مع انطلاق أول موجة صواريخ معلنة بدء الحرب الأميركية على العراق لملم الديبلوماسيون أوراق اقتراحاتهم وهدأت مناوشاتهم، ودخل الجنود الخنادق وأخرج الإعلاميون "أسلحتهم الإعلامية" التي شحذوها طيلة الأشهر التي قضاها الديبلوماسيون في مناقشات تبين أنها عقيمة أمام تصميم الدولة الأعظم على شن حرب، على رغم معارضة معظم دول العالم لها. وأفسحت المهلة التي أظهرتها الولاياتالمتحدة وكأنها فرصة سلام في حين أنها كانت فترة تحضير عسكري، لوسائل الإعلام للاستعداد لحرب الخليج الثالثة واستحضار دروس الحرب الأولى والثانية مع الإضافات التقنية التي ظهرت خلال السنوات القليلة التي تفصلنا عن آخر الحروب المعلنة، أي حرب كوسوفو وحرب تحرير الكويت. ومن الطبيعي أن بدء الحركة العسكرية وما يرافقها من عنف يدفع بالصورة إلى الأمام ويرمي بالخبر والتحليل إلى مراكز متخلفة. فقوة الصورة إذا ارتبطت بالمآسي والآلام والخراب تتجاوز بكثير قوة الكلمة وصدى التحليلات. ويفسر هذا استعداد الفريقين المتحاربين استعداداً كاملاً لاستغلال "قوة ضرب الصورة" إلى أبعد حد. وكذلك استعداد الوسائل الإعلامية لتلقي الصور والأفلام من كلا الطرفين ومن مصادرها الخاصة. ولكن من البديهي أن تكون أهداف الوسائل الإعلامية مختلفة كثيراً وبعضهم يقول منتفضة لأهداف الفرقاء المتحاربة. فمهة الوسائل الإعلامية هي أولاً وأخيراً نقل صورة "حقيقية" لما يدور في ساحة المعركة والنتائج التي تنعكس على المدنيين وحياتهم اليومية واستشفاف النتائج السياسية التي يمكن أن تنتج عن استخدام السلاح لتغيير قواعد اللعبة قبل العودة إلى التجاذب السياسي. إذا نظرنا إلى "عالم الإعلام" من منظور الحرب الدائرة وبعد مرور عشرة أيام على اندلاعها، نرى أن الإفرازات الإعلامية التي نتجت عن الصراع كثيرة ومتنوعة في تعاملها مع وسائل الإعلام بشكل عام ومع الصورة ونقلها بشكل خاص. ينقسم الإعلام الذي يرافق الحروب إلى تيارين: التيار الإعلامي المؤيد للمتحاربين والتيار الإعلامي "المحايد". ويشمل الإعلام المؤيد وسائل الإعلام الصادرة في الدول المتحاربة. وقد يكون من الطبيعي أن تكون وسائل الإعلام في بلد يحكمه نظام ديكتاتوري "منحازة" لمواقف الحكم، مثلما هو الوضع في العراق. وفي المقابل فإن الوسائل الإعلامية البريطانية - وليست الأميركية - تمثل النقيض الأصح، لأنه من غير الطبيعي أن يكون الأمر هكذا في الولاياتالمتحدة حيث ضاقت فسحة حرية التعبير والانتقاد منذ 11 أيلول بشكل عام ومع انطلاق أول رصاصة في الحرب الجديدة. فعلى العكس يترك تأييد الوسائل الإعلامية البريطانية للقوات البريطانية المشاركة في الحرب مجالاً للانتقاد والنقد، إلى درجة أن هذه الوسائل المعارضة أو المنتقدة تشكل نسبة تتجاوز الثلث. بينما في الولاياتالمتحدة تستطيع "نسبة مايكروسكوبية" فقط توجيه انتقاد للإدارة الأميركية، حتى ولو كان يصب في النهاية في المصلحة الأميركية العليا. وتبدو الوسائل الإعلامية الأميركية وسط الفورة الشوفينية التي تشهدها أميركا وكأنها أدوات سلطة مركزية. وفي المقابل وضمن الإعلام المؤيد يظهر الإعلام العربي نوعاً من التعددية النقدية مع تأييده الشعب العراقي، بنسبة كبيرة تفوق النسبة الموجودة في بريطانيا مثلاً. وقد يكون ذلك عائداً إلى كون الوسائل الإعلامية العربية هي انعكاس صحيح لموقف الرأي العام العربي تستطيع انتقاد الحرب والمجاهرة بمعارضتها لها، وفي الوقت نفسه عدم الوقوع في شرك تأييد النظام العراقي. وتقترب نسبة كبيرة من الوسائل الإعلامية العربية بمعالجتها للحرب من تيار "الإعلام المحايد"، خصوصاً التيار الأوروبي الغربي. ولكن على خلاف هذا الأخير الذي يضع شجبه لنظام صدام في مقدم أولوياته يليه شجب الحرب كوسيلة "لتحرير العراق"، يرى الإعلام العربي أن شجب الحرب على العراق كبلد عربي عاش الحصار وأظهر تعاوناً مع مطالب الأممالمتحدة، يجب أن يكون الرمز التواصلي الأول، يليه رمز شجب نظام صدام وما يمثله بالنسبة إلى شعبه والمنطقة. ولكن على رغم الحدود التي ترسمها خطوط عريضة بين التيارين وبين مختلف الروافد ضمن كل تيار وتشكل "التنوع الإعلامي" فإن معظم الوسائل الإعلامية وقع في فخ مشكلة الصورة والتعاطي معها. ذلك أنه على خلاف التعليق والتحليل فإن الصورة "تتكلم" وتتجاوز التيار الذي تنتمي إليه الوسيلة الإعلامية التي تنشرها، حتى أنها تتجاوز التعليق الذي يمكن أن يرافقها. وبالتالي يمكن القول أن الصورة توحد التيارين، مثلما توحد نقل الخبر من الواقع نحو المتلقي مباشرة مهما حاولت الميديا أي الوسائل الإعلامية إحاطتها بإطارات تفسيرية وكادرات تجميلية أو تخفيفية. وما زاد من صعوبة "فخ الصورة" في الحرب الحالية أن الوسائل التقنية التي باتت متوافرة، خصوصاً مع انتشار الإعلام على شبكة الانترنت، لم تعد تترك فسحة وقت للتفكير ومحاولة دراسة أفضل للشروط اللازمة لنشر صورة أو خبر يمكن أن ينتقل إلى العالم أجمع في ثوان قليلة. وتحيط بالصورة، اضافة إلى الوزن التواصلي، مجموعة من العوامل المادية والمعنوية التي تسمى العوامل الدائرية. والعوامل المؤثرة في معالجة الصورة كثيرة، منها المادية مثل نوعية وسيلة النقل الإعلامية مطبوعة أو مرئية أو انترنت وألوانها وهي عامل مهم جداً في ما يتعلق بالقتلى والجرحى لتأثير اللون الأحمر - لون الدم على المتلقي ومنها العوامل المعنوية وهي أيضاً كثيرة، لكن أبرزها عاملان: القوانين الدولية والمحلية والأعراف الصحافية. وتتطرق القوانين الدولية إلى الصورة عبر وضع قوانين معاملة أسرى الحرب معاهدة جنيف لعام 1949، خصوصاً المادة 13 التي تنص على ضرورة معاملة الأسرى بشكل انساني من دون إذلال وحمايتهم من "الحشرية العامة". أما صور القتلى والضحايا فإنها تعالج عبر الأعراف الصحافية المهنية. وتؤثر العوامل الدائرية على قوة استعمال الصورة كعنصر تواصلي. ومن ناحية العوامل المادية، فإن فريقاً عاجزاً عن إيصال صور أو أفلام لعدم وجود وسيلة إعلامية متقدمة تقنياً لا يستطيع استعمال الصورة كعامل تواصلي. كما أن نقل صورة أو شريط إخباري من نوعية رديئة يمكن أن ينقلب من أداة تواصلية إيجابية إلى أداة سلبية. ومن ناحية العوامل المعنوية فإن الدولة "القوية" تستطيع بقوة القانون منع نشر صور مخالفة للمعاهدات كما تستطيع أن تلاحق المخالفين حتى وإن وجدوا في دول أخرى. كما أنه يمكن استعمال مخالفة القوانين للتحضير لعملية "تواصلية هجومية" تستغل "خروج الخصم" عن القوانين المتبعة لربح "معركة تواصلية" قد تكون أهميتها التواصلية أكبر من تأثير الصورة ذات الموضوع. من حيث المبدأ تضع الصورة بثقلها التواصلي الجميع على المحك، إلا أن التعليق على الصورة واستخدام العوامل الدائرية للصورة يبرزان انعدام المساواة في استعمال الصورة أثناء الحرب، خصوصاً في تطبيق القوانين الدولية المتعلقة بها. والأمثلة كثيرة في الماضي، ولكنها قد تكون قليلة في الحرب الحالية لأن أول "اشتباك قانوني تواصلي" في شأن استعمال الصورة في وسائل الإعلام جاء باكراً في بداية الحرب. والواقع أن قوات التحالف في الحرب على العراق كانت أول من "خرج عن قانون" استعمال صورة الأسرى في الحرب بسماحه بتصوير الأسرى العراقيين من دون التأكد من ظروف نشرها، على رغم التحضيرات التي رافقت "اختيار" الصحافيين الذين رافقوا القوات المتقدمة والتدريبات التي قدمت لهم. فقد نقلت وسائل إعلام صور أول أسرى عراقيين واستسلامهم لقوات التحالف، ولم يخرج أي تعليق ليسلط الضوء على اتفاقية جنيف. حتى أن السلطات العراقية لم تحتج على التعامل الإعلامي مع أسراها. لكنها كانت تنتظر دورها! فبعد مرور أيام معدودة وقع أول جنود التحالف في الأسر العراقي ولم تتردد السلطات العراقية، وإن كان عددهم قليلاً مقارنة بعدد الأسرى العراقيين، في نشر صور استجوابهم لرفع معنويات مقاتليها ومواطنيها. وبعد أقل من ساعة على ظهور صور القتلى الأميركيين على شاشات العالم، خرجت التصريحات الأميركية تتهم السلطات العراقية بخرق اتفاقية جنيف. وهذا صحيح، غير أن الصور التي وزعتها إدارة إعلام الحلفاء أيضاً تخرق اتفاقية جنيف! ويؤكد مسؤولو الصليب الأحمر الدولي أن كلا الفريقين خرق الاتفاقية بكل تأكيد. قد يكون الإعلام واستعمال قوة الصورة التواصلية من "أسلحة الفريق" الضعيف، وهو العراق في هذه الحال، ولكن لا يمكننا إلا أن نتساءل عن سبب لجوء الولاياتالمتحدةوبريطانيا إلى "تسهيل" عمل مصورين من دون روادع تمنع انتهاكهم القانون الدولي، خصوصاً أن الحلفاء استطاعوا "تدجين" عملية خروج المعلومات المهمة استراتيجياً والتي تؤثر على العمليات العسكرية، ولم تسجل أي مخالفة للتعليمات من قبل الصحافيين الذين رافقوا الوحدات العسكرية، كما أنه يمكن مبدئياً! لأي منظمة حكومية مقاضاة المسؤولين الأميركيين والبريطانيين أمام محاكم بلادهم. وفي الواقع فإن استعمال صورة الجنود في الأسر أو صورة جثث مُثل بها لجنود لها قوة تواصلية في الولاياتالمتحدة تفوق القوة التواصلية العاطفية التي يمكن أن تؤجج شعور مواطنين أي بلد آخر، لأسباب تاريخية، أهمها أنه منذ الحرب العالمية الثانية والولاياتالمتحدة في حرب مع بلد أو منطقة في العالم، من حرب كوريا إلى حرب كوسوفو، مروراً بغزوات وحروب وتدخلات في باناما وغواتيمالا وكوبا ولبنان والفيليبين والخليج وضرب إيران وليبيا والصومال، خصوصاً فيتنام، كل ذلك خلال نصف قرن، أي أن ثلاثة أجيال حالية في الولاياتالمتحدة "عاصرت" الحروب. لقد تركت حرب فيتنام أثراً كبيراً يمكن القول إن حروباً كثيرة أعقبتها، حاولت محوها بطريقة أو بأخرى. وقد تميزت حرب فيتنام بأنها تمت في مرحلة انتشار "الريبورتاج الحربي"، خصوصاً أنها رافقت وصول التلفزيون إلى داخل كل منزل في الولاياتالمتحدة. وساهم الاستعمال "النفسي" لقضية الأسرى من قبل الفيتكونغ وعدد الأسرى المرتفع جداً في جعل صورة الجندي الأميركي في يد العدو سلاحاً إعلامياً مهماً لعب دوراً كبيراً جداً في بعض الأحيان في تغيير السياسة الأميركية. ويتذكر الجميع انسحاب القوات الأميركية من لبنان العام 1983 بعد تفجير مقر المارينز في بيروت، وسحب الرئيس بيل كلينتون القوات الأميركية من الصومال في عام 1993 بعدما زارت صور الجثث الثمانية عشر التي مُثل بها وسائل الإعلام في العالم. كما يمكن الإشارة إلى خسارة جيمي كارتر الانتخابات الأميركية عام 1980 بسبب صورة جثث الجنود الأميركيين في صحراء إيران بعد عملية فاشلة لتخليص رهائن السفارة الأميركية في طهران. وفي الواقع، لا يمكن لمصور مهنته نقل الحقيقة أن يمتنع عن تصوير ما تلتقطه عيناه المدربتان والمهنيتان. كما لا يمكن لوسائل الإعلام "إخفاء" صور وصلت إليها. فالحرب هي "أم الواقع" و"أم الحقائق"، إنما يمكن فقط لوسائل الإعلام أن "تهذب" الصورة وتجعلها في مستوى الخلق الانساني الذي يجب أن يتحلى به الجسم الصحافي. لكن قبل كل شيء يجب على الوسائل الإعلامية أن تكون حيادية ومهنية في التعاطي مع الخبر، صورة كان أم معلومة، فهذا التعاطي المتوازن مع الخبر، يمكن أن يضع الصورة في إطارها الإعلامي الحقيقي مهما كانت بشاعتها مؤلمة. فالحرب مؤلمة وأليمة. ولا يمكن لمن يدعي التعامل الصحافي المهني أن يتجاوز بديهيات التوازن والحياد العلمي ويلجأ إلى "التعمية أو التعامي" عن حقائق لا يمكن إخفاؤها في الصورة التي، كما قلنا، تتكلم من دون تعليق ثنائية الموت والحياة نشرت معظم صحف العالم صورة جنديين عراقيين قتيلين في خندق وهما يحملان علماً أبيض، وإلى جانب الخندق الذي ضمهما وقف جنديان بريطانيان ينظران "بهلع ورهبة" إلى الضحيتين. ويمكن تسمية الصورة ب"الثنائية". فهي تجمع ضحيتين وجنديين وقد التقطها في شبه جزيرة فاو المصوران جون ميلز وستيفن هيرد. من الناحية المعنوية تجمع الصورة عاملين وتقابلهما: الموت والحياة البارزان بقوة، الأسلحة التقنية الظاهرة على الجنود البريطانيين وانعدام الأسلحة في أيدي الضحايا. كما أن ثنائية الصورة تجاوزت ما تحمله من معانٍ ووصلت إلى طريقة التعاطي معها كرمز للحرب وأداة تواصلية: فقد رفض ستيفن هيرد توزيع الصورة بينما هرع جون ميلز لتوزيعها عبر وكالة الصحافة الفرنسية. ولكن القوة التواصلية للصورة لم تتركز في مجموعة الثنائيات بل في العلم الأبيض الذي رفعه الجنديان العراقيان من دون أن يرد عنهما الموت. لقد ركزت الصحافة في العالم على العلم مع تعليقات كثيرة ومتنوعة بعضها مصيب ومؤثر وبعضها يقارب الاستهزاء، لكنه واقعي، كما جاء في الصحافة البريطانية، إلا أن بعض الصحف ارتأى "تجاهل" العلم الأبيض في تعليقه وكأن الصورة… لا تتكلم!