما الهدف الثاني فهو أن تحتفظ الولاياتالمتحدة بالمبادرة في مشروعها الجديد للاصلاح والتغيير في الشرق الأوسط الكبير. فالعزل الحقيقي للنظام الايراني لن يتحقق إلا حين يغرق هذا الأخير في بحر أكبر من الحكومات الليبرالية القابلة للمساءلة في المنطقة. وإذا ما استقرت الديموقراطية في أفغانستانوالعراق، على رغم استمرار أعمال العنف فيهما، فستتعرض إيران الى مخاطر مضاعفة في الداخل. هذا الرهان الأخير أي المضاعفات الداخلية الايرانية ليس تفصيلاً بسيطاً. فإيران تعاني بالفعل من أزمة سياسية تستند الى عدم قدرة أي من الاصلاحيين أو المتشددين على حل التناقض المركزي المتضمن في دستورها، وهو الافتراض بأن المؤسسات المنتخبة يمكن ان تعمل بتناغم مع الاحكام التي يصدرها الفقهاء الدينيون. ومع رحيل الاصلاحيين من المجلس البرلمان قرع الاعلام العالمي أجراس موت الليبرالية في إيران، مقدماً اليمين على انه كتلة من الرجعيين الذين لا فروقات بينهم، لأنهم متوحدو الهدف ومدفوعين بايديولوجيا مغرقة في سلفيتها. لكن، وكما يقول الباحثان الأميركيان راي تاكيه ونيقولاس غوسفيف، حتى أولئك الذين يعلنون ولاءهم للقيم الاسلامية والثورية، يدركون بأن الاخلاص للايديولوجيا وتكرار الشعارات، لا يستطيع أن يحل التحديات الاقتصادية المخيفة التي تواجهها إيران اليوم. فعلى رغم وفرة موارد النفط، لا توفر الجمهورية الأسلامية سوى نصف العمالة التي يحتاجها مليون ساع للعمل الذين ينضمون كل سنة الى السوق. ووفقاً لوزارة العمل الايرانية نفسها، وصلت نسبة البطالة بين من تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً الى 28 في المئة. هذا في حين يقول مركز إيران للاحصاءات إن 41 في المئة من العاطلين عن العمل حاصلون على شهادات ثانوية أو جامعية. وفي استطلاع رأي أخير، حدد 75 في المئة من الايرانيين المشاكل الاقتصادية على انها التحدي الأكثر أهمية الذي يواجه المجتمع. ويعتقد تاكيه وغوسفديف أن هذه الظروف الصعبة سهلّت صعود جناح براغماتي بين المحافظين الايرانيين يطلق عليهم أحياناً "اليمين الجديد". وإذا ما كان الاصلاحيون يشبهون بغورباتشوف، فالمحافظون البراغماتيون يشبهون دنغ هسياو بنغ الصيني. وهؤلاء يدركون الحاجة الى تأقلمات براغماتية في السياسة لضمان بقاء النظام واستمراريته. وعلى وجه التحديد، يطل المحافظون على "النموذج الصيني" بوصفه إصلاحاً اقتصادياً مترافقاً مع بعض درجات الليبرالية السياسية ومع سياسة خارجية براغماتية. وفي هذا السياق، قدرة الصين على تطبيع العلاقات مع الولاياتالمتحدة من دون معاينة أي نوع من تغيير النظام، يدرس باهتمام كبير في طهران. فمثلهم مثل الاصلاحيين، يفهم المحافظون البراغماتيون الحاجة الى التغيير. لكن على عكس الاصلاحيين، ينطلقون من نقطة الحفاظ على النظام القائم اكثر من تغييره. وهكذا، تجنّب المحافظون البراغماتيون إثارة شكوك العناصر المتصلبة والمحافظة، وهي مسألة لطالما ابتلي بها الأصلاحيون. هذا الكادر من رجال الدين البراغماتيين يتجمع حول الرئيس السابق النافذ هاشمي رفسنجاني ورئيس المجلس السابق مهدي كروبي الذي هو الآن مستشار رفيع لدى علي خامنئي. ويجمع هذا الفريق الحرس القديم لثورة 1979 مع مجموعة من التكنوقراط الشبان، بما في ذلك العديد من مديري الشركات ومسؤولي الدولة ورجال الأعمال الصغار. وجميع هؤلاء يهتمون بالنتائج العملية، خصوصاً الحفاظ على النظام، أكثر من اهتمامهم بالنقاشات الايديولوجية - الفقهية. وهذا لا يعني فك اشتباك إيران مع جيرانها المباشرين واللاعبين الدوليين فحسب، بل أيضاً التوصل في النهاية الى طريقة عيش مع الولاياتالمتحدة. وهكذا قال أحمد تافاكولي، وهو نائب محافظ براغماتي بارز يلعب دوراً رئيساً في المجلس: "إننا لا نعتبر العلاقات مع اميركا وكأنها ضرورية بشكل مطلق مثل الصلاة والصوم، ولا محرمة بشكل مطلق كالنبيذ". إذا ما كان بقاء النظام الإيراني يتطلب استثمارات أجنبية وتحسيناً للعلاقات مع الولاياتالمتحدة، فإن المحافظين البراغماتيين مستعدون للقيام بالتأقلمات الضرورية. لكن هل أميركا مستعدة هي الاخرى للقيام بتأقلمات ضرورية، خصوصاً تقديم ضمانات ل"المحافظين الجدد" الايرانيين بأنها لا تستهدف تغيير النظام الايراني أو حتى شن الغارات عليه في مقابل تخليه عن فكرة التسلح النووي؟ أميركا لم تفعل ذلك مع "فلقة" محور الشر في كوريا الشمالية. وهي لا تبدو مستعدة لفعل ذلك مع "فلقة" محور الشر الأخرى، قبل أن ترى النظام الايراني وقد انضوى تحت خيمتها الشرق أوسطية الكبيرة بوصفه حليفاً تابعاً لا نداً متساوياً. وهذا يعني أنها من الآن وحتى اشعار آخر، ستواصل العمل بشتى الوسائل لمنع النظام الايراني من الاستقرار، ولوقف جهوده للحصول على الأسلحة النووية، سواء بالطرق العسكرية أو السلمية. بالعنف أو الديبلوماسية. وفي هذه النقطة بالتحديد ثمة تقاطع بين بوش وكيري. فكلاهما يضعان هدف قطع رأس البرنامج النووي الايراني على رأس جدول أعمالهما، وإن اختلفا في تحديد وسائل تحقيقه. ويبدو أن الأمر سيبقى على هذا النحو حتى ولو امتلكت إيران رسمياً السلاح النووي. إذ أن الولاياتالمتحدة ستعمل حين ذاك على اجبارها على لفظ ما ابتلعته نووياً، كما فعلت سابقاً مع دول نووية اخرى، مثل جنوب افريقيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان. وهنا، ثمة نقطة لا يجب القفز فوقها: أميركا بعد 11 ايلول باتت هي "القوة الثورية" الرافضة للأمر الواقع، فيما انقلبت "الثورة الاسلامية الايرانية" إلى قوة محافظة تعمل للأبقاء على الأمر الواقع. وهذا انقلاب ضخم يجب أن يدفع الى التفكير ملياً بمسألة خطيرة هي: من يمتلك زمام المبادرة الاستراتيجية في الأزمة النووية الايرانية الراهنة، سيكون قادراً على حسم الكثير من نتائجها سلفاً. والأرجح أن بلير حليف أميركا الرئيسي، كان يشير الى الواقعة بالتحديد، حين تحّدث خلال إحدى ليالي شتاء هذ العام بثقة وحزم عن رفضه أو بالأحرى رفض أميركا السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي