من أبسط تعريفات الديموقراطية وأفضلها أنها "صفة لنظام تكون فيه نتائج قرارات الحاكم السياسي مراقبة من جهة مختلفة عنه". وقد أضيفت في السنوات الأخيرة ملحوظة على التعريف البسيط تقول: "مع الأخذ في الاعتبار التشويش الذي تتسبب فيه وسائل الإعلام المتأثرة بقرارات الحاكم". ولازمت صفة الديموقراطية، بحسب هذا التعريف وصف النظام السياسي الأميركي منذ تكوينه استناداً إلى نظام المراقبة. وفي أميركا أيضاً بدأ تأثير الإعلام على نظام مراقبة عمل الحاكم يشوش على الممارسة الديموقراطية السليمة من ناحية نظرية. ففي مقارنة بسيطة بين تأثير الوسائل الإعلامية على أنظمة ديموقراطية تاريخية في القارة القديمة والنظام الأميركي نرى ان الرقابة على قرارات الحاكم تتم بشكل مختلف بين المجموعتين. ففي أوروبا الغربية توجد رقابة يومية لقرارات الحكم في مرآة الوسائل الإعلامية من قبل الرأي العام، يمكنها أن تؤثر بشكل دائم على نوعية هذه القرارات. وفي حال إحساس حلقات الحكم بوجود تمايز واضح بين سياستها وتوجهات الرأي معكوسة في الوسائل الإعلامية، فإنها تعمد إلى تغيير السياسة المتبعة وتحاول إيصال هذه التغييرات إلى الوسائل الإعلامية لتنقلها بدورها إلى الرأي العام. وفي حال الفشل لا تتردد حلقات الحكم في إعادة العداد إلى الصفر عبر اللجوء إلى الامتحان الأهم في النظام الديموقراطي، أي الانتخابات. وتلعب الوسائل الاعلامية دوراً مهماً في جس نبض الجسم الانتخابي وتوجهاته، فهي تنقل وتنتقد وتحلل الإجراءات في عملية عمودية تتوجه من طبقات القرار نحو الرأي العام، وتعود لتنقل ردود فعل الرأي العام إلى أصحاب القرار. ومن هنا أهمية عمليات التواصل الإعلامية التي تقوم بها الحكومات في محاولة للسيطرة على عملية نقل الصور في الاتجاهين الصاعد والهابط. وهي ما يسمى التشويش على العملية الديموقراطية. لكن على رغم وجود عملية التشويش الإعلامية محاولة سيطرة وتلاعب بالإعلام من قبل السلطات الحاكمة في العديد من الديموقراطيات فإنها تظل محصورة ومحدودة الإمكانات، حتى أنها باتت من أصول اللعبة وقواعدها. لكن الأمر يختلف في الولاياتالمتحدة. فما عدا استثناءات قليلة مثل حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت فإن الرأي العام الأميركي، ومن ورائه وسائل الإعلام، لم يلعب دوراً في مراقبة الحاكم ودفعه لتغيير سياسته. وقد يعود الأمر إلى طبيعة المجتمع الأميركي وحجمه، خصوصاً هيكلية نظامه السياسي، ذلك أن مراقبة قرارات الحاكم لا تتم في الولاياتالمتحدة إلا من خلال العملية الانتخابية الرئاسية أو انتخابات الكونغرس، التي إما أن تكافئ الفريق الحاكم أو تنزع منه ثقتها. ولا يمكن اتهام النظام المعمول به بأنه غير ديموقراطي من ناحية نظرية، غير أنه من الملاحظ أن العمل به يمنع أي تغيير خلال المراحل المحددة دستورياً، أي أنه يمنع تأثير الرأي العام ووسائل الإعلام خلال فترات الحكم. وقد لا تظهر هذه الموانع بسب قصر مدة المراحل فهي أربع سنوات للانتخابات الرئاسية وسنتان لإعادة انتخاب نصف الكونغرس ومجلس النواب. وعلى رغم ذلك فإن خصائص العملية التواصلية الإعلامية التي تربط الحاكم بالرأي العام الأميركي والوسائل الإعلامية الحاملة لها تكون متوجهة بشكل كامل نحو الشهور القليلة التي تنهي مراحل الحكم غير عابئة بالمرحلة التي تفصل بين عمليتين انتخابيتين. وينعكس هذا الاهتمام على نوعية العملية التواصلية التي تقوم بها السلطات وزخمها المتفاوت حسب توقيتها بالنسبة الى موعد الانتخابات الذي يلعب دوراً مهماً يتجاوز حدود الولاياتالمتحدة. وتدرك وسائل الإعلام الأميركية هذا التفاوت ولا تغيبه في معالجتها للأخبار، خصوصاً في خضم أزمات كبرى مثل الأزمة الحالية التي تضع سياسة واشنطن في مواجهة أكثر من ثلثي المعمورة في الخارج وأقل من نصف الرأي العام في الداخل. لقد سادت قناعة ان من أسباب فشل واشنطن في الحصول على دعم دولي لحربها على العراق ضعف عمليتها التواصلية الإعلامية تجاه الرأي العام العالمي والحكومات المعارضة لسياستها الحربية. غير أن نظرة بسيطة الى خصوصيات العملية التواصلية التي اتبعتها واشنطن تظهر أن التوجه الإعلامي الرسمي لم يكن موجهاً لكسب الرأي العام خارج الولاياتالمتحدة ولا للانفتاح على الدول المعارضة للحملة الأميركية. وبالتالي انعكس الأمر على المعالجة الإعلامية للوسائط الإعلامية الأميركية المختلفة فهي معالجة تتوجه في مضامينها الى الرأي العام الداخلي أكثر من أن تكون موجهة إلى الرأي العام العالمي. وهذا ما يفسر أيضاً بعض التردد الإعلامي الذي اعترى الوسائل الإعلامية الكبرى مثل "سي. إن. إن" وغيرها، ما يشكل إجابة على سؤال مطروح بقوة حول دور الوسائل الإعلامية الأميركية، ومصدره الاحساس بأن هذه الوسائل باتت ناطقة رسمية باسم الادارة الأميركية وأنها أقرب إلى وسائل إعلانية من كونها وسائل إعلامية. كما أنه يفسر بروز وسائل إعلامية منافسة مثل "فوكس نيوز" التي كانت أصلاً تهتم بالداخل الأميركي وسوقها الإعلامية أكثر من اهتمامها بالسوق الخارجية. والواقع أن الوسائل الإعلامية الأميركية لا بد لها، مثلها مثل أي وسيلة إعلامية في أي بقعة من العالم، أن تتفاعل مع محيطها المباشر المتلقي الرأي العام الأميركي ومصدر المعلومات منابع العملية التواصلية الإعلامية للدوائر الحكومية. لكنها إضافة إلى ذلك عليها، بسبب خصوصية تركيبتها الرأسمالية والصناعية وهيكلية المجتمع الأميركي، أن تبحث عن نقاط التأثير القوية للابقاء على قوتها التواصلية الذاتية. فهي مثلاً لا تستطيع أن تعارض سياسة ما إذا لم يكن يوجد مرتكز لدى المتلقي تعتمد عليه للتواصل. وهي في الوقت نفسه لا تستطيع تجاهل مصدر المعلومات الحكومي لمعرفتها العميقة بخصوصيات المجتمع الأميركي حيث النزعة الوطنية الشوفينية هي المحرك الأول لحكم الرأي العام على الأمور. وهذا ما يجعل شكل العملية التواصلية الإعلامية في الولاياتالمتحدة الآن ومنذ 11 أيلول أشبه بعملية تواصل "عاطفية" بين السلطات والرأي العام تغيب عنه كل قواعد التحليل المنطقي أو حساب المصلحة الوطنية من جهة الرأي العام لمحاسبة الادارة على اساسها. ويبدو المنظر الإعلامي الأميركي أقرب إلى عملية التحام وتلاحم بين القائد ممثلاً بالطاقم الحكومي وعلى رأسه جورج بوش والشعب الرأي العام بشكل عام ووسائل الإعلام ما عدا بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة وكأن الخطر داهم على أبواب أميركا. وهو الشعار الذي يخدم الفريق الحاكم حتى الانتخابات المقبلة، حتى ولو أدى ذلك إلى فقدان تأييد 90 في المئة من الرأي العام العالمي وثلاثة أرباع دول العالم. وترتفع التساؤلات حول سبب هذا التعامل الإعلامي العاطفي في دولة هي الأكثر تقدماً وحداثة حيث تلعب التكنولوجيا دوراً رائداً في كل شاردة وواردة تخص المجتمع. وعن كيفية حصول هذا في ظل وسائل إعلامية تمتلك التقنية الإعلامية الأولى وكانت وراء النهضة الإعلامية الكبرى التي شهدها العالم، إن كان بالنسبة الى التعامل التواصلي أو الى علوم التواصل الألسنية المرتبطة بعلم النفس وطرق معالجة الخطاب. ان الجواب الواقعي على هذه التساؤلات هو ان الوسائل الإعلامية هي مرآة مجتمعها أولاً وأخيراً ولا يمكنها أن تعالج المعلومة إلا بمنظور المجتمع المزروعة فيه. والمجتمع الأميركي في ما يتعلق بأمور الحرب تغير كثيراً منذ ثلاثة عقود، أي منذ نهاية حرب فيتنام. ويشدد كثيرون على النظريات التي باتت تتحكم بإدارة الحرب الأميركية والدروس التي استخلصتها من الحرب الفيتنامية، ولكن إذا نظرنا إلى مجمل هذه النظريات نرى أن أكثرها يتعلق بدور الوسائل الإعلامية في تسويق النظريات الجديدة لتصبح فاعلة. ومن أبرز الأمثلة التي سلبت الألباب هي نظرية "صفر قتلى" أي العمل على أن تكون نتيجة أي معركة من دون وقوع أي ضحية أميركية! وتعتمد هذه النظرية على منطلق حضاري فوقي لا جدال فيه يبرز التقدم التقني الأميركي، غير أنها ليست صالحة من دون "تعاون" صريح مع وسائل الإعلام، أو التلاعب بها، أو في أقصى الحالات إبقائها بعيدة عن الحقيقة. ففي حرب الخليج الثانية عام 1991 صمدت نظرية "بضعة قتلى" 14 طوال سنوات بسبب تعاون الإعلام الأميركي والتلاعب بالإعلام العالمي وإخفاء الحقائق الكثيرة عن مجمل الوسائل الإعلامية بحجج لها تبريرات كثيرة ليس أقلها الأسرار العسكرية. ولكن بعد مرور فترة من الزمن تبين أن عدد الضحايا يتجاوز "بضع مئات من القتلى"، ولا يمنع هذا من أن نظرية التكنولوجيا المتقدمة و"صفر قتلى" ما زالت على الموضة في الإعلام الأميركي، وتشكل مادة دسمة للإعلام العالمي لما تحمله من "مبهرات" إعلامية تشدّ الاهتمام التواصلي وتثير شهية القراءة والتعليق. وتساهم وسائل الإعلام الأميركية في تغطية حقائق أخرى، إما تجاهلاً لأهميتها واما تواطؤاً مع أصحاب القرار. فعندما تتكلم الصحافة الأميركية عن "البويز" الجنود الشباب تستخدم تعابير وتشبيهات مستمدة من الأدب العسكري الوطني العالمي، مثل انتظار عودة الجنود بعد المعارك أو الزوجة التي تودع زوجها على رصيف المرفأ، وكلها صور تذكر بقصص مثل "ذهب مع الريح" أو أدب الحروب ومعاناتها حين كان المواطنون يتركون الحقول والمصانع للالتحاق بالجيش للدفاع عن الوطن. ومن اللافت عدم تطرّق أي وسيلة إعلامية كبرى الى التحولات التي طرأت على الجيش الأميركي منذ ثلاثة عقود، خصوصاً بعد إلغاء الخدمة العسكرية الاجبارية وتحويله إلى جيش محترف. ومرّت معظم الصحف مرور الكرام على مطالبة بعضهم، وبينهم عضو في الكونغرس بعودة الخدمة العسكرية الإلزامية ما يمكن أن يدفع المواطن الأميركي إلى التفكير كثيراً قبل الاندفاع وراء تأييد الحروب عندما لا يكون الوطن في خطر. ذلك أن الجندي الأميركي بات صاحب مهنة job يدرك هو وعائلته مخاطرها، ومن دون أن ينزع ذلك من انسانية الجندي الأميركي. غير أنه بالمفهوم الأميركي البراغماتي فإن الجندي يقبض مالاً في مقابل ما يقوم به وهو مدرك مخاطر عمله، ولم تعد صورة الجندي تعكس خلاصة المجتمع الأميركي بل صورة قسم منه فقط. ولا "تتعمق" وسائل الإعلام الأميركية في هذه الخصائص ولا تشدد بالطبع على أن الطبقات التي ينتمي إليها الجنود هي من الطبقات غير المؤثرة سياسياً والضعيفة اقتصادياً. وبالعكس فهي تبرر الآلة العسكرية الأميركية وكأنها تعكس صورة مختلف طبقات الشعب الأميركي وتحمل أمانيه الدفينة. وساهم احتراف الجيش الأميركي بتسهيل تسويق نظرية "صفر قتلى" وسهل عمل وسائل الإعلام والعملية التواصلية التي تبنيها السلطات السياسية على هذه النظرية. فحين كانت الخدمة العسكرية إلزامية وفي حال وقوع ضحايا كان انتشار الخبر غير "محصور". فيمكن أن تكون الضحية ابن عائلة ثرية في مانهاتن أو بفرلي هيلز كما يمكن أن يكون ابن عائلة متواضعة في بروكلين أو كانساس، ولا يقتصر خبر موته في الخدمة على محيطه العائلي بل كان ينتشر في محيطه العملي أيضاً حيث كان يعمل قبل خدمته العسكرية، وبالتالي كان التأثر يصيب معظم شرائح المجتمع وكانت الوسائل الإعلامية مضطرة لملاحقة الأمر ومعالجة المعلومة لأنها تمس شرائح واسعة. أما اليوم فإن ألم فقدان جندي لا يتجاوز اطار عائلته وهي أصلاً مهيأة لتلقي النبأ المفجع منذ "اختار" فردٌ منها العمل العسكري لمعرفتها بالمخاطر المحدقة به، ما يخفف كثيراً من الصدى الإعلامي المؤثر. إضافة إلى أن النبأ لا يخرج من "طبقة العسكريين" التي لا تشكل أكثر من 2 في المئة من الشعب الأميركي. فهذه الرسالة التواصلية تؤمن الرادع العاطفي المجاني للشعب الأميركي، فهو يحارب من دون أن يحارب الجيش المحترف يحارب وهذه من مكتسبات النظام الرأسمالي الليبرالي إلى أقصى حدوده: فالمجتمع يدفع لمن يقوم بالمهمة. لكن العملية التواصلية الأميركية تسعى إلى تجاوز هذه الفوارق والى إبراز الشعارات التي تحرك أكثرية الرأي العام الأميركي حيث له مصالح حيوية بعدما أمنت له "الرادع العاطفي"، وتلتفت إلى شعارات مثل ترتيب منطقة الشرق الأوسط بطريقة جذرية بما يخدم المصالح الأميركية. وهي إشارات يفهمها الرأي العام الأميركي، وهو المهم الوحيد في الأهداف التواصلية، وليس الرأي العام العالمي كما يحلو للبعض الاعتقاد. وهنا تكمن أخطاء قراءات كثيرة للرسالة التواصلية الأميركية، فهي أولا وأخيراً موجهة الى الوسائل الإعلامية الأميركية، والرأي العام الداخلي