الرئيس الأميركي جورج بوش لا يحب السفر. لكنه، مع ذلك، أثبت في رحلته الشرق أوسطية الأخيرة أنه رفيق سفر ممتاز. فهو أصّر بعد انتهاء حفلة العشاء مع الرئيس المصري حسني مبارك، على أن يعود إلى مقر القمة الخماسية العربية - الاميركية بواسطة سيارة غولف صغيرة، لعلمه ان مبارك يعاني من مشاكل في ركبته. كما أصّر على قيادة سيارة الغولف بنفسه. وهو فاجأ رئيسي الوزراء الفلسطيني محمود عباس والاسرائيلي ارييل شارون بعقد القمة معهما في الهواء الطلق على ضفة البحر الأحمر، قائلاً إنه "رئيس لا يحب الرسميات الرئاسية". ولخّصت "نيوزويك" سلوكيات الرئيس الاميركي هذه بقولها: "إن بوش نقل ديبلوماسية المزرعة التي يمارسها في تكساس الى الشرق الأوسط". هذه الأجواء العابقة بالملاطفات والود والديبلوماسية الحميمة، ترافقت مع جهود كثيفة بذلتها الولاياتالمتحدة لتلميع صورة محمود عباس أبو مازن. لا بل قال ديبلوماسيون عرب تابعوا مجريات قمتي شرم الشيخ والعقبة انهم "شعروا وكأن هاتين القمتين عقدتا كرمى لعينيّ أبو مازن". لماذا تلميع صورة رئيس الوزراء الفلسطيني على هذا النحو؟ لأسباب عدة منها: انه مدعوم أميركياً، لأنه كان القيادي الفلسطيني الوحيد تقريباً الذي امتلك الشجاعة ليقول لا، ليس فقط للعمليات الاستشهادية، بل أيضا لكل النضال العنفي الفلسطيني. وهذا توافق تماماً مع رغبة واشنطن في وضع حد للانتفاضة الفلسطينية المسلحة. وهو، أيضاً، يحظى بالمباركة، لأنه البديل الوحيد حتى الآن على الأقل للرئيس ياسر عرفات، الذي يبدو أن لعنة الفيتو الأميركي عليه باتت جزءاً ثابتاً من السياسات الاميركية إزاء الفلسطينيين. والأهم من هذا وذاك ان الولاياتالمتحدة تريد للخيار "العباسي" من عباس أن يسود، ليس لأنها تريد انجاح التسوية الفلسطينية - الاسرائيلية، بل على العكس، لأنها تسعى لوضعها في الثلاجة. فالانتخابات الرئاسية الأميركية باتت على الأبواب العام 2004. وبوش يعرف أنه سيخوض معركة مريرة مع الديموقراطيين الذين سيرفعون مجدداً شعار "انه الاقتصاد أيها الغبي". ولذا يريد أن يتفّرغ للحملة الانتخابية، من دون أن ينشغل ب"تفاصيل" الأزمة الفلسطينية وتأثيراتها على العراق وباقي أنحاء "البحيرة" الاميركية الشرق أوسطية. وهنا تقدم مبادرة "خريطة الطريق" الحل المثالي لبوش بالطبع: فهي ترجئ المشاكل العويصة كالحدود وعودة اللاجئين والقدس إلى المرحلة الاخيرة بعد ثلاث سنوات، وهي بخطواتها الأمنية المتدرجة قادرة على تحقيق نوع من الهدوء في حال تنفيذها. وكل هذا شجّع الرئيس الاميركي على الالتزام شخصياً بجعل التسوية أولويته، وبتعيين مستشارته لشؤون الأمن القومي كوندوليزا رايس مبعوثة خاصة له الى الشرق الاوسط. وفي حال تمكّن من تحقيق بعض النجاحات، سيكون في وسعه ابتلاع العراق وهضمه بهدوء، ومواصلة التفاوض على سلام فلسطيني ما. سلام "يعوّم" عباس ولا يزعج شارون. وحينها يفوز بوش بأصوات اليهود وأموالهم من دون أن يستفز الرأي العام اليهودي أو العالمي. بيد ان الرياح لم تجر كما تشتهي سفن البيت الأبيض. فقد فاجأت حركات "حماس" و"الجهاد" الاسلاميتان و"كتائب الأقصى" العلمانية الفتحاوية الجميع بشن أول عملية مشتركة لهم سقط فيها أربعة قتلى من الجنود الاسرائيليين. وقبل ان يفيق بوش من هذه الصدمة كان شارون يعاجله بأخرى: محاولة اغتيال الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي أحد قادة "حماس" البارزين. كل هذا صب ماء باردة للغاية على حماس بوش للتسوية. لكن، حتى لو لم تحدث هذه العمليات، فقد كان من المشكوك فيه كثيراً أن يتّمكن أبو مازن من تحقيق الآمال الاميركية المعقودة عليه. فهو لما يمتلك بعد القوة الأمنية الكافية لفرض وجوده المسلح على الساح الفلسطينية. كما أنه مضطر لأن ينظر باستمرار الى الوراء ليرى ماذا يحضّر له ياسر عرفات، وأيضاً "حماس" و"الجهاد"، من مفاجآت غير سارة. وفوق هذا وذاك، كان على عباس أن يواجه ما يشبه "الثورة الحقيقية" عليه في أوساط الشعب الفلسطيني، بسبب اتهامه بتقديم تنازلات كبرى في قمة العقبة. هذا على رغم أنه لم يفعل شيئاً في الواقع سوى تكرار بعض بنود خطة "خريطة الطريق" التي أقرتها القيادة الفلسطينية برئاسة عرفات، والتي نصّت على وقف الانتفاضة المسلحة وإنهاء كل أشكال العنف. وهذا ما دفع عباس الى التصريح علناً بأنه حصل على الموافقة المسبقة من عرفات على خطابه في العقبة، في حين كان عرفات يسّرب عبر مصادره أن الخطاب "كان برمته من انتاج الولاياتالمتحدة وإخراجها". وقد أكد هذا الحدث ما لم يكن في حاجة الى تأكيد: ابو عمار لن يدع أبو مازن يرثه بسلام. فهو سيواصل جعل ليله نهاراً وصيفه شتاء. وطالما ان الدول الكبرى لم تحزم أمرها بعد حيال مصير الاول، سيواصل هذا نسج كل انواع الافخاخ للثاني. ولو أن عباس أنعش ذاكرته قليلاً لتردد كثيراً قبل ان يقبل بتسلم رئاسة الوزراء من فوق رأس الرئيس. فعرفات هو نفسه الذي قال عنه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد انه لكي يثق به عليه أن يثق اولا بقدرة الثعلب على التوبة والتوقف عن مهاجمة الدجاج. وهو نفسه الذي جعل الرئيس اللبناني الراحل أيضاً الياس سركيس يقول: "انني سأتقاعد من العمل السياسي بسبب هذا الرجل". لا بل قال أحد مساعدي عرفات المقربين انه لو كان هو رئيساً للولايات المتحدة، لأعطى عرفات دولة فلسطينية، "لمجرد الخلاص منه". عرفات وحده، إذاً، كان كافياً لجعل عباس ينام ويفيق على أوجاع الرأس. لكن ومن سوء حظه ليس هذا وجع الرأس الوحيد. فقد تبّين الأسبوع الماضي بوضوح ان الثمن الوحيد الذي يمكن ان تقبله واشنطن وتل أبيب في مقابل دعمهما عباس، هو الحرب الأهلية الفلسطينية، بخاصة ضد حركتي "حماس" و"الجهاد". وهكذا كتب وليام شنايدر، الباحث البارز في مؤسسة "اميركان إنتربرايز" للأبحاث الاستراتيجية: "كان في وسع بوش وشارون أن يرفضا المضي قدماً على طريق خريطة الطريق بعد العمليات الخمس التي نفذّتها حماس. لكنهما لم يفعلا وقررا القيام بمغامرة. لماذا ؟ لأنهما يدركان ان تعزيز قوة الحكومة الفلسطينية الجديدة وهو شيء لا تريده "حماس" يمثّل الحل الواقعي الوحيد لإنهاء الارهاب. ولو ان الحكومة الاسرائيلية مزّقت الخريطة، لأصبحت حكومة عباس بلا حول ولا قوة". كما قال وليام سافاير، الكاتب الاميركي المقرّب من شارون، ان حركة "حماس" هي التي أعلنت الحرب الأهلية. فلماذا يصرّ محمود عباس إذاً على القول انه "لن ينجرّ إلى حرب أهلية"؟ وأضاف: "عباس لن يحصل على دعم أوروبي أو روسي أو من الاممالمتحدة. ربما ينال بعض الدعم المالي من السعودية والأمني من مصر. لكن، ليس ثمة تدخل خارجي قادر على تحقيق سلام له ديمومة في الشرق الأوسط. هذا السلام لن يأتي إلا بعد تحقيق نصر فلسطيني على الأقلية الارهابية التي أعلنت الحرب الاهلية". تحريض واضح؟ أجل. لكن ليس ذلك فقط. هناك ما هو أخطر: ربط مصير أبو مازن بلعبة الحرب الأهلية الخطرة. وهذا آخر شيء كان يتمناه هذا المفاوض القوي والشجاع. لقد بنى عباس كل استراتيجيته، على ما يبدو، على المداميك الآتية: 1- الفيتو الاميركي على عرفات نهائي. ولذا ليس من المغامرة في شيء تسلم السلطة منه بالتدريج، على رغم الصعوبات الفائقة التي ستترافق مع هذه العملية. فعرفات سيقاوم حتى الرمق الأخير في ما يتعلق بالصلاحيات، لكنه لن يستطيع الوقوف بصراحة ضد الجهود التي باتت تميل إلى رئيس الوزراء الفلسطيني. 2- "حماس" لن تتجرأ على الانغماس في حرب أهلية، لأن ذلك سيفقدها رصيدها في الساحة الفلسطينية التي لا تتسامح البتة مع هذا الأمر. والأدلة على ذلك كثيرة، منها مثلاً انه بعد توقيع اتفاقات أوسلو، قام الرئيس عرفات باعتقال مئات من ناشطي الحركة وزجّهم في السجون. ومع ذلك امتنعت "حماس" عن الرد خوفاً من شبح الحرب الاهلية. وهذا يمكن ان يتكرر اليوم. 3- وأخيراً، لن يكون هناك خيار أمام عرفات وبعد قليل أمام "حماس" سوى قبول ما تقدمه الولاياتالمتحدة من حلول. وهذه، على أي حال، حقيقة برزت بوضوح حين قبل الرئيس عرفات مسح كل تحفظاته عن "خريطة الطريق" وقبلها بالصيغة التي قدمتها له واشنطن. كل هذه التقديرات شجّعت محمود عباس على الدخول الى هذا المركب الخشن. بيد ان هذه التقديرات الصحيحة فلسطينياً، كانت خاطئة كلياً اميركياً و إسرائيلياً. فعلى رغم ان بوش يرغب حقاً في تهدئة الوضع في الضفة الغربية وغزة، عبر بدء تنفيذ "خريطة الطريق"، إلا أن الأولوية الحقيقية بالنسبة إليه ليست هنا. إنها باتت داخل أقلام الاقتراع الاميركية. ولذا قد يعمد بوش الى تحفيز شارون على تطبيق بعض بنود "خريطة الطريق"، لكنه لن يضغط عليه بأي حال. وهذا من شأنه أن يترك أبو مازن معلّقاً بحبل ممزق وسط بئر عميق. وعلى الصعيد الاسرائيلي، سيكون من المفاجئ حقاً أن يعمد شارون، المخطط الأول للمستوطنات في الضفة الغربية وغزة، الى تفكيك أي منها. وعلى أي حال، هو سمح للمستوطنين بإعادة بناء ما فكك من مستوطنات "متحركة" فور الانتهاء من تفكيكها. هذا من دون الحديث طبعاً عن رفض شارون الانسحاب من 58 في المئة من أراضي الضفة الغربية، وعن رفضه الآخر لأي تفاوض حول اللاجئين والقدس. هذه العوامل ستؤدي في النهاية الى شلّ حكومة أبو مازن وإسقاط كل إمكانية نجاح امامها. فماذا يمكن ان يفعل الرجل؟ هناك ثلاثة خيارات: الرب الاهلية، الاستقالة، أو ممارسة سياسة عرفات الشهيرة بممارسة نوم الدببة العميق، إلى حين مرور العاصفة. الآن، إذا استبعدنا الخيار الأول، وأدركنا أن الخيار الثالث صعب لأنه سيلغي مبررات وجود الحكومة لدى الاميركيين، لا يبقى أمامنا إلا خيار الاستقالة. وهو خيار قد يثبت بعد قليل أنه الوحيد المعقول، خصوصاً إذا ما ارتطمت سفينة "ديبلوماسية المزرعة" الأميركية مجدداً بصخور شارون و"حماس"… وعرفات!