كانت دليلتي في لينينغراد طالبة جامعية تدرس الأدب الانكليزي وتعمل في أوقات فراغها وأيام عطلتها في مصلحة السياحة، ترافق السياح الذين يتوافدون على مدينتها الجميلة بعشرات الألوف سنوياً. ولم تكن هذه زيارتي الأولى لعاصمة "بطرس الأكبر" التي بناها لتكون، على قوله "نافذة روسيا على الغرب". فقد زرتها قبل ذلك مراراً وكلما أتيحت لي الفرصة لذلك خلال السنوات الثلاث التي قضيتها في موسكو. وكنت قد متعت ناظري بمعالمها الجميلة، وجوّلت في شوارعها العريضة، وطوّفت في "ساحة الديسمبريين"، طلائع الثوريين في روسيا، وتأملت تمثال بطرس الأكبر على صهوة جواده المطهم الذي يقوم في وسطها منتصباً على ساقيه الخلفيتين، ذلك التمثال الذي أوحى لبوشكين - شاعر روسيا الأكبر - بقصيدة من أروع قصائده، وهي القصيدة المعنونة: "الفارس النحاسي". وناجيت "القصر الشتوي" معقل القياصرة والأباطرة، وخارت قدماي في متحف "الارميتاج" وقاعاته التي لا أحسبها تعدّ أو تنتهي، ذلك المتحف الذي يباهي به الروس كما يباهي الفرنسيون ب"اللوفر". واعتليت البارجة "اورورا" التي أطلقت أول قنبلة ايذاناً بالثورة الروسية، وترسو الآن في ساحل لينينغراد وتتمايل خيلاء، كقائد عسكري متقاعد لا يفتأ يتحدث عن انتصاراته في الحرب التي خاضها قبل خمسين سنة. وزرت مراراً ضاحية بيترهوف وهي من لينينغراد بمثابة فرساي من باريس، اتخذ منها بطرس الأكبر مصيفاً له. وبنى فيها قصراً جميلاً، وركب في حدائقها الغناء خمسمئة نافورة مختلفة الأحجام والأشكال. اما في هذه المرة فقد كنت معتزماً تحقيق رغبة طالما نازعتني كلما زرت هذه المدينة، وما وجدت الى تحقيقها من قبل سبيلا، وهي زيارة قصر الأمير يوسوبوف، وقبر الشيخ محمد عياد الطنطاوي. وبهتت الدليلة لهذا السائح الغريب العازف عن زيارة تلك المعالم التي يقصدها السياح من كل فج عميق، ليزور قصراً مهجوراً ومقبرة. اما قصر يوسوبوف فهي تعرفه، ومن السياح الذين لهم شيء من الإلمام بتاريخ روسيا الحديث، من يسألها عنه أحياناً، وأهميته التاريخية تكمن في انه كان مسرح المؤامرة التي دبرت لقتل راهب روسيا الأسطوري وقيصرها غير المتوج راسبوتين. أما الشيخ الطنطاوي فلم تكن قد سمعت به قط، ولا هي تعرف من يكون أو تدري أنه يرقد في المدينة التي ولدت فيها وعاشت طيلة حياتها. فأخبرتها انه شيخ أزهري يرقد في مقبرة التتر المسلمين في قرية فولكوفو القريبة من لينينغراد. فذهبت الى مكتب الاستعلامات السياحي تسأل من يدلها على مكان هذه المقبرة، ثم عادت ولا تزال سمات الاستغراب على شفتيها المزويتين وحاجبيها المرفوعين. وفي طريقنا بالسيارة الى فولكوفو سألتني دليلتي الشابة: "من هو هذا الشخص الذي تفتش عن قبره؟"، فأجبتها: "انه عالم أزهري دعته نظارة الخارجية القيصرية سنة 1840 ليدرّس اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية في سانت بطرسبرغ فبقي فيها اثنتين وعشرين سنة ثم توفي ودفن هنا". فقالت: "وهل أنت من أقربائه أو احفاده؟". قلت: "كلا، فهو مصري وأنا عراقي". قالت: "ولماذا تريد زيارة قبره اذن؟". قلت: "لقد قرأت الكثير عنه، وفي نفسي رغبة لمشاهدة قبره الذي اكتشفه واحد من كبار اساتذتكم، هو المستشرق العلامة كراتشكوفسكي". فهزت كتفيها ولم تجب. ولا أحسبها كانت تعرف من هو كراتشكوفسكي. وكان أول عهدي بالشيخ الطنطاوي مقالة كتبها القصصي الكبير محمود تيمور في مجلة "الرسالة" سنة 1935 عن المستشرق كراتشكوفسكي قال فيها: "في عصر يوم من الأيام ذهبت لزيارة المرحوم والدي بمنزله الخاص بالزمالك، حيث كان يسكن وحيداً بين كتبه معتزلاً العالم. دخلت عليه في حجرة عمله فوجدته أمام مكتبه بين أكوام من الكتب والدفاتر شأنه دائماً يطالع ويقيد. فلما أحس بوجودي رفع رأسه وأزاح نظارته ودعاني الى الجلوس. ووقع نظري على صورة لقبر اسلامي كانت ضمن الأوراق العديدة التي يزدحم بها مكتبه. فسألته، فابتسم وقال هذه صورة قبر الشيخ الطنطاوي المدفون في روسيا. وعجبت لأمر هذا الطنطاوي الذي اختار بلاد الروس مدفناً له. فاستوضحته الأمر، فأخذ يحدثني عن هذا العالم المصري الذي نزح الى روسيا في العصر الماضي ليدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبرغ كما كان اسمها في ذلك العهد وكيف أقام فيها حتى وافاه الأجل فدفن فيها. ثم كيف قام اليوم من بين الأساتذة المستشرقين من يعنى بهذا العالم المصري فيحقق أمره ويؤلف رسالة عنه تخليداً لذكراه" الرسالة، العدد 93، القاهرة، 1935، ص 619. ويروي معاصرو الشيخ الطنطاوي أنه "كان من أعاظم علماء الأزهر المتبحرين في علوم الأدب، وصاحب التآليف العديدة، والشعر الرقيق. وكان توجه الى بلاد الروسية وأقام فيها... وانه كان في المدرسة الكبرى يريد الجامعة وفي ديوان الخارجية بسان بطرسبرغ، معظّماً غاية التعظيم، محترماً الى النهاية، مرتباً له معاش عظيم، وكان له ولد وزوجة، وانه مات في سنة 1862..." "أمين فكري باشا: ارشاد الألبا الى محاسن أوروبا" مطبعة المقتطف، القاهرة، 1892، ص 609 610. ولد الشيخ محمد عياد الطنطاوي في قرية انجريد القريبة من طنطا في سنة 1225ه 1810م، ودرس في طنطا ثم انتقل الى القاهرة ودرس في الجامع الأزهر على يد كبار أساتذته في ذلك العهد، وانتهى الى التعليم في الأزهر وقضى فيه نحو عشر سنوات. وبدأ الطنطاوي رحلته على النيل الى الاسكندرية، ثم ركب البحر للمرة الأولى على باخرة نمسوية، فوصل الى جزيرة كريت ومنها الى ازمير فاسطنبول، ثم الى ميناء اوديسا على البحر الأسود، ومنها سافر براً الى كييف وأخيراً وصل الى بطرسبرغ بعد سفر دام ثلاثة أشهر ونصف شهر، قضى نحو شهرين منها في المحجر الصحي الذي كان يسمى: "الكرنتينة". واتسع ميدان عمل الطنطاوي بعد وصوله الى روسيا، فشمل الجامعة أيضا، اذ عيّن استاذاً في العام 1847، وكان يدرس اللغة العربية والادب العربي والتاريخ الاسلامي، ومارس التدريس في روسيا خمسة عشر عاماً حتى عام 1857 حين نكب في صحته، وأصبحت حياته في همود مستمر بعدما أصيب بشلل في قدميه سامه كثيراً من العذاب، وقررت الجامعة تخصيص راتب تقاعدي له لمناسبة مرور عشرين سنة على خدمته في مجال البحث والتعليم في روسيا، حتى توفي في 29 تشرين الأول اكتوبر 1860 عن خمسين عاما، تاركاً ميراثاً خطياً قيماً تعتز به خزانة الكلية الشرقية في جامعة لينينغراد. ويبلغ عدد مؤلفاته 150 كتاباً وبحثاً، وله شعر كثير معظمه في مدح القيصر الروسي نيقولا وزوجته وولي عهده، على غرار قصائد الشعراء العرب القدماء في مدح الخلفاء. كان الطنطاوي متزوجاً من سيدة اسمها "ام حسن" وقد توفيت قبله تاركة ولدهما الوحيد الذي اسموه احمد. وقد طلب الطنطاوي في 17 تشرين الاول اكتوبر 1860 ان يقبلوا ابنه في القسم الداخلي لاحدى المدارس الروسية على حساب الدولة بسبب وفاة زوجته. وبعد وفاة الطنطاوي توسط عميد المدرسة الداخلية لدى الحكومة الروسية لابقاء معاشه لابنه الشاب احمد الذي استوطن روسيا. وقد قدم طلباً الى السلطات الروسية بوصفه من التبعية العثمانية للحصول على التبعية الروسية. ويبدو انه كانت للطنطاوي حفيدة اسمها هيلانة ولدت ونشأت في روسيا، واصبحت روسية لا تعرف عن جدها الا القليل. وقد وضع المستشرق الروسي الكبير كراتشكوفسكي كتاباً قيماً في سيرة الشيخ الطنطاوي نشر في سنة 1929، ضمنه ما له من جهود، وما اخرج من انتاج ثقافي وادبي، واوضح مدى اطلاعه على المراجع العربية. وقد اضطلعت بترجمة هذا الكتاب الى العربية تلميذته الوفية كلثوم عودة فاسيليفا وهي سيدة فلسطينية من الناصرة، كانت مساعدة لكراتشكوفسكي وقضت معظم حياتها في تدريس اللغة العربية في لينينغراد وموسكو، وكانت تلقب ب"ام المستعربين الروس" لكثرة طلابها بينهم. ونقل كراتشكوفسكي مقالة طريفة نشرتها جريدة "اخبار سانت بطرسبرغ" في 22 آب اغسطس سنة 1840 عن الشيخ الطنطاوي تبدأ بهذه العبارة: "تسألني من هو هذا الرجل الوسيم في حلته الشرقية وعمامته البيضاء، ولحيته السوداء كالقطران، وعيونه الحية الزاخرة بالنار، ووجهه المعبر الذكي المحترق، لا بشمسنا الباهتة. لقد قابلته انت مرتين من قبل يسير مختالاً على الجانب المشمس من شارع نيفسكي الرئيسي. وانت كعضو دائم في شارع نيفسكي الرئيسي، في ذلك الهواء الجميل سرعان ما تراه ولا بد انك تريد ان تعرف من هو". ويذكر الكاتب انه الشيخ محمد عياد الطنطاوي. ثم يختم مقاله قائلاً: "الآن تستطيعون تماماً ان تتعلموا التحدث بالعربية من دون ان تغادروا بطرسبرغ" كراتشكوفسكي، مع المخطوطات العربية، موسكو ص 228. وعفرنا اقدامنا في مقبرة فولكوفو، ومعظم الراقدين فيها من المسلمين التتر، بحثاً عن مرقد الشيخ الطنطاوي، حتى وجدتنا امام نصب من المرمر كتب عليه كتابة عربية وروسية. وكان الجانب العربي يقرأ كالآتي: "هذا مرقد الشيخ العالم محمد عياد الطنطاوي، كان مدرس العربية في المدرسة الكبيرة الامبراطورية في بطرسبرغ وتوفي في اول شهر جمادي الثاني سنة 1278 من الهجرة عن خمسين سنة". ووقفت أتأمل هذا القبر النائي في البلد الغربي، ورفعت يدي اقرأ الفاتحة على روح هذا العالم الجليل الذي اغترب عن وطنه قبل مئة وخمسة وعشرين عاماً في خدمة اللغة العربية، وحانت مني التفاتة الى دليلتي، فاذا بها تنظر اليّ فاغرة فاهها، متعجبة لمنظري رافعاً يدي اتمتم بما لا تفهم. ولما فرغت سألتني: "هل كنت تصلي عليه؟". ورأيت ان اتفادى الخوض في شرح طويل، وقد اتعبني السير، فقلت: "نعم". فقالت: "وهل أنت من رجال الدين!". قلت: "ليس في الاسلام رجال دين ورجال دنيا، وكل انسان هو رجل دين ورجل دنيا في وقت واحد". فهزت كتفيها، وزوت شفتيها، ورفعت حاجبيها من جديد، ولا أحسبها فقهت شيئاً مما أقول. وفي شارع نيفسكي ودعت دليلتي شاكراً، وغالب الظن انها عادت لتحدث رفيقاتها عن هذا "السائح" الغريب، وعن الشيخ الطنطاوي الذي سمعت عنه اليوم للمرة الأولى. وسرت متجهاً الى فندقي في الشارع نفسه الذي كان يسير عليه مختالاً ذلك الرجل الوسيم، في حلته الشرقية، وعمامته البيضاء، ولحيته السوداء، وعينيه الزاخرتين بالنار، ووجه المحترق بشمس طنطا، قبل قرن كامل وربع قرن من الزمان