هل يكون حاضر أفغانستان، بعد أول انتخابات رئاسية في تاريخها، هو مستقبل الدول العربية؟ وهل ستكون هذه "الافغنة" المحتملة نعمة أم نقمة على الشعوب العربية؟ طريقة طرح هذين السؤالين تشي بكل الالتباسات التي غرق فيها سكان "من المحيط الى الخليج" العرب، وهم يرون المشهد الغريب لملايين الافغانيات والافغان الفقراء، والأميين، والقبليين ما قبل الحديثين، وهم يدلون بأصواتهم متحدين قهر الطقس، وتهديدات "طالبان"، وتحذيرات الاممالمتحدة. "أفغانستان تقترع؟ انها معجزة". صرخ وليام سافاير في "نيويورك تايمز". "لم يعد شيء يهمني الان، بعدما صّوت الشعب الافغاني بالملايين"، هتف الرئيس الافغاني حميد كارزاي. وكذلك فعل كثيرون من المواطنين العرب المشدوهين، الذين تحلّقوا حول أجهزة التلفاز لمشاهدة نسوة بالبراقع، ورجال بالرقع، وهم يسبقونهم الى أقلام الاقتراع، على رغم ان المنطقة العربية تمتلك تجربة شبه ليبرالية و شبهة ديموقراطية مديدة منذ اواسط القرن التاسع عشر الى اواسط القرن العشرين لم يعرفها الافغان طيلة تاريخهم الطويل. الدهشة الممزوجة بالحسرة كانت واضحة هنا. لكن هذه الدهشة كانت أيضاً مثقلة بالتساؤلات الكبيرة والشكوك العميقة: هل هذه "الديموقراطية الافغانية" تؤدي حقاً الى ديموقراطية حقة، أم انها مجرد ديكور متقن هدفه إخفاء ملامح وجه بشع؟ وهي تساؤلات كانت في محلها تماما لسببين رئيسيين: الاول، الطريقة التي جرت فيها الانتخابات في بلاد الافغان. والثاني، الطريقة التي يمكن ان تجري فيها قريباً "الافغنة" في بلاد العرب. لنقارب معاً المسألة الاولى. اللادولة واللاأمة قبل أشهر عدة، كانت الاممالمتحدة تطلق التحذير تلو التحذير من أن أفغانستان غير جاهزة بعد لاجراء انتخابات ديموقراطية حقيقية. الاسباب التي تقدمت بها كانت عديدة : البلاد تفتقر بشدة الى الامن، حيث لا تسيطر القوات الحكومية ومعها قوات حلف الاطلسي، سوى على العاصمة كابول وبعض ضواحيها. اما القوات الاميركية التي لا يتجاوز عددها 20 ألف جندي فهي تتحصن في قواعد عسكرية جنوب البلاد قرب الحدود الباكستانية، لا تفعل شيئاً سوى شن حرب كر وفر ضد تنظيم "القاعدة"، اضافة الى حمايتها للطريق الذي ستمر فيه أنابيب النفط من حوض بحر قزوين. أما بقية أفغانستان فموزعة بالعدل والقسطاس بين أمراء الحرب، وأمراء المخدرات، وأمراء "طالبان". والأخيرون استأنفوا العمل العسكري كالمعتاد تحت سمع القوات الاميركية - الاطلسية وبصرها وبدعم سري من باكستان. الخطر الاكبر على الديموقراطية ليس "طالبان"، بل الميليشيات القبلية والاثنية التي يقدّر عدد أفرادها بأكثر من 130 ألف مسلح مدججين بالرشاشات والصواريخ. هذه الميليشيات، التي هي بقايا حركات المجاهدين التي قاتلت الاتحاد السوفياتي، تعتبر القوة الرئيسة في البلاد. وهي تقيم تحالفات ظرفية مع الاميركيين في مقابل التعاون معهم في الحرب على "الارهاب"، كما تتلقى مئات ملايين الدولارات من الحكومة المركزية في كابول لقاء اعلان ولائها الشكلي لها. كل عمليات السلب والنهب وسرقة المعونات الدولية الضخمة، تتم بإيعاز الميليشيات. وكل زراعة الخشخاش وتجارة الافيون تجري تحت اشرافها، وبغض نظر حتى الآونة الاخيرة على الاقل من الاميركيين. وتقدّر الاممالمتحدة أن 28 من أصل مقاطعات أفغانستان ال32 تنتج الافيون، وتوظف أكثر من 1.7 مليون عامل يعملون على أرض مساحتها 200 ألف فدان. وقد وصل انتاج البلاد من الافيون العام 2003 الى 3600 طن، أي ثلاثة أرباع الانتاج العالمي. ويقال ان شقيق الرئيس حميد كارزاي، أحمد والي كارزاي الذي أدار حملته الانتخابية، ينتمي هو أيضاً الى خانة أمراء الحرب والمخدرات. زعماء الميليشيات لا يخفون نيتهم السيطرة على السلطة، عبر هيمنتهم على البرلمان الذي يفترض أن تجري الانتخابات لاختيار أعضائه الربيع المقبل هذا إذا لم تؤجل مجدداً. ويونس قانوني، أحد أقطاب أمراء الحرب ومنافس كارزاي الرئيسي على منصب الرئاسة، كان يدرك على ما يبدو ان هذا ما ستكون عليه الحال قريباً، إما بسبب تهديد الميلشيات للناس بالقتل إذا لم يصوتوا لهم، او لأنهم سيشترون الاصوات. ولذا فهو قرر ببساطة تبني "قضيتهم" بالكامل. نقطة البداية بالنسبة الى قانوني كانت رفضه تسمية أمراء الحرب بهذه الصفة. قال ان علينا ان نقول انهم "المجاهدون الذين وقفوا ضد السوفيات وضد الارهابيين وضد طالبان". وبعدها كان طبيعيا أن يطالب أن يكون هؤلاء الأمراء في البرلمان والحكومة، وان يكون هو في منصب الرئاسة بالنيابة عنهم. لكن ليس هذا ما تريده الغالبية الكاسحة الافغانية. فقد أكد استطلاع أجرته مؤسسة "كير"، أن 88 في المئة من الافغان يريدون تقليص قوة أمراء الحرب، وان 66 في المئة منهم يعتبرون ان تجريد الميليشيات من سلاحها خطوة ضرورية لاستعادة الأمن والاستقرار. وعلى أي حال، لم ينس الشعب الافغاني بعد ان الحرب الاهلية، التي نشبت غداة اطاحة حكومة محمد نجيب الله، بين مختلف الميليشيات التي كان يطلق عليها اسم "تنظيمات المجاهدين"، أسفرت عن مقتل اكثر من 100 ألف شخص، وجرح نصف مليون، وتهجير أربعة ملايين نسمة، اضافة بالطبع الى تدمير البلاد ونهبها. واحتمال نجاح هؤلاء الآن في السيطرة على السلطة المركزية اضافة الى سيطرتهم الفعلية على باقي المقاطعات، يثير القشعريرة في أبدان الجميع. وعلى سبيل المثال، يقول اندرو وايلدر، رئيس وحدة الابحاث الافغانية : "إذا لم ننزع سلاح الميليشيات، فسنحصل على الوجوه نفسها في البرلمان. وإذا وصل هؤلاء الى البرلمان، فعلينا جميعاً ان نحزم حقائبنا ونستسلم". لماذا لا يتم نزع سلاح الميليشيات؟ حكومة كارزاي قالت مراراً انها تنوي فعل ذلك. لكنها في الواقع لم تنجح سوى في "اقناع" 9 آلاف منهم بتسليم أسلحتهم التي حصلوا على غيرها لاحقاً من أمرائهم!. لكن، حتى لو كان كارزاي يريد، فهو غير قادر على تنفيذ هذه الخطوة. وحدها القوات الاميركية وقوات حلف الاطلسي في وسعها فرض الاستسلام السياسي والعسكري على أمراء الحرب. لكنها هي الاخرى لا تفعل. لماذا؟ ادوارد غيرادت، مؤلف كتاب "أفغانستان: حرب السوفيات"، يرد على هذا السؤال بتسجيل الملاحظات الآتية: اميركا تكرر حرفياً ما فعلته في الثمانينات حين مولّت وسلحّت المجاهدين الذين يقاتلون السوفيات، ثم تركت أفغانستان لمصيرها بعدما حققت أهدافها. وهي الآن تركّز على مقاتلة "الارهاب" غير عائبة بمصير الشعب الافغاني. دول حلف الاطلسي التي يفترض ان تقود عملية السلام في أفغانستان، تحذو حذو واشنطن خطوة خطوة. فهي تعلن انها تريد توسيع سيطرة حكومة كابول على مناطق اخرى، لكنها ترفض في الوقت ذاته تنفيذ أي من وعودها. هذه المعطيات التي سبقت الانتخابات، ترجمت نفسها بشكل أسوأ خلال الانتخابات وبعدها. فقد تبيّن أن: 1- القوائم الانتخابية التي وصلت الى الرقم 10.5 مليون ناخب، من بينهم اكثر من 41 في المئة من النساء، استندت الى احصاء 1979 قبل الحرب التي قتلت مليوني "ناخب"، وشردت نحو ثلث "الناخبين" أي ثلاثة ملايين. 2- 30 في المئة من اجمالي الناخبين، سجلوا أنفسهم مرات عدة. لا بل قيل ان بعضهم سجل اسمه مئة مرة. وهذا ما جعل بعضهم يصف الانتخابات بأنها تمت على أساس "اقترع باكراً... وغالباً"! 3- انه تم تسجيل الاطفال والاجانب أيضاً كناخبين، خصوصاً في المقاطعات الجنوبية - الشرقية. وهكذا وصل عدد المسجلين في مقاطعة باكتيا الى 170 في المئة. 4- وعلى رغم احتجاج منافسي كارزاي ال19 على تزوير حبر البصمات، إلا ان طلبهم بوقف الانتخابات لتغيير الحبر رفض. وهكذا استعمل مئات الالاف من أنصار كارزاي أصابعهم بحيوية ونشاط للتصويت مرة، بعد مرة، بعد مرة. 5- ثم أخيراً، يعتقد على نطاق واسع ان الاميركيين بذلوا ضغوطاً كبيرة على منافسي كارزاي لحملهم على وقف مطالبتهم بإلغاء الانتخابات. وهذه كانت العصا. اما الجزرة فكانت وعوداً شهية لهؤلاء بمناصب وزارية وإدارية دسمة لاحقاً. تراث افغانستان قد يقال ان كل هذه المعطيات، على خطورتها، لا تؤثر في اهمية الحدث ومضامينه وأبعاده. فالمهم ليس الانتخابات بحد ذاتها، بل الفلسفة الكامنة خلفها: الديموقراطية. فهل سهل ان يعمل الافغان على تسوية خلافاتهم بأقلام الاقتراع بدل أسنة الرماح؟ وهل كان احد ليتوقع أن تخوض أفغانستان انتخابات حرة ونزيهة، وهي منغمسة منذ أكثر من 25 عاما في حمأة حروب داخلية وخارجية مدمرّة، ومن دون أن تمتلك أي تراث ديموقراطي حقيقي؟ كل هذا صحيح. لكن الصحيح أيضا أن ما جرى لم يكن انتخابات تؤدي الى ديموقراطية، بل هي انتخابات ستؤدي فقط الى زيادة الاصوات المقترعة للرئيس بوش في أميركا. الافغان او بالاحرى من تم تسجيل أسمائهم اقترعوا لأن بوش أراد استثمار صورهم وهم يقترعون في حملته الانتخابية. وهم اقترعوا على رغم ان الاممالمتحدة حذرّت من أن هذا التطور سيرتد سلباً على مستقبل الديموقراطية في البلاد. كان يفترض ان تكون الانتخابات حصيلة بناء الدولة - الأمة الافغانية، وإنهاء سلطة امراء الحرب والأفيون ومافيات اللصوص التي تسيطر على كل البلاد عدا العاصمة كابول، فإذا بها تأتي لتكرّس "شرعية" هؤلاء على حساب حكومة الدولة - الامة المركزية. واشنطن وضعت عربة الانتخابات قبل حصان مشروع بناء الدولة الافغانية. وسيكون طبيعياً أن تكون الحصيلة رئاسة "ديموقراطية" من فوق لا تملك ولا تحكم إلا النذر القليل، وسلطات ميليشياوية استبدادية من تحت تملك وتحكم القدر الكبير. التساؤلات والشكوك العربية، إذاً، مشروعة. فتطبيق هذا النمط الافغاني على المنطقة العربية، سيؤدي كما في النموذج اللبناني الى تأبيد سلطة أمراء الحرب والطوائف والقبائل، والى منح شراهتهم في ضرب مقومات القانون والدولة شرعية قانونية، وشهيتهم المطلقة للنهب والفساد غطاء دوليا. والحال أن عملية بناء الديموقراطية قبل بناء الدولة - الأمة او على الاقل قبل بناء الدولة، أمر لا سابق له في التاريخ. فالدولة الحديثة نشأت اولا، ولحقتها الامة ومن ثم الثورة الدستورية والقانونية، وبعدها فقط الديموقراطية الحقيقية. هذه الحقيقة كان يعتقد قبل الانتخابات الافغانية بأنها هي التي تسيّر صانعي القرار ومنظّريه الاميركيين. ففريد زكريا مدير تحرير "فورين أفيرز" على سبيل المثال، كتب مباشرة بعد 11 أيلول سبتمبر 2001 مقالا بعنوان "كيف ننقذ العالم العربي" قال فيه: "إذا ما كان من الصحيح أن الانظمة العربية استبدادية وديكتاتورية، فإن المجتمعات المدنية العربية ليست أفضل من أنظمتها. فهي غير ليبرالية وقد تنحاز في لعبة الانتخابات الحرة الى الاصوليات المتطرفة التي لا تؤمن بالديموقراطية أو بالتداول الديموقراطي للسلطة". الترياق الذي اقترحه زكريا آنذاك هو نقل المجتمعات العربية من المرحلة الاقطاعية الى المرحلة الرأسمالية عبر تطبيق القواعد الرأسمالية الخاصة بحكم القانون وحرية السوق والحقوق الفردية وحماية الملكية الفردية واستقلال القضاء وفصل الدين عن الدولة. وهذه كلها، برأيه، تمهيدات ضرورية وطبيعية لظهور الديموقراطية. بكلمات أوضح: هذا الباحث الاميركي ذو الاصول الهندية، يدعو الى بناء الدولة الدستورية كتمهيد لاطلاق الدينامية الديموقراطية. بيد ان هذه المقاربة العلمية الموضوعية، التي ترسي العملية الديموقراطية على أسس مؤسساتية سياسية واقتصادية وفكرية راسخة، لم ترق، على ما يبدو، لبعض اصحاب القرار الاميركيين لأسباب آنية واضحة، وأخرى بعيدة خفية. الاسباب الانية هي استخدام مبدأ الحرية وشعار الديموقراطية كسلاح في المعارك السياسية الداخلية في الولاياتالمتحدة. وهل كان هناك أثمن دعاية انتخابية للرئيس بوش من تلك التي وفّرتها صور الناخبين والناخبات الافغان؟ اما الاسباب الابعد، فربما تكمن في عدم وجود نية أميركية حقيقية في ادخال الديموقراطية الحقيقية الى العالم العربي، خصوصاً إذا واصلت واشنطن سياستها الراهنة في بناء ديموقراطية من دون أرجل قانونية وحقوقية واقتصادية وامنية كما في أفغانستان، والاهم : من دون نخب سياسية وطنية محلية تضع مصالح بلادها واستقلالها القومي فوق مصالح الهيمنة الاميركية، ولا تكون "موظّفة" كما هي الحال الان في أفغانستان والعراق معا لدى وكالات استخبارات أميركية. وهذه النقطة الاخيرة تبدو أكثر اهمية بما لا يقاس في المنطقة العربية أكثر من أي منطقة اخرى، لأسباب قومية ودينية وتاريخية في آن. فالديموقراطية في العالم العربي لن تستقيم، حتى ولو كانت لها قوائم القواعد الرأسمالية، إذا ما واصلت أميركا السماح لاسرائيل بحرية العربدة في فلسطين، وإذا ما أصّرت الدولة العبرية على تعيين نفسها ممثلاً شرعياً وحيداً للمشروع الديموقراطي الاميركي في الشرق الاوسط. وحتى الآن، يبدو ان الامر على هذا النحو. فغداة التوقيع على وثيقة جنيفالفلسطينية - الاسرائيلية، سارع كريستوفر كالدويل، كبير محرري دورية "ويكلي ستاندارد" اليمينية المحافظة ذات النفوذ الكبير على البيت الابيض، الى القول ان هذه الوثيقة "تشكّل تهديدا للديموقراطية". لماذا؟ لأنها، وعلى رغم كونها مصدراً جديداً للامل بالسلام، حاولت القفز فوق حكومة ارييل شارون المنتخبة ديموقراطياً من جانب غالبية الاسرائيليين. ويضيف: "حتى لو ان الجدل النشط الذي أثارته اتفاقية جنيف يدفع السلام الى أمام، إلا أن هذا يحدث على حساب الديموقراطية. وكما هو معروف، الديموقراطية الاسرائيلية هي أفضل ضمان بعيد المدى للسلام الشرق الاوسطي". لو أن هذا التعليق جاء في ظروف أخرى، لما احتاج الى أي وقفة مطّولة أمامه. فالمحافظون الجدد الاميركيون برروا دائما تحالفهم الاستراتيجي مع اسرائيل بدوافع ايديولوجية، تبدأ من الديموقراطية وتنتهي بوحدة التراث الثقافي المسيحي- اليهودي. بيد ان الظروف ليست كذلك. فالجدل يجري الان على قدم وساق في الولاياتالمتحدة حول العلاقة بين الديموقراطية والسلام في الشرق الاوسط. والميزان حتى اللحظة يميل بقوة الى منح الاولوية للأولى على الثاني. هذا كان جوهر خطاب الرئيس بوش الاخير أمام الصندوق القومي للديموقراطية. وهذا ما تمارسه الادارة الاميركية عمليا، حين تشترط تحقيق اصلاحات سياسية فلسطينية في ظل الاحتلال. لا بل هذا كان أيضا التوّجه الرئيس في "المبادرة الشرق أوسطية الاوسع" الاميركية، والتي تتضمن تشكيل منظمة شبيهة بمنظمة التعاون والامن في اوروبا للإشراف على نشر الديموقراطية في المنطقة. وكانت كوندوليزا رايس، مستشارة الامن القومي، ردّت على سؤال عما إذا كانت هذه المبادرة تتضمن حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، بقولها : "ان هذا الصراع مجرد تبرير للأنظمة في المنطقة كي تجّمد الاصلاحات السياسية". وهذا يعني، بكلمات اوضح، أن الولاياتالمتحدة ربما تفّكر الان بدفع المنطقة العربية، شعوبا وانظمة، الى القفز مما هو ايديولوجي وطني وقومي الى ما هو سياسي الديموقراطية والحريات، والى تجاوز ما تعتبره، وفق "نيويورك تايمز" مبالغة عربية في الاهتمام بالقضية الفلسطينية. هل لمثل هذا التوّجه الاميركي حظ من النجاح؟ كلا على الارجح. والاسباب كثيرة. فالشعوب العربية لن تستطيع، أولاً، الانقلاب على أنظمتها المحلية، طالما أن ذلك يبدو تلبية لمشيئة خارجية. وهي لن تنجح، ثانياً، في الانحياز الى "محررها" الديموقراطي الاميركي، طالما ان ألوان طيف هذا المحرر متشابكة بقوة من ألوان طيف المحتل الاسرائيلي. وهي ستبقى، ثالثاً، وثيقة الصلة عاطفياً بقضية فلسطين، مهما بذلت اميركا من محاولات لاحلال العقل السياسي الديموقراطي مكان الانفعال الايديولوجي القومي. وكي لا تبدو هذه الاستنتاجات مجرد افتراضات معلّقة في الهواء، يكفي التدقيق في استطلاعات الرأي الدورية التي تجريها الفضائيات العربية، التي تظهر كلها انحياز "الجماهير" العربية الواضح في هذه المرحلة الى كل ما هو وطني - قومي على كل ما هو ديموقراطي - اصلاحي. هذا لا يعني ان الشعوب ترفض الاصلاح. كل ما هنالك أن لها جدول أعمال مختلفاً، بأولويات مختلفة. وبالتأكيد، جدول الاعمال هذا يتناقض حرفاً بحرف مع ذلك الذي يطرحه كريستوفر كالدويل وباقي المحافظين الجدد، والذي يجّسد أسوأ الكوابيس العربية : تعيين اسرائيل مترجماً محلّفاً وحيداً للديموقراطية في الشرق الاوسط. أزمة دول اضافة، ثمة عقبة أخرى في طريق الديموقراطية لا تقل أهمية، وهي مواصلة الشعوب العربية رفضها محض الشرعية ل"الدول - الامم" التي أقامتها اتفاقية سايكس - بيكو قبل نحو مئة عام في المنطقة. صحيح أن نصف القرن الماضي شهد ولادة نبضات وطنية في لبنان وسورية وفلسطين والكويت والعراق وبالطبع مصر، إلا ان هذا لم يتطور الى نزعة "قومية" محلية متكاملة، لأسباب ثقافية - ايديولوجية وطبقية - اقتصادية في آن. وبالتالي، أي ديموقراطية في دول المنطقة لا تسبقها القواعد الرأسمالية الضرورية لها، قد تدفع في النهاية إما الى تشظي الدول العربية الراهنة الى مكوناتها الطائفية والقبلية، او الى بروز تيارات شعبية قوية تدعو مجدداً الى تجاوز الدول الراهنة وإقامة دولة عربية واحدة، وان كانت دولة ديموقراطية فيديرالية هذه المرة، لا اندماجية استبدادية. كما ثمة احتمال أيضاً بأن يبرز هذان التطوران معا بشكل متزامن وهذا هو الأرجح. والحال أن الغرب الاميركي واسرائيل لن "يحزنا" كثيرا من التشظي، خصوصاً إذا ما كانت الحركات القومية التوحيدية الجديدة ضعيفة. ففي النهاية، شرق اوسط عربي - إسلامي مفتت الى وحدات صغيرة ومتناحرة، سيكون أسلس قياداً واكثر مطواعية. والنموذج الافغاني ممتاز، حيث تتحالف اميركا مع أمراء الحرب في الشمال لمقاتلة أمراء الحرب في الجنوب والشرق، فيغرق الجميع في حرب اهلية دائمة تفتت البلاد وتمنع تصويب البنادق نحو صدور الاميركيين. ثم تأتي بعد ذاك الانتخابات لتضفي مسحة عقلانية وانسانية على وضع فوضوي لا عقلاني ولا انساني. الانتخابات الافغانية ستكون، إذاً، من الآن وحتى فترة غير قصيرة، على شاشة رادار الانظمة العربية، وعلى شاشات تلفزيون الشعوب العربية. الطرفان سيقرآنها من الزاوية التي تهمهما. والطرفان سيجدان فيها وهنا مفارقة الالتباسات ايجابيات وسلبيات بالنسبة اليهما. والارجح أن مثل هذه الالتباسات، الذي يعود سببه أصلاً الى ضبابية والتباسات المشروع الديموقراطي الاميركي نفسه في الشرق الاوسط، وجد ليبقى، وسيبقى