فقراء في لندن؟ نعم. لكن للفقر أنواعاً وأشكالاً. فهم لا يقولون "لله يا محسنين" بالضرورة في شوارع العاصمة البريطانية، ولا ينامون في ردهات المحلات مع المخمورين والمدمنين، لكنهم قد يعيشون في عمارات سكنية لا تخلو من جرائم بصفة شبه يومية، وقد يعملون أعمالاً شاقة في مقابل أجور بخسة، وقد يجدون أنفسهم من دون عمل، ومن دون هوية في أكبر مدن أوروبا على الاطلاق. فلندن هي المدينة الأكبر من حيث عدد الأعراق والاثنيات فيها. عدد اللغات التي يتحدث بها سكانها يتجاوز ال200. وجميع الأديان الرئيسية ومعظم "الفرعية" ممثل فيها. وهذا ليس غريباً، فنحو 30 في المئة من سكانها هم الأجيال الأولى والثانية والثالثة للمهاجرين. ويؤكد بعضهم أن أصول نحو 75 في المئة من سكانها تعود الى اللاجئين الفرنسيين البروتستانت المعروفين ب"الهيوغونو" Huguenot. وإذا كان مقصد السياح والباحثين عن الترفيه في لندن هو "الطرف الغربي" أو West End حيث المسارح ودور السينما والمطاعم والملاهي الليلية، فإن "الطرف الشرقي" أو East End هو ملجأ الفقراء واللاجئين والباحثين عن "فرصة حياة" في تلك المدينة الصاخبة. انه "طرف النقيض" ل"الطرف الغربي". يخفف القطار من سرعته وهو يقترب من محطة Aldgate East في شرق لندن، ويتوقف ليترجل كل من هو ذو ملامح آسيوية داكنة من العربات. للمحطة مخارج عدة، لكن جميع اللافتات توضح الاتجاه الى "بريك لين" Brick Lane. الطريق الى "بريك لين" أشبه بجزءي فيلم "العودة الى المستقبل". فالجزء الأول من الفيلم عاد بالبطل الى الحياة قبل نحو نصف قرن، بينما ركض به الجزء الثاني الى الحياة بعد نصف قرن. في شارع "وايت شابيل" العريض، تمتزج البنايات المهجورة ذات النوافذ المهشمة واللافتات التي أكل الصدأ بعضها وعششت العناكب على بقيتها، مع الأبراج الزجاجية للشركات العملاقة المتعددة الجنسية في تناقض فج. وكلما اقترب المرء من منطقة "بريك لين" لا يسعه إلا أن يلاحظ شيئين: انتشار "الغرافيتي" على الجدران وواجهات المحلات التجارية الصغيرة، وتحصين السكان - لا سيما في الطوابق المنخفضة - بيوتهم بقضبان حديد سميكة على النوافذ والشرفات لتجعلها أشبه بسجن سكني. شارع "بريك لين" قسمان رئيسيان: الشمالي والجنوبي. وهو انقسام أحدثه التاريخ وليست الجغرافيا وحدها. واسم "بريك لين" أو "زقاق الطوب" مشتق من محارق الطوب التي كانت تملأ المكان في النصف الثاني من القرن السابع عشر، والتي ساهمت في إعادة بناء لندن بعد "الحريق الأكبر" الذي أتى على بناياتها في عام 1666. وفي مطلع القرن التاسع عشر كان هذا الطرف من الشارع والمناطق المحيطة به مركز "غيتو" اليهود، الى أن انفتحت أبواب الهجرة للبنغاليين على مصراعيها في ستينات القرن الماضي، وهو ما أدى الى ظهور "بنغلا تاون" أو "بلدة بنغال" في الطرف الجنوبي من الشارع. وهذا الاسم ليس مبالغة. فجميع الحواس تشير الى انتماء هذا الشارع الى "بنغلاديش". الوجوه بنغالية، المحلات تبيع أقمشة الساري المزركشة، والذهب الأصفر اللامع، والجلباب القصير مع البنطلون، والطواقي البيضاء المشغولة. والمطاعم تنبعث منها رائحة التوابل الآسيوية التي تصل حتماً الى مراكز الجوع في المخ البشري. وفي الصباح الباكر، يتبارى أصحاب المحلات في إدارة شرائط تلاوة القرآن الكريم والأدعية الدينية. ومع انتصاف النهار، تتحول المباراة الى الأغاني البنغالية والآسيوية المميزة بنغماتها الشرقية وأصوات المغنيات الناعمة والحادة في آن. حتى أسماء الشوارع والحارات مكتوبة بالانكليزية والبنغالية. "بلال وفرحانة" زوجان بنغاليان يعيشان في "بريك لين" منذ نحو 15 عاماً، وهما في الوقت نفسه أبناء عمومة. يملك بلال مطعماً صغيراً، ويسمى في لندن "بيت كاري" Curry House. وتقوم فرحانة بمهمة الطهي بمساعدة سيدة بنغالية مسنة. وبالمقاييس البنغالية، يعتبر بلال وفرحانة نفسيهما من الأثرياء، فدخلهما الشهري يتراوح بين 2500 و2700 جنيه استرليني، يرسلان ربعه الى ذويهما في بلدة "سلهت" في بنغلاديش. وهي البلدة التي يقال ان اقتصادها قائم على "الكاري البريطاني". ويكفي أن ثمانية بين كل عشرة مطاعم هندية في بريطانيا يملكها بنغاليون، و95 في المئة من هؤلاء قدموا من بلدة "سلهت". وتبعاً لاحصاءات "نادي الكاري في بريطانيا العظمى"، فإن عدد المطاعم والمقاهي الصغيرة التي يملكها بنغاليون في بريطانيا زاد من 20 مطعماً في عام 1946 الى 300 مطعم في عام 1960، ثم قفز الى ثلاثة آلاف في عام 1980. وعلى رغم هذا، فإن النسبة الغالبة من البنغاليين في لندن تعيش في ظروف حياتية صعبة. مهن شاقة، ساعات عمل طويلة ومضنية، شقق صغيرة تابعة للحكومة في عمارات سكنية قذرة وخطرة، ومستقبل غير مضمون للأجيال الجديدة. وعلى رغم ألوان أقمشة الساري المبهجة، وبريق الذهب الهندي في واجهات محلات "بريك لين"، إلا أن رائحة الفقر تطغى على كل شيء، حتى على رائحة الكاري النفاذة. ويتبادر الى الأذهان ما كتبه ج.ه. ماكاي في كتابه "الفوضويون" في العام 1891: "الطرف الشرقي من لندن هو جحيم الفقر. كمثل الوحش الخرافي الأسود الضخم الساكن، يقبع الفقر في شرق لندن في صمت رهيب، ويحيط باسواره العتية حياة وثراء المدينة وطرفها الغربي". وعلى رغم مرور ما يزيد على مئة عام على ما كتبه ماكاي، إلا أن الحاضر لا يختلف كثيراً عن الماضي، بل ويزيد. فإذا كان الفقر يسلب البشر في شرق لندن الطعام الصحي، والبيت المريح، فإن العنصرية تسلبهم الشعور بالآدمية. واجهة محل "بلال" الحديد كتب عليها بالخط العريض: "اخرجوا من هنا يا بنغال". يقول بلال: "لا تخلو واجهة محل هنا من مثل تلك العبارات السخيفة. ولا تمر ليلة من دون أن يأتي الشباب البيض محملين بزجاجات الرسم الملونة يلطخون بها جدراننا ويفسدون حياتنا". العبارات بعضها جارح جداً، اذ يسخر من شكل البنغاليين والروائح التي تنبعث من ملابسهم. وطوال السبعينات، ظلت "بريك لين" بمثابة خط الدفاع الأمامي في مواجهة الهجمات العنصرية على الجالية البنغالية. وشهد عام 1978 أعنف تلك المواجهات، حين هشم نحو 150 عضواً تابعيين ل"الجبهة الوطنية" أو National Front من حليقي الرؤوس واجهات المحلات البنغالية في احدى الأسواق الشعبية التي تقام يوم الأحد. ونجح البنغاليون في وقف دخول أتباع "الجبهة الوطنية" منطقتهم، وذلك بالتظاهرات التي كانوا يقومون بها في أيام الآحاد التالية. إلا أنه كان نجاحاً موقتاً. ففي مطلع التسعينات، شن أنصار "الحزب الوطني البريطاني" اليميني المتطرف هجوماً آخر على سوق شعبية أخرى، بل ان أحدهم ألقى قنبلة صغيرة على عدد من البنغاليين. وعلى رغم توقف تلك الهجمات، إلا أن هناك احساساً بالترقب في المنطقة، وشعوراً شبه مؤكد بأن الهجمة العنصرية التالية مقبلة. ومن المفارقات الكثيرة الموجودة في "بريك لين" "جامع مسجد" وهو رمز الوجود البنغالي المسلم وأحد أبرز أسباب الأحقاد العنصرية في آن. ففي العام 1743 شيد المبنى ليكون كنيسة بروتستانتية. وفي العام 1809 تحول الى كنيسة صغيرة سميت ب"وزليان"، ثم أصبحت معبد "سبيتافيلدز" اليهودي الأورثوذوكسي في العام 1897. ومنذ العام 1976 أصبح المبنى "جامع مسجد" وواجهة المسلمين في المنطقة. أما "مدرسة كنيسة المسيح" التي تتوسط "بريك لين"، والتابعة للكنيسة الانغليكانية في انكلترا، فالغالبية العظمى من تلاميذها مسلمون. وكانوا قبل مئة عام يهوداً. وإذا تصادف مرورك أمام المدرسة وقت دخول الأطفال أو خروجهم، هيئ لك أنك في احدى قرى بنغلادش، حيث الفتيات الصغيرات محجبات، والسمرة تعتلي وجوه الجميع، والآباء والأمهات المصطفون أمام المدرسة يتبادلون الأحاديث والسلامات بالبنغالية. ويعود الأطفال مع آبائهم وأمهاتهم الى بيوت غير صحية ويتناولون وجبات ينقصها الكثير من المواد المغذية. وتبعاً لاحصاءات رسمية، فإن أمراض القلب والسكري حققت زيادة مفزعة بين الجالية البنغالية في "بريك لين" والتي يقدر عددها بنحو 35 ألف شخص. ومعدل دخل الفرد هنا لا يزيد على ثمانية آلاف جنيه استرليني 12 ألف دولار في العام، وهو معدل منخفض جداً لا يكفي إعاشة أسرة مكونة من ثلاثة أو أربعة أفراد بأي حال من الأحوال. وقبل عامين، صدر كتاب عنوانه "الطرف الشرقي 1888" للبروفسور ويليام فيشمان، الأستاذ الزائر في قسم الدراسات السياسية في كلية "كوين ماري آند وستفيلد". وجاء فيه: "الطرف الشرقي ظل دائماً على حاله. في عام 1888، كان المهاجرون من اليهود والايرلنديين. وألقي لوم الأمراض والسياسة الثورية عليهم. أما اليوم، فاللوم ملقى على عاتق البنغاليين والقادمين من أوروبا الشرقية". ويشير فيشمان في كتابه الى أن الفقر، والحرمان، ومعدلات الهجرة والبطالة المرتفعة تؤدي الى المثلث الخطر: المرض، والجريمة، والتطرف السياسي أو الديني. وفي تقرير نشره "تاور هاملتس"، الذي تقع فيه منطقة "بريك لين" قبل أشهر، جاء ان 73 في المئة من سكان لندن من أصل بنغالي وغالبيتهم في تاور هاملتس، يعيشون في فقر. بل ان 74 في المئة من سكان "تاور هاملتس" يتلقون شكلاً من أشكال المعونة الحكومية. حتى متوسط أعمار الرجال يقل هنا عن غيره في بقية مناطق لندن. وتكفي زيارة سريعة - ويفضل أن تكون نهارية لأسباب أمنية - لاحدى البنايات السكنية الحكومية الكثيرة في المنطقة، الروائح كريهة، وتتراوح بين القاذورات الملقاة على الأرض، وقضاء البعض حاجته على الجدران الخلفية، وأسباب أخرى كثيرة. والمفزع كمية الحقن الملقاة على الأرض، والتي تشير الى مشكلة من نوع آخر. فإدمان الهيرويين بين الشباب في "تاور هاملتس" أضحى مشكلة معترفاً بها، ومدرجة في الخطط الحكومية لمواجهتها. بل ان جريدة بريطانية أشارت قبل أشهر الى وجود مركز لعلاج المدمنين البريطانيين من أصل بنغالي في قرية في بنغلادش. الدائرة مفرغة. فأولئك قدموا من احد أفقر بلدان العالم الى احدى أفقر المناطق في لندن. هربوا من وحش الأمراض القاتلة والجوع والتشرد، الى الأمراض المزمنة، وسوء التغذية، والمساكن المكدسة حيث الجرائم والإدمان. لم تفلح أعمدة الإنارة التي شيدتها بلدية "تاور هاملتس" على غرار أعمدة جنوب آسيا، ودهنتها باللونين الأخضر والأحمر - لوني علم بنغلادش - في اصلاح حال البنغاليين كثيراً. وعلى مدى السنوات، لم يستطع آلاف البنغاليين الذين يملأون شوارع "بريك لين" في كل عام للاحتفال بمهرجان "بايشاكي ميلا" - العام البنغالي الجديد - في التغلب على أمراض مدينة كبرى مثل لندن، فباتوا كمن هرب من النار الى المقلاة. الفقر والجوع في بنغلادش وراءهم، والعنصرية وسوء الأوضاع أمامهم الهجرة في "الطرف الشرقي" تتلاحق موجات الهجرة على "الطرف الشرقي" منذ ما يزيد على ثلاثة قرون. الموجة الأولى كانت في أواخر القرن السابع عشر، حين وصلت جموع المهاجرين البروتستانت الفرنسيين. ووقتها انضمت كلمة refugee - أي لاجئ - الى قاموس اللغة الانكليزية نقلاً عن الفرنسية rژfugiژ. واندمج الفرنسيون البروتستانت سريعاً في شرق لندن، لا سيما أن الشعور العدائي تجاه أصحاب المذهب الكاثوليكي كان في زيادة مستمرة. ولم تهاجمهم سوى جموع عمال مصانع الحرير الذين فقدوا أعمالهم بعد تفوق العمال الفرنسيين عليهم، وتدني أجورهم كذلك. وبعد نحو ثلاثة عقود، اندمج الفرنسيون كلية في المجتمع الانكليزي، وحل محلهم المهاجرون الايرلنديون. ومن المفارقات الغريبة ان الايرلنديين - ومعظمهم كان من البنائين المهرة - شيدوا الكثير من كنائس القرن الثامن عشر البروتستانتية. ومرة أخرى تسبب تدني اجور البنائين الايرلنديين في نشوب تظاهرات في عامي 1736 و1769. وأجج مذهبهم الكاثوليكي حدة العنف ضدهم. وحدد الاضطهاد الذي تعرض له يهود اوروبا الشرقية وروسيا معالم طرف لندن الشرقي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اذ استقبل أعداداً ضخمة منهم. ودفعت سيول الهجرة اليهودية في العام 1901 اسقف المنطقة الى أن يشكو ما آلت اليه حال كنائسه التي "أضحت جزراً في بحر غريب". بل ان عضو البرلمان هناك ساهم في تأسيس الحركة العنصرية الأولى في "الطرف الشرقي" وهي "الأشقاء البريطانيون". وفي ستينات وسبعينات القرن الماضي، وصل البنغاليون، وبدأت موجة أخرى من العمل بأجور متدنية، والاندماج والعنصرية.