إذا كان من المبكر جداً استشفاف نسب الأرباح أو الخسائر السياسية لكل طرف في الحرب الحالية الا انه يمكن الاشارة منذ الآن الى رابح كبير هو الإعلام العربي في حرب التكنولوجيا والتواصل، فهو، ما عدا استثناءات قليلة مفهومة الدوافع، شكل أحد أهم معوقات تقدم العملية الأميركية البريطانية بمجمل زواياها وأبعادها خصوصاً من ناحية القوة التواصلية ومحاولة الاستيعاب المسبق لنتائجها. والواقع أنه منذ وجدت الصحافة بشكلها الحديث ومنذ أن انفتحت اتصالات الدول على بعضها البعض، وباتت العولمة القاسم الجامع لكثير من الحقول خصوصاً حقل الإعلام، لم يكن للوسائل الإعلامية العربية الدور الذي تلعبه حالياً، ولا القوة المؤثرة التي تحملها كل يوم، ولا الحضور الدائم الذي تتمتع به على واجهات إعلام دول أخرى. وإذا التفتنا إلى الإعلام المرئي، خصوصاً الفضائيات، نرى أن أسماء فضائيات عربية "توقِّع" كثيراً من الريبورتاجات التي تبثها الفضائيات العالمية ومختلف أقنية التلفزيون في العالم. في ظل التعتيم الإعلامي الذي تفرضه القوات المتحالفة على أرض المعارك. وعلى رغم استعمال السلطات العراقية وسائل الإعلام المتواجدة "تحت يدها" في عمليتها التواصلية، وهو ما لا يجهله الجميع، فإن مجرد وصول صورة حقيقية لما يحصل، وإن كان بشكل انتقائي، هو أفضل من الإعلام الانتقائي المدروس الصادر عن الإعلام الملحق بقوات التحالف. لقد شكّلت حرب الخليج الثالثة معمودية جديدة للفضائيات العربية التي وضعت امكانات ضخمة جداً لتغطية الاحداث على كامل تراب العراق من شماله إلى جنوبه مروراً بالعاصمة بغداد التي هجرتها فرق كثيرة من الصحافيين الغربيين تحت ضغط القصف الأميركي المركّز على مراكز الإعلام الرسمية أو تحت ضغط ظروف العمل التي زادت صعوبتها بزيادة التوتر لدى السلطات العراقية "المسؤولة عنها" والتي تؤطر عملها. ويقول صحافي عاد من العراق أنه نادم جداً على قرار عودته نزولا عند طلب "الإدارة في أوروبا"، خصوصاً أن عوائق العمل التي تفرضها الرقابة العراقية خفّت كثيراً مع ارتفاع وتيرة القصف وحدة العمليات العسكرية، مما يفتح المجال، حسب قوله، لكثير من العمل الصحافي المهم. ولا تميز السلطات العراقية بين ممثلي الصحافة العربية والمراسلين الاجانب، كما يمكن أن يتبادر إلى أذهان بعضهم خصوصاً في الخارج. ويعود هذا إلى سببين: الأول أن أطر متابعة عمل الصحافيين واحدة، ولا تمتلك السلطات العراقية في الظروف الراهنة امكانات تنويع وسائط مراقبة الفرق الصحافية بمختلف تنوعاتها من حيث الجنسية أو من حيث وسائل الإعلام التي تنتمي إليها. أما السبب الثاني فهو استحالة الاعتماد فقط على "عروبة" الصحافي لتمييز المعاملة، في حال وجود نيّة تمييز لدى السلطات المعنية، بسبب لجوء العديد من الوسائل الإعلامية في العالم للاستعانة بصحافيين من أصل عربي لتغطية سير المعارك على الأرض. ولا تعود الاتهامات الكثيرة التي يوجهها مسؤولو قوات التحالف إلى وسائل الإعلام العربية الى انحيازها للموقف العراقي كما قد يتبادر الى الاذهان، ولكن فقط لأنها تنقل "الواقع" الذي يود المسؤولون عن الاعلام في التحالف الأميركي - البريطاني الإمساك بظروف عرضه على الرأي العام العالمي. ويبدو أن مسؤولي وسائل الإعلام العربية أدركوا أن مجرد نقل الوقائع يمكنه أن يفرض نفسه في سوق العرض والطلب الإعلامي المتعولم، وأن ما يطبق على السوق التجارية يطبق بالشروط نفسها على عملية الطلب على المعلومات بشكل طبيعي، ما يشكل جواباً طبيعياً لعملية عرض المعلومات التي تنتج من جراء تغطية دائمة لما يحدث على الأرض. وهذا ما جعل توقيع أكثر من فضائية عربية متواجداً بشكل شبه دائم تحت كمية لا حصر لها من الصور التي تبثها النشرات الإخبارية في العالم، ما عدا في الأقنية الاميركية التي تطّبق حتى الآن! سياسة إعلامية تتوافق مع روح ونص ما تطلبه وزارة الدفاع وقيادة العمليات والتي حصلت في المقابل على "حق" إلحاق مراسليها بالفرق العسكرية الاميركية والبريطانية. الا ان نجاح الاعلام العربي لا يتوقف على الوسائل المرئية بل يتجاوزه إلى الوسائل الأخرى. ونضع جانباً الإعلام المسموع الراديو حيث أنه من المألوف أن يزداد عدد المستمعين إلى الإذاعات في فترات الأزمات الحادة، لكن هذا الاعلام تغيّرت معطيات تغطيته للأعمال الحربية منذ أن باتت الوسائل الإعلامية المرئية تبث بشكل مستديم على مدار الساعة، فانتقل إلى تعميق التحليلات الإخبارية. وأصابت النقلة النوعية الإعلام المكتوب فبات هو أيضاً محط أنظار الصحافة العالمية ومحوراً أساسياً لتدفق سيل المعلومات، اضافة الى التحليلات. ويمكن القول أن صناعة الصحافة العربية وعلومها من أبرز المستفيدين من انتشار تقنية المعلومات وعولمة وسائل انتشارها. فهي استطاعت أن تسد النقص الأساسي الذي كان يعيق ارتقاءها إلى مصاف الصحافة الأوروبية والأميركية من حيث الوصول إلى الكم المعلوماتي الذي يشكل هيكل البناء الإعلامي الصحافي. وساعد "تكثيف" الأزمات في المنطقة العربية في صقل العمل اليومي الدائم والممارسة التقنية في التعامل بالمعلومات. ويمكن وصف هيكلية التواصل التي كانت سائدة بين الصحافة العربية والصحافة العالمية على الشكل الآتي: مصدر خارجي، ثم تحليل داخلي، يليه استقصاء خارجي للتحليلات العربية تشكل فيما بعد معلومات جديدة تعود إلى العالم العربي كمصادر جديدة، وهكذا دواليك. فقد كانت الصحافة العربية تعتمد على المعلومات الأساسية من مصادر خارجية حتى بالنسبة الى الأخبار العربية فتأخذها لتصهرها في تحليلات نابعة من منظار داخلي. ولم تكن الصحافة في الخارج تهتم إلا بالإطلاع على هذه التحليلات لتنويع مواضيعها قبل أن تعيدها على شكل اخبار جديدة يتم استلامها لإعادة الكرة في عملية تواصل دائرية لا تتوقف. أما اليوم، خصوصاً منذ سنوات قليلة، فإن الإعلام العربي المتواجد أساساً في الخارج والذي لعب دوراً مزدوجاً معلومات وتحليلات خارجية بمنظار عربي ساهم إلى جانب الثورة المعلوماتية، في دفع الوسائل الإعلامية العربية في الداخل الى ذهاب نحو مصدر المعلومات عوضاً عن تلقيها و "إعادة هضمها". وهكذا نرى أن عدد المراسلين العرب الذين يغطون الحرب الأميركية في العراق يوازي تقريباً عدد الصحافيين والمراسلين الأجانب، ويغطي تنوعاً إعلامياً يشمل البلدان العربية كافة. كما أن التقدم التقني الذي كان يتمتع به المراسلون الأجانب قبل سنوات قليلة، بات المراسلون العرب يشاركون فيه اليوم. ولم تعد الهواتف المحمولة العاملة بواسطة الأقمار الاصطناعية حكراً على مراسلي الوكالات والصحف والمحطات الكبرى، كما بات الاتصال المباشر والنقل الفوري للخبر من سمات العمل الإخباري للجسم الصحافي العربي. ومهما قيل عن التدريب المهني الذي يتمتع به الصحافيون الأجانب، خصوصاً الغربيين واليابانيين، وهو صحيح بوجه عام، الا أن الصحافيين العرب بشكل عام الذين يتمتعون أيضاً بخبرات مهنية ثابتة، يمتلكون معرفة "دفينة" تسمح بقراءة حقيقية وواضحة للأحداث وهو ما لا يمكن لأي صحافي غربي مهما كان متعمقاً في درس العالم العربي ان يدركه. ولا يعني هذا عدم جدوى وجود الصحافي الأجنبي لتغطية أحداث في دولة عربية، لا بل على العكس. فقد أثبتت الأيام الأخيرة ضرورة "وجود الطرفين" ما يساعد على إخراج حقيقة إعلامية إخبارية واضحة تساهم في كتابة تاريخ حقيقي لما يحصل على الأرض. وكانت الوسائل الإعلامية الغربية أول من تنبّه الى هذا "الكسب" الإعلامي الذي يمكن أن ينتج عن "تمازج القراءات" للمعلومة، بين قراءة عربية وقراءة غربية، لذا برزت ظاهرة الخبراء العرب الذين باتت وجوههم حاضرة على شاشات التلفزيون في كثير من الدول الغربية. ذلك أن من أبرز فوائد "القراءة المزدوجة" تهذيب التعليق وصقله وإزالة شوائب التناقض الموجودة لدى الفريقين. وتسمح أيضاً بترك الاستنتاج الأخير للمتلقي الذي يجد نفسه أمام قراءتين مختلفتين لمعلومة واحدة: قراءة ليست بعيدة عن واقع تفكيره بحكم صدورها عن فكر مماثل أو على الأقل يسبح في سياق تفكيره نفسه، وقراءة ثانية تأتيه من سياق تفكير بعيد عنه ما يجعل عقله متنبهاً لضرورة التمييز والاستنتاج، عوض أن ينساق وراء سهولة القراءة المتوازنة مع تفكيره كما كان يحصل سابقاً. وهكذا باتت الصحافة العربية في ما يخص المنطقة العربية مصدراً مهماً للأخبار، وليس فقط للتحليلات، كما كان في السابق، ودفعت هذه الديناميكية الوسائل الإعلامية المكتوبة إلى ايفاد مراسلين بكثافة ملحوظة، وللمرة الاولى نرى أن المراسلين العرب ينازعون المراسلين الأجانب الوصول إلى الخبر أو الاستقصاء على الأرض. كما باتت الوسائل الإعلامية العربية تطبق مبدأ التنوع والتمايز في المصادر ضمن مراسليها، فنجد عدداً من الصحف التي اوفدت مراسلين إلى منطقة كردستان وفي الوقت نفسه لها مراسلون خلف الخطوط العراقية التي تقابل الجبهة الشمالية، او في اقصى الجنوب. ومما ساهم في زيادة أهمية التغطية الإعلامية العربية، التنوع الذي ينقل المواقف العربية المختلفة من الحرب العراقية أسباباً ونتائج وانعكاسات. ويرى كثيرون من الإعلاميين الغربيين أن التنويع هو من ناحية تواصلية إغناء لقراءة الأحداث وتكثيف لمضامينها. فهو بالنسبة الى العالم العربي يساهم في اعطاء أبعاد للتحليلات ويبرز صورة أكثر واقعية من تناغم التحليلات الغربية التي ترى العالم العربي من زاوية واحدة تساهم في جعل الأحكام على هذا الواقع واحدة. إن الوثبة التي شهدتها وسائل إعلامية عربية في السنوات الأخيرة ثابتة ونتيجة تطور ظاهر. غير أنها تتجلى في الحرب الأميركية على العراق، بسبب السياسة الإعلامية الأميركية التي تريد حصر الدفق الإعلامي والامساك به. ولو أن السلطات المسؤولة عن الحرب الإعلامية في القوات المتحالفة تركت التغطية الصحافية حرة، لكان الطلب على مصادر الإعلام العربية أقل بكثير من جهة، ولكانت استطاعت بشكل أو بآخر استمالة قسم من الإعلام العربي لتغطية "حقيقية" لما تقوم به على الأرض مع سلبياته وإيجابياته. لكن عوضاً عن ذلك فضلت "إدارة" الحملة الاعلامية بالشكل الذي رأيناه حتى اليوم، في محاولة لتشكيل "حائط" يحجب الحقائق او يحتجزها على رغم تفسخه تحت ضغط الوسائل الاعلامية الاميركية التي على رغم شوفينيتها العمياء بدأت تدرك الخسائر التي تدفعها في مجال حرية الرأي وحق المواطن الاميركي في معرفة الحقيقة أياً كان لونها، خصوصاً ان هذه الحقائق تصل الى المواطن الاميركي مواربة عبر الصحافة… العربية!