يمكن القول من وجهة نظر تواصلية بحتة ان عملية 11 أيلول سبتمبر هي من أكبر العمليات التواصلية في التاريخ، من دون أن يغير هذا الاستنتاج اتفاق الجميع على أنها عملية إرهابية أولاً وأخيراً. وإذا كانت "مكاسبها التواصلية" كبيرة جداً من ناحية إعلامية فمن الممكن التساؤل حول نسب نجاحها بشكل عام في خدمة أهداف من يقف وراءها. ذلك أن كل عمل إعلامي لا يمكن أن تكون له أي فائدة إن لم يكن ضمن خطة متكاملة لها أهداف واضحة يخدمها ويقاس نجاحها بنسبة اقترابها من هذه الأهداف، وإلا تنقلب الأمور، ويتحول نجاح العملية التواصلية إلى حسابات آخرين، وهو ما حصل في هجمات نيويورك، وما يحصل بعد كل هجوم إرهابي يخرج عن نطاق شرعية قتالية بمفهومها العام. ان أسباب التألق التواصلي للعمليات الإرهابية كثيرة وتتماشى مع قواعد علم التواصل الحديثة، فنجاحها إعلامياً لا يعني أن المتلقي، أي الرأي العام، يؤيدها بأي شكل من الأشكال. فالنجاح الإعلامي يعني فقط أن وسائل الإعلام تناقلت الخبر وتواصلت حول أسبابه ومعطياتها ومسبباته وخلفياتها بحيث طرد خبر العملية الإرهابية أخباراً أخرى من الساحة الإعلامية في الصفحات الأولى، ودفعها نحو الصفحات الداخلية. ويخطئ الذي يقفون وراء العمليات الإرهابية إذا اعتبروا أن مجرد التواصل الكثيف حول عمليتهم يعني مكسباً سياسياً أو تأييداً من الرأي العام. فالفارق بين التواصل الإعلامي والصدى الإعلاني كبير جداً. فقد يوجد تواصل إعلامي ينتج صدى إعلانياً، ولكن تقييم نسبة تداخل الصدى الإعلاني يتم بقياس نسب تقبل المتلقي للخطاب الإعلامي الذي يحمله الصدى الإعلاني. وحتى في حال كانت نسب التلقي عالية، كما هي الحال بعد كل عملية إرهابية، فإن نوعية التلقي تحمل أهمية كبيرة من ناحية قياس النجاح التواصلي، ذلك أن نسب التلقي يمكن أن تكون سلبية. وكما حصل في نيويورك قبل حوالى عشرين شهراً وكما حصل الأسبوع الماضي في الرياض وكما يحصل كل اسبوع في الجزائر منذ عشر سنوات، يمكن لأي خبير في علم التواصل أن يطرح سؤالاً حول نسب النجاح التواصلي الإعلامي لهذه العمليات الإرهابية. يقول خبير فرنسي يعمل باحثاً في مختبر لتواصل الأفكار، انه منذ سنوات يحاول فهم "الجدوى التواصلية" التي يسعى إليها من يقف وراء المذابح المتكررة في الجزائر، وقد وصل الى شبه استنتاج بأنه مهما كانت الدوافع السياسية والأهداف التي يسعى إليها "الذباحون" وهو التعبير الذي استعمله الباحث مع الإشارة إلى أن هذا الاستعمال من قبله لا يعني حكماً على أعمالهم على رغم استنكاره الشديد لها، فإن نتائج مذابحهم لا يمكن أن تشكل أي مكسب سياسي لهم من الناحية الاستراتيجية أو حتى من الناحية التكتيكية. وفي مقابل غياب أي مكسب تواصلي إيجابي للعمليات الإرهابية نجد أن النتائج السلبية متعددة وتصيب أولاً من يقف وراء العمليات الإرهابية العمياء. لكنها، ومن هنا خطورتها، تصيب إعلامياً أطرافاً أخرى لا ناقة لها ولا جمل في العمليات، وذنبها الوحيد أنها تقع في السياق الإعلامي التواصلي للحقل الذي تقع فيه العمليات الإرهابية. وبالنسبة الى العمليات الإرهابية التي تصبغ باللون الإسلامي، فإن الإسلام كدين لأكثر من ربع سكان العالم هو المتضرر الأول إعلامياً من العمليات الإرهابية حيث يستفيد "أعداء الإسلام" من "الفيض التواصلي السلبي" الذي ينتج عن العمليات الإرهابية لتعميق فكرة ارتباط الدين الحنيف بالعنف المجاني. وكذلك الأمر بالنسبة الى عمليات التحرر الوطني أو مقاومة الاحتلال في نطاق "الحقل التواصلي الإسلامي" والحقول القريبة منه، فهي تقع في سياق التيار السلبي الإعلامي الذي يشكله مزج النجاح التواصلي للعمليات الإرهابية بالفشل السياسي في بلوغ الأهداف الذي يؤدي إلى تراكم تواصلي سلبي لدى المتلقين والرأي العام العالمي، فيصبح التصدي للاحتلال في صراع قومي إرهاباً، وقمع أي حركة تحرر وطنية محاربة للإرهاب! ويمكن باستعمال ميزان تواصلي بسيط القول انه بعد كل عملية إرهابية عمياء تميل كفة هذا الميزان باتجاه معاكس لكل عمل عنيف وتزيد من تبريرات العنف المعاكس بمجرد أن يدعي محاربة العنف الأول! ويشهد العالم منذ أن بدأ الإرهاب الأعمى مسيرته تياراً قوياً يدعي التصدي له، مستفيداً من الصدى التواصلي السلبي الذي تسببه عشوائية الإرهاب، ولا يتردد، بحجة الهدف المعلن، من إضافة مجموعة كبيرة من الأهداف البعيدة جداً عن محاربة الإرهاب، حسب ما يفهمه الرأي العام. لكن يكفي أن التغليف الإعلامي يربطه بالإرهاب حتى يتقبله الرأي العام. وهكذا نرى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ سنوات أدخلت مقولة محاربة الإرهاب في خطابها التواصلي بشكل يسمح لها بممارسة القمع الشديد من دون أي رادع طالما هي تدعي محاربة الإرهاب. كما سمح الكم التواصلي السلبي الذي تكدس حول العرب والإسلام وكل ما يتعلق بالمنطقة العربية بتبرير أي خروج عن الأعراف والمواثيق والمعاهدات بحجة محاربة الإرهاب. فاسرائيل تهدم المنازل وتقتلع الأشجار، وتطبق العقوبات الجماعية وتغتال الصحافيين، وتقتل الناشطين من دون محاكمة وتصادر الأراضي الزراعية وتضمها إلى كيانها بما يخالف أبسط القوانين الدولية، ولكن لا أحد يحرك ساكناً طالما أن عنوان عملياتها هو "محاربة الإرهاب". وفي بلاد الشيشان فقدت حركة التحرر الشيشانية الكثير من التأييد في الخارج بسبب بعض عمليات إرهابية عمياء، على رغم أن المطالب الشيشانية كانت قبل بضع سنوات تلقى تأييداً كبيراً لدى الرأي العام العالمي، والأوروبي بشكل خاص. وفي المقابل تستطيع القوات الروسية تدمير 80 في المئة من العاصمة الشيشانية غروزني وتحرق قرى بأكملها وتنقل سكانها وتصفي الأسرى وتفرض حالة رعب دائمة على السكان المدنيين، من دون أن تتحرك أي جهة دولية مطالبة باحترام حد أدنى من حقوق الإنسان. والسبب هو أن السلطات الروسية ركبت موجة التراكم السلبي للعمليات الإرهابية العمياء، خصوصاً بعد 11 أيلول، وباتت تضع عنوان "محاربة الإرهاب" في حربها في الشيشان. وتعتبر القضية الكشميرية من أقدم قضايا التحرر التي تعترف بها الأممالمتحدة. فهي تعود إلى عهد استقلال الهند البريطانية وتقسيمها إلى شطرين: الهندوباكستان. وقد سجلت الأممالمتحدة في حينها تحفظ الكشميريين المسلمين على ضم قسم من بلادهم إلى الهند الهندوسية. وكان ميزان "الرأسمال العاطفي" يميل لدى الرأي العام العالمي دائما نحو مطالب الكشميريين بالانسلاخ عن الهند، إما بالانضمام إلى باكستان واما ببناء دولة لهم. ولكن ما أن طغى التواصل السلبي للعنف الأعمى على الساحة التواصلية الإعلامية العالمية حتى أقام الرأي العام العالمي بشكل لاشعوري "رابطاً تواصلياً" بين كشمير الإسلامية وبين العنف الأعمى، وفقدت القضية الكشميرية الكثير من رأس مال العطف الذي كانت تتمتع به. وفي المقابل فإن الهند فهمت بشكل سريع المكسب الذي يمكنها أن تناله من رفع شعار "الإرهاب الإسلامي" ولصقه بحركة تحرر يعود تاريخها إلى العام 1947 بالنسبة الى المطالبة بالانفصال عن الهند، كما تعود تاريخيا إلى مطلع القرن التاسع عشر مع وصول الشركات الاستعمارية البريطانية إلى شبه القارة الهندية. ولا يقتصر التلوين السلبي الناتج عن الإرهاب الأعمى، وليس عن المقاومة الحقة، على حركات التحرر التي يتطلب نضالها درجة من العنف العسكري، فهو بات يطال أيضاً التاريخ. والأمثلة كثيرة ومتنوعة: ففرنسا عرفت حركة مقاومة للاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية، ومن مميزات حركة النشر النشيطة فيها أن كتبها تزخر بالكتابات التي تشيد بأعمال مقاوميها، ونسبة كبيرة من الأعمال الأدبية تدور حول أعمال المقاومة والمفاخرة بها. لكن منذ سنوات يلاحظ المتتبع أن موضوع المقاومة لم يعد في قمة التعامل الأدبي. والحالة الفرنسية إن لم تكن فريدة فهي معبرة عن الوقع السلبي للتعامل بما يذكّر المتلقي بالإرهاب حسب المفهوم الطاغي. ولكن منذ أن تلقفت إسرائيل خطاب محاربة الإرهاب يجد المسؤولون الفرنسون أنفسهم في حرج حين يُطلب منهم التمييز بين مقاومة الاحتلال والعمل الإرهابي. ويذكر دائماً في هذا المجال الصحافيون العاملون في فرنسا مندوب الإذاعة الرسمية للسلطة الفلسطينية المعتمد لدى وزارة الخارجية الفرنسية سفيان الرمحي، الذي دأب منذ مدة على طرح سؤال حول تعريف مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال. ويتفق الجميع على أن أي مسؤول فرنسي لا يستطيع الإجابة على مثل هذا السؤال، على رغم موقف فرنسا الذي لا يعترف بالاحتلال الاسرائيلي للضفة والقطاع ولا لضم القدس. ولكن على رغم تاريخ المقاومة الفرنسية، لا تستطيع فرنسا في ظل التأثير التواصلي السلبي للإرهاب الإقرار الصريح بحق المقاومة! وفي الولاياتالمتحدة أيضاً انعكس الكم السلبي للإرهاب الأعمى على حقول كثيرة من الحياة الاجتماعية الأميركية. وأفضل مثال الاجراءات التي تتخذ يومياً بحجة مناهضة الإرهاب والقضاء عليه والتي تغير مفاهيم اعتبرها الأميركيون لسنوات طويلة ثابتة وغير قابلة للمس، مثل الحقوق الفردية المدنية التي كان يحميها الدستور. ففي سياق 11 أيلول شرعت الإدارة الأميركية تحت غطاء "الكم السلبي" الذي ولده الإرهاب الأعمى لدى الرأي العام الأميركي بشكل جعله يقبل بما كان مجرد التفكير به يعتبر مستحيلاً. فباتت مراقبة الأفراد، من دون أي رقابة قضائية، ممكنة، وبات ممكناً اعتقال المشتبه بهم خارج إطار القانون ومن دون تكليف من قاض، كما أصبح ممكناً وضع أفراد في "الاعتقال الإداري" من دون أي تبرير ومن دون أي إمكانية للاتصال بمحام أو بعائلات المعتقلين. وعلى مختلف الأصعدة دخلت تغييرات جذرية في حياة المواطن الأميركي، لم توضع للتكيف مع حالة الإرهاب، ولكنها وضعت تحت ظل العملية التواصلية الناتجة من سلبيات العمل الإرهابي الأعمى والتي كيّفت المواطن الأميركي وحضّرته نفسياً لقبول هذه الإجراءات. فالتراكم السلبي فتح نافذة الفرصة لتمرير الاجراءات التشددية ولم يكن وراءها كما يحاول بعضهم التصور. والبرهان على ذلك أن العديد من الاجراءات المتشددة كانت على شكل مشاريع في ملفات اليمين الأميركي منذ عهد الرئيس رونالد ريغان وكانت تنتظر فرصة قطاف "اللحظة التواصلية" المناسبة. وقد أمنت عمليات إرهابية عمياء هذه الفرصة. لقد أطلقت وسائل الإعلام على المستفيدين من عملية 11 أيلول أو من العمليات التي تبعتها والتي حملت المواصفات نفسها وأهمها العشوائية في القتل، اسم "مستثمري" العمليات الإرهابية. وفي الواقع يتبين أن إفادة المستثمرين من الكم السلبي للعمليات الإرهابية جاءت كثيرة بشكل يطرح تساؤلات كثيرة حول حقيقة شعورهم لدى شجبهم العمليات الإرهابية، وذلك في غياب إمكانية طرح سؤال حول دورهم الحقيقي في تأجيج تتابعها