قد لا يكون زعيم تنظيم "القاعدة" اسامة بن لادن مراوغاً بارعاً ومحيراً للقوات الاميركية كما تظهر عليها الامور بقدر ما ان الوقت للقبض عليه والاعلان عن ذلك لا يناسب ادارة البيت الابيض، اذ يعتبر القبض عليه صفقة كبيرة يجب توظيفها سياسياً واعلامياً وقطف ثمارها، ولكن في الوقت المناسب. وحسب كتاب جديد صدر في الولاياتالمتحدة بعنوان "مطاردة بن لادن: خنجر القوات الخاصة"، فان زعيم تنظيم "القاعدة" كان تحت رحمة القوات الخاصة الاميركية والبريطانية في ثلاث مناسبات أفلت منها لأن "الاوامر العليا لم تكن قد صدرت". ويسرد الكتاب: "كانت السماء الفسيحة فوق جبال تورا بورا الافغانية الشاهقة، تشع بإضاءة قوية بسبب القنابل التي ألقتها القاذفات الاميركية في شتاء عام 2001، في حين كان نحو 4 آلاف مقاتل من تنظيم "القاعدة" يحصون فرص النجاة والمقاومة. في هذه الاثناء كان جنود القوات الخاصة الاميركية "غرين بيريت" والبريطانية "اس ايه اس" يمشطون الجبال الصخرية بحثاً عن الكهوف مستخدمين أجهزة حرارية محمولة تكشف مكان الاحياء بين الصخور المتعرجة والوعرة، كما كان من مهماتهم توجيه اشعة ليزر الى الاماكن المستهدفة لتوجيه صواريخ القاذفات الى اهدافها. وتمركز آخرون منهم في سفوح الجبال مستعدين بأسلحتهم القناصة لرصد اي عناصر من "القاعدة" يحاولون الهرب وقتلهم. وعندما يصبح الطريق آمناً كانوا يطلبون من حلفائهم من القوات الافغانية التحالف الشمالي توفير غطاء لهم بقذائف "المورتر" والاسلحة الاوتوماتيكية، ثم يتوجهون الى الخنادق والكهوف التي صدرت منها نيران اسلحة "ايه كاي- 47" التي يستخدمها عادة مقاتلو "القاعدة". وما حدث بعد ذلك كان اشرس معركة وجهاً لوجه ويداً بيد شهدتها الحرب الافغانية الاخيرة. كان جندي من القوات الخاصة يقاتل بسكين كبير ويد عارية بعد اصابته برصاصتين في قدمه وساقه. كان ما حدث فوق العادة واكثر مما اعتادت عليه القوات الخاصة من عمليات مسح وتفتيش، لان في تلك الليلة وبين الصخور المتناثرة من فعل الانفجارات المركزة كان جنود "غرين بيريت" و"اس ايه اس" متأكدين انهم حددوا الهدف الاكبر في كل هذه العملية ورأوا صاحب القامة الطويلة 190 سنتمتراً زعيم تنظيم "القاعدة" بن لادن. ومن خلال اجهزة التنصت اللاسلكية وكاميرات التجسس البعيدة المدى رأوا رجلاً طويل القامة تتطابق اوصافه مع اوصاف زعيم "القاعدة" يمشي ببطء بين سيارات النقل المتفحمة والمضعضعة ويعاين جثث مقاتليه. ومع هبوط وتيرة القتال وتسلم الجنود الاميركيين والبريطانيين زمام المبادرة والتحكم في الاماكن المرتفعة، وضع الجنود خطتهم. سينقسمون الى مجموعتين وسينقضون على بن لادن ويقبضون عليه حياً أو ميتاً. المجموعة الاولى ستقوم بالهجوم عليه بالرشاشات والقنابل اليدوية فيما تنتظر المجموعة الثانية خلف الصخور اللحظة المناسبة لتنقض عليه وتأسره. وعندما اتفقت القوتان البريطانية والاميركية على تفاصيل الخطة، طلب الاميركيون من مركز العمليات الرئيسي مساندة جوية على ارتفاع منخفض بعد اعلامهم بالخطة وهدفها، ثم جاءهم الجواب الذي صدمهم: الخطة ليست مضمونة ومعرضة لخطر كبير. لقد فشل مركز القيادة الاميركي في توفير طائرة مناسبة للخطة خشية تعرضها لصواريخ ارض - جو ستينغر التي بحوزة مقاتلي "القاعدة"، فيما تبلغت القوات البريطانية ان العملية قد تكلف أرواح عدد من الجنود على الارض وهذا غير مقبول، لذلك طلب منهم انهاء عملهم الى جانب نظرائهم الاميركيين فوراً". تعد هذه الاحداث بمثابة وقائع لا تصدق، فان هذه الواقعة كانت الاولى من بين ثلاث مناسبات سُمح فيها لزعيم تنظيم "القاعدة" بالهرب والنجاة وهو مطوق في معارك تورا بورا. وتؤكد دارا النشر "راندوم هاوس" في الولاياتالمتحدة و"ماكميلان" في بريطانيا صدقية الاحداث لسبب بسيط هو ان مؤلف الكتاب روبن مور يملك اجازة غير مشروطة في التحدث الى قائدي القوات الخاصة وجنودها، لا يتمتع بها اي صحافي آخر، اضافة الى ماضيه الموثوق به، خصوصاً في ما يتعلق بأمور الجيش والعمليات العسكرية، وهو الذي رافق جنود القوات الخاصة في حرب فيتنام واصدر كتاباً يحمل اسم القوات الاميركية الخاصة واقتبس منه الفيلم الشهير "غرين بيريت" عام 1968. وبموافقة قائد قوات "غرين بيريت" سُمح لمور بالذهاب الى قاعدة "كيه 2" السرية المسؤولة عن ادارة عمليات "خنجر القوات الخاصة" في افغانستان، وتعقب آثار مقاتلي "طالبان" و"القاعدة"، وبعد كل مهمة كان مور يتحدث الى افراد القوات الخاصة عما دار خلال اليوم، كما حصل على تعاون قائد سابق لقوات "غرين بيريت" عرّفه في كتابه باسم "جاك" فقط بسبب حساسية عمله الحالي السري، ويعرفه بأنه مستشار لقوات التحالف الشمالي المساندة للقوات الاميركية. وخرج الكتاب بنتيجة ان القوات الاميركية والبريطانية كسبت الحرب في افغانستان لكنها فقدت اثر بن لادن، ولعب الجنرالات الاميركيون دوراً كبيراً في شل حركة القوات الخاصة المؤلفة من 40 اميركياً و60 بريطانياً مكلفين تتبع كبار مسؤولي "القاعدة" و"طالبان" في تورا بورا، بسبب ترددهم الجنرالات في اعطاء أوامر قاطعة، وتشكيل هيئة قيادية غير قادرة على التجاوب بسرعة مع ظروف طارئة على الارض. ويقول مور في كتابه: "كانت كل العمليات معقدة وغير مفهومة ومبهمة الهدف، وكان من الافضل ترك القرار النهائي للقوات الخاصة لتحديد الافضل والقيام به، لأن هذه القوات كانت مثل القنبلة الموجهة بدقة وكل ما اراده افرادها هو ارشادهم الى وجهتهم والى المواقع المستهدفة وترك بقية الامر لتقديراتهم". ونقل الكتاب عن جاك قائد المهمات السرية والاستخبارية: "كان بن لادن تحت نظرنا ومراقبتنا ولكن سُمح له بالافلات والهرب. في الأصل كان لدى القوات الخاصة قائمة بالاهداف ذات الاولوية والتي يتوجب تعقبها، وكانت لديهم رخصة بالقتل اذا ظهر احد هذه الاهداف او الاسماء الموجودة في اللائحة، وكان اسم اسامة بن لادن على قمة هذه اللائحة التي تحولت في ما بعد الى هدف ثانوي ولم يعد قتل المستهدفين رئيسياً في عملهم، وبعد سقوط كابول عمد الاميركيون الى احضار قوات عادية ونظامية، وحينها بدأ كبار المسؤولين في قاعدة "كيه 2" وجنرالات قيادة العمليات في القاعدة المركزية في فلوريدا بادارة الامور بكل تفاصيلها الدقيقة، فأصبح مستحيلاً على قواتنا الخاصة الاتصال بالقاعدتين في كل مرة يتم تحديد احد الاهداف الكبيرة كبار مسؤولي القاعدة وطالبان، واعتقد ان جنرالات القيادة المركزية كانوا يخشون من ان تقوم القوات الخاصة بالقبض على بن لادن من دون علمهم ما يحرمهم من بريق الانتصار وتحقيق هذا الانجاز، كانوا يريدون اعلان ان القبض على بن لادن او قتله تم بعمل جماعي. كذلك ارادت لقوات الجيش والبحرية والجوية ان تلعب دوراً في هذا الانجاز، على ان تتم هذه العملية باستخدام آخر التطورات التكنولوجية من الاسلحة لابراز دور شركات صنع هذه الاسلحة ايضاً"، وأكمل جاك: "والامر الآخر الذي اقلق هؤلاء الجنرالات كان الرأي العام. فنحن أضعنا فرصة قتل بن لادن في مناسبتين على الاقل بسبب خشية كبار المسؤولين من رد فعل عنيف في الولاياتالمتحدةوبريطانيا اذا بدأت توابيت القتلى من جنودنا تتكدس وتزيد. وما يغضبني ان الجنرالات لم يستمعوا الى التقارير الاستخباراتية التي وصلتهم منا والتي اكدت ان اصطياد بن لادن لن يعرض حياة جنودنا للخطر او انه ليس بالامر الصعب الذي توقعه وتصوره كثيرون". ويدعي جاك ان كثيراً من الروايات التي تداولها الجميع في ذلك الوقت عن قدرة قوات "القاعدة" وقواعدها في افغانستان كانت بكل بساطة خاطئة. ويقول: "وصفت "القاعدة" بأنها تنظيم على درجة عالية من الانتظام والتعقيد والتجهيز وان بامكان مقاتليها اسقاط طائرات "بي 52" باستخدام صواريخ "ستينغر" من كهوف معقدة التجهيز ومن المستحيل اختراقها، وانها كقلعة محصنة ومجهزة بتقنيات عالية تضم حجرات نوم وطعام وجلوس وأحدث تكنولوجيا الاتصالات، ولكننا اكتشفنا ان "القلعة المحصنة" تحوي اكياس رمال موزعة على الصخور لتشكل مواقع القنص ويخزن فيها السلاح والرصاص. لم تكن هناك اجهزة عالية التقنية، وحتى "حجرات النوم" كانت في كهوف صغيرة يتوسطها حُصر للنوم على ارض متسخة... ومقاتلو "القاعدة" لم يكونوا مقاتلين اشداء بل كانوا ارهابيين. بالتأكيد اذا كانوا يجيدون قطع أيدي الصغار وقطع اعناق النساء فان بامكانهم خطف طائرات وتفجيرها، ولكنهم لم يكونوا بقوة الجنود الاميركيين والبريطانيين. كنا نلاحقهم وهم يهربون من مكان الى آخر، وحتى صواريخ "ستينغر" التي كانت بحوزتهم كانت معطوبة وغير صالحة للاستعمال لان بطاريات التشغيل فيها كانت فارغة". وعدا عن الحادثة التي اعفي فيها الجنود البريطانيون من العمل مع نظرائهم الاميركيين بعد تحديد موقع بن لادن، يذكر الكتاب حادثة اخرى كان زعيم "القاعدة" قريباً من القتل. "كان بن لادن يتحدث في جهازه المتصل بالاقمار الاصطناعية، واعترضت قوات "غرين بيريت" محادثته وسجلها جهاز التنصت السري الاميركي التابع لوكالة الاستخبارات المركزية سي آي ايه محدداً مكانه، فتوجهت فرقتا قنص واستطلاع الى مكان مصدر المحادثة بالمشي ست ساعات الى هناك، وبعد 36 ساعة، أرسل فريق الاستطلاع اشارة تفيد بأن الهدف موجود وان بن لادن تحت الانظار وطلب ارسال فريق القنص الذي يبعد 30 دقيقة". ويؤكد مور: "رفض مسؤول الفريق الاقدام على قتل ابن لادن او القبض عليه من دون موافقة كبار المسؤولين في القاعدة المركزية. ومرة ثانية فان الموافقة لم تصدر. وحتى عندما كان الفريق مستعداً للمخاطرة وحده في عملية القبض على بن لادن من دون مساندة فريق القناصين فان الامر الذي تلقاه رئيس الفريق هو ان العملية خطرة وقد يكون الامر كله مصيدة للايقاع بهم، وانهم بحاجة الى قوات اضافية، فصدر الأمر لهم بالابتعاد ما سمح لبن لادن بالافلات مجدداً". بعد هذه الحادثة قام جاك من خلال صلاته الوثيقة مع قوات التحالف الشمالي بتقفي آثار افراد "القاعدة" و"طالبان" في الجبال بمعاونة عشرات الافغان في سيارات نقل، بعضها تركه مقاتلو "القاعدة" خلفهم قبل فرارهم، ومن بين هذه السيارات كان جيب "لاند كروزر" اخضر اللون، قيل انه يعود لبن لادن نفسه. ويقول جاك: "اخيراً، جاءني احد جواسيس التحالف الشمالي واخبرني ان بن لادن موجود في قرية دبالة المجاورة، فأرسلت الجاسوس الى هذه القرية مصحوباً بكاميرا، وعلى رغم انه فشل في تصوير زعيم "القاعدة" الا اننا تأكدنا من وجود عدد من كبار مسؤولي القاعدة هناك. فكانت فرصة وجود بن لادن بينهم عالية جداً لان اهالي القرية قالوا ان رجلاً طويلاً كان محاصراً باكثر من 30 حارساً شخصياً لم يخرج من منزله ابداً، واكدوا انه كان مجروحاً في احد ساعديه، ما طابق كل المعلومات التي نعرفها عن بن لادن خصوصاً اصابته في ساعده جراء شظية او رصاصة خلال المعركة في تورا بورا، كما قالوا انه يتلقى كمية كبيرة من الاملاح المعدنية الأمر الذي يتطابق أيضاً مع معلوماتنا التي تؤكد انه يعاني من مشاكل في الكبد". واخيراً في 6 شباط فبراير 2002 خرج الرجل الطويل من منزله الطيني محاطاً بالعديد من الحرس، وفي الوقت الذي كان جاك يعد قواته للهجوم ظهرت طائرة من دون طيار تابعة ل"سي آي ايه" فوق سماء القرية، واطلقت صاروخاً وحيداً، هو كل ما تستطيع حمله في رحلة واحدة، بعدما ركزت كاميراتها على الجمع الغفير في القرية. وتأكد المتحكم بالطائرة في قاعدته العسكرية التي تبعد مئات الاميال، من الهدف، ولكن الصاروخ اخطأ بن لادن فتفرق الجمع واحتموا. ويحلل جاك هذه العملية الفاشلة بقوله: "اصلاً الطائرات من دون طيار هدفها فقط الاستطلاع على ان تكون عيون الجنود الارضيين على الهدف، ولكن الواضح ان المسؤولين البعيدين 6 آلاف ميل وتحديداً في البنتاغون وفي فلوريدا القاعدة المركزية كانوا يستخدمون عملية القاء القبض على بن لادن كفرصة لتجربة آخر صرعاتهم التكنولوجية الثمينة... لا أجزم مئة في المئة ان الرجل الطويل هو بن لادن ولكن بامكاني الجزم ان في استطاعتي التأكد من ذلك عندما أطرحه ارضاً ويداه خلف ظهره". ويدعي جاك انه لولا التدخل الفاشل لكبار المسؤولين لنجحت محاولات القبض على زعيم تنظيم "القاعدة" او قتله. وعلى رغم التقارير التي تؤكد ان بن لادن نجح في الهرب الى باكستان قبل بداية معركة تورا بورا، الا ان الكتاب الجديد يؤكد ان هناك ادلة دامغة كانت تشير الى وجوده في المنطقة خلال المعركة، ومنها تأكيد "اس ايه اس" رؤيته، وانه حوصر وشلت حركته بسبب سقوط ثلوج بكثافة غير عادية ما اغلق الطريق الى باكستان واعاق الحركة بين المناطق. واقترح آخرون ان بن لادن خدع القوات الاميركية لانها كانت تلاحق اشارات تبث من هاتفه الفضائي يعمل بالارتباط بقمر اصطناعي، وانه ببساطة سلم هاتفه الى معاون له أوقعهم في الشرك. ولكن هذه القصة لم تكن كاملة حسب جاك الذي يوضح: "صحيح ان بن لادن حاول خداعنا بعدم استخدام هاتفه الفضائي، وفي المقابل كان يستخدم هاتفاً محمولاً بذبذبات منخفضة وراديوات غير مكشوفة جعلت مهمتنا باعتراض محادثاته أمراً صعباً علينا. ولكن كانت هناك مناسبات أوصل فيها رسائل لمساعديه بواسطة الراديو ونقلوها بدورهم الى مقاتليه عن طريق الهواتف الفضائية، وعندما نجحنا في اعتراض هذه الرسائل كان في امكاننا تحديد مكانه في محيط بين ميل واحد وخمسة أميال بالاعتماد على قوة الارسال الاصلي. كذلك شوهد بن لادن شخصياً غير مرة من قبل الاميركيين والبريطانيين من جنود واستخبارات، وكانت تصلنا اخبار استخباراتية موثوق بها جداً من التحالف الشمالي الذين زرعوا جواسيسهم بين اعضاء "طالبان" و"القاعدة"، ولكن لم نستفد من هذه المعلومات ولم نوظفها لمصلحتنا". وبحسب جنود القوات الخاصة الذين قابلهم روبن مور فان فرص القبض على بن لادن او قتله "اضيعت من دون رغبتنا". ويختم جاك: "لا اقول ان القبض على بن لادن وقتله كان اكيداً ومتاحاً بسهولة، ولكن مرة بعد مرة حاصرناه وراقبناه وكان بامكاننا على الاقل ان نحاول جدياً الايقاع به"