يتفق معظم المراقبين على أن الأشهر الستة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة إلى مستقبل العراق، وبالتالي لاستقرار الشرق الأوسط. لماذا ستة أشهر؟ لأن هنالك اشارات واضحة على أن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بدأت تعاني من حال من الذعر. فبعدما اجتاحت العراق في آذار مارس الماضي بهدف إعادة رسم خريطة المنطقة الجغرافية - السياسية بحيث تتلاءم مع المصالح الأميركية والإسرائيلية، تبدو الولاياتالمتحدة الآن متهافتة على البحث اليائس عن استراتيجية تخرجها من المستنقع العراقي. ويحتاج بوش إذا أراد أن يُعاد انتخابه إلى الخروج من العراق وإعلان "النصر" قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. فتكاليف الحرب المتصاعدة، وسقوط قتلى وجرحى أميركيين يومياً في العراق، يؤثر سلباً على تطلعاته السياسية. وعلى رغم تصريحاته الهوجاء "سوف ننجز المهمة"، في حين أن الحل الذي يغريه هو أن ينجو بجلده من الورطة. وأما الرأي العام الأميركي المحروم من الاطلاع على الأخبار الدولية، فهو يجهل ما يجري في العالم، ولكنه بدأ يدرك أن الأمور ساءت جداً في العراق. وفي مطلع هذا الأسبوع، حين أعلن نائب الرئيس السابق آل غور تأييده للمرشح الديموقراطي الأقوى هاورد دين، قال بكل جرأة إن حرب بوش هي "خطأ كارثي". وأضاف بأنه يدعم هاورد دين لأنه المرشح الوحيد الذي كوّن الحكم الصحيح حول حرب العراق. ومثل هذه التصريحات من شأنها أن تزيد من ذعر الإدارة الحاكمة. وما يثير الدهشة أنه على رغم الاخفاق السياسي الفاضح ما زال المحافظون الجدد ومهندسو الحرب، سواء في البنتاغون أو في مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، في أماكنهم. وما زال البحث جارياً في واشنطن عن كبش فداء، لكن الرؤوس لم تسقط بعد... ولا شك في أن ذلك سيتم. المفارقة العراقية لقد أسفر الوضع في العراق عن مفارقة خطيرة، إذ اضطرت المقاومة المسلحة قوات الاحتلال الأميركية إلى إعلان جدول زمني للتخلي عن السيادة ومناشدة الأممالمتحدة تقديم مساعدتها بعدما كانت تتجاهلها وتهملها. فقد تعهدت أميركا بتسليم السلطة إلى العراقيين في حزيران يونيو المقبل، ومعنى ذلك أن الخطة الطموحة بانشاء "عراق ديموقراطي" يصلح نموذجاً للمنطقة بأسرها قد صرف النظر عنها. ولا شك في أن هذا التغيير في الاستراتيجية العراقية يعتبر انتصاراً للمقاومة. ولكن من حقنا أن نتساءل إلى أي عراقيين ستمنح السلطة؟ يبدو من الصعب أن تتولى المقاومة ملء الفراغ، نظراً لكونها مؤلفة من مجموعات مختلفة تقاتل بأهداف مختلفة من دون أن تكون هناك قيادة سياسية أو عسكرية موحدة. وأما إذا كانت هنالك قيادة سرية موحدة، فهي لم تعلن عن نفسها بعد. بعض الاشاعات يشير إلى أن صدام حسين شخصياً يقود المقاومة، ولكن حتى البعثيين الأقحاح يشككون بأن يكون لصدام حسين أدنى حظ بالعودة إلى السلطة. فكما قال لي عراقي بارز هذا الأسبوع: "صدام حسين مات سياسياً ومعنوياً"، فالمقاومة لا تقاتل من أجل صدام، بل ضد أميركا. والعراقيون على مختلف أطيافهم عانوا الكثير من حكم صدام ويصعب أن يفكروا بعودته ولو للحظة. يدور الحديث في العراق عن أن أميركا، ازاء الهجمات القاتلة كالتي أوقعت خمسين جريحاً هذا الأسبوع، تفكر في الانسحاب من منطقة الفلوجة والرمادي، غير أن ذلك سيؤدي إلى خلق "عاصمة للمقاومة"، أي ملاذ آمن تنطلق منه هجمات أخرى أكثر ضراوة. وإذ اخفقت أميركا في تحويل العراق إلى قاعدة لنفوذها والنفوذ الإسرائيلي في قلب العالم العربي، وهو الحلم المضحك الذي داعب خيالها، أخذ بعض اليمينيين الأميركان يفكرون باستراتيجية يعتبرونها أفضل ما تبقى من خيارات. وهي تقضي بتقسيم العراق الضعيف إلى ثلاث مقاطعات لكل من الشيعة والسنة والأكراد. وهذا ما نادى به ليزلي غلب الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية، الذي نشر مقالاً في "نيويورك تايمز" في 25 تشرين الثاني الماضي بعنوان "الحل القائم على ثلاث دول". وأثار هذا المقال نقاشاً حاداً حول مزايا أو أخطار التجزئة. حل التجزئة ينادي ليزلي غلب بإقامة ثلاث دويلات: الأكراد في الشمال والسنّة في الوسط والشيعة في الجنوب، وفق حدود ترسم قدر الإمكان على أسس اثنية أو مذهبية. وهو لا يخفي أن "الفكرة العامة هي دعم الأكراد والشيعة وإضعاف السنّة". ويضيف قائلاً: "ان على اميركا ان تمنح معظم الأموال الى الطرفين الأول والثاني وتسحب قواتها مما يسمى بالمثلث السني، وبذلك يضطر الطامحون الى الهيمنة من السنة، وقد حرموا من النفط وعائداته الى التخلي عن طموحاتهم. وهو يعترف بأن تجزئة العراق مشروع ينطوي على بعض "الفوضى والخطورة" ولكنه يوصي بأن تقوم الولاياتالمتحدة بالتدابير التي لا بد منها كنقل السكان وفرض التقسيم بالقوة. انه في الواقع يوصي أميركا بأن تفرض على العراق أهوال التنظيف العرقي. وفي دعوته الى خلق ثلاث دويلات يذهب ليزلي غلب الى أبعد من حلول الفيديرالية او الكونفيديرالية التي نادى بها بعض المحافظين الجدد وأصدقاؤهم من عراقيي المنفى. والواقع ان كل هذه المحاولات لتقسيم العراق مشوبة بالخطأ الجسيم. ومن الضروري ان نعي أن كل هذه الأفكار يسوقها أولئك الذين يريدون للعراق ان يكون ضعيفا بل ان يكون العالم العربي كله ضعيفاً، بدلاً من أن يكون قوياً. فالهدف المعلن هو نزع عروبة العراق ووضع حد لطموحاته القومية وبالتالي تحويل النظام العربي الى شظايا، وجعله مفتوحاً امام محاولات التسلل والمناورة والسيطرة، فهؤلاء الذين يضغطون من أجل تقسيم العراق وفق أسس مذهبية أو اثنية انما يرمون في الواقع الى إضعاف هويته العربية بل ومحوها كلياً إذا أمكن ذلك. انها وصفة لنزع الاستقرار في الشرق الأوسط بأسره بما في ذلك دول كاسرائيل وحتى الكويت اللتين قد تتصورا بأن لهما مصلحة في عراق ضعيف ومجزأ، هذا في حين أن عراقاً تسوده النزاعات الداخلية ويصبح ملاذا للمتطرفين من كل طيف لن يكون في مصلحة أحد. الأكراد فقط هم الذين يحبذون التقسيم والا فالحل الفيديرالي. لكن المشكلة تكمن في انهم كما هو معروف لن يرضوا بالولايات الثلاث التي يتمتعون فيها بالأكثرية الغالبة، بل انهم سيطالبون بأكثر من ذلك. ومع ان كركوك مدينة لمزيج من السكان، فسيطالبون بها من أجل منابع النفط فيها. وأطماع كهذه ستؤدي على الأرجح الى تدخل تركي ومقاومة مسلحة من باقي العراقيين. وفي أي حال فإن تقسيم العراق وتوزيع عائدات النفط على الدويلات الثلاث سيكون مصدر متاعب جمة ونزاعات حتمية. ذلك كله يعني ان "حل التقسيم" الذي ينادي به ليزلي غلب وغيره من المحافظين الجدد قد يزرع بذور حرب أهلية. أما على صعيد القدرات القتالية، فإن لدى الأكراد مجموعتين رئيسيتين تضمان سبعين ألف محارب. كذلك فإن للاحزاب الشيعية الثلاثة ميليشياتها الخاصة. أما السنة فلديهم تجربة طويلة في الخدمة العسكرية، وفي إمكانهم أن يجمعوا قوة قتالية مهمة خلال فترة وجيزة من الزمن ولا سيما بعدما أثبتوا مهارتهم في حرب العصابات ضد قوات الجيش الأميركي الطاغية. لقد ارتكب الاميركيون أخطاء فادحة في العراق. فالحرب أصلاً عملية احتيالية قامت على أسس زائفة. فالحلم باعادة رسم خريطة المنطقة الجغرافية السياسية لا يستند الى أي أساس واقعي. وحل الجيش العراقي، بناء على الحاح اسرائيل على ما يبدو، كان مصدراً لأكبر المتاعب. فصرف 150 ألف ضابط من الخدمة من دون رواتب أو تعويضات، خلق مجموعة غاضبة من أصحاب المهارة في القتال استخدمت في اعمال المقاومة. واما اللجوء الى تكتيك القبضة الحديد الذي تستخدمه اسرائيل، كمحاصرة المدن والقرى وهدم المنازل وتدريب القوات الخاصة على اغتيال المقاتلين، فهو أفضل السبل لكسب الكراهية وخسارة "معركة القلوب والعقول" كما يرددون دائماً. اما تهديد ايران وسورية بفرض العقوبات وبأسوأ من ذلك بدلاً من السعي الى الحصول على مساعدتهما في توطيد الاستقرار في العراق فهو ايضاً خطأ استراتيجي فاضح. فلديهما أوراق ضخمة في العراق لن تترددا في استعمالها ضد اميركا اذا تعرضت مصالحهما الحيوية لأي تهديد. وأما آخر حماقة أميركية فتتمثل في الأمر التوجيهي الموقع من نائب وزير الدفاع بول ولفوفيتز يوم 5 كانون الأول ديسمبر الجاري الذي يمنع الشركات الفرنسية والالمانية والروسية من الاشتراك في المناقصات الخاصة بعقود اعادة بناء العراق. انها الطريقة الأسوأ للحصول على الدعم الدولي الذي تسعى اليه اميركا وهي أحوج ما تكون اليه. على أن التقسيم هو أخطر الأخطاء التي يمكن لأميركا ارتكابها. انه كارثة بالنسبة للعراق ومسمار في تابوت السمعة الاميركية في المنطقة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.