بعيداً عن الضوضاء الاعلامية ومن وراء سحب غبار المعارك الحربية الاسرائيلية المتواصلة منذ حوالى سنتين، يرتفع مخطط الاحتلال الاسرائيلي لتهويد القدس درجة درجة. والجدار الفاصل الذي يبنيه الاحتلال حول أحياء المدينة بدعوى منع الفدائيين من التسلل من الضفة الغربية لتنفيذ عمليات انتحارية داخل اسرائيل يجعل سكان المدينة داخل سجن كبير. وفي وقت تتركز انظار العالم على معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يعيش كل فلسطيني في القدس معاناة صامتة: اكتظاظ سكاني داخل البيوت، هروب من المدارس، فقر وجوع، انحراف، سرقات وتعاطي مخدرات. كل هذا داخل غيتو كبير تطوقه مناطق اسرائيلية ومستوطنات شاسعة يعيش سكانها اليهود على بعد امتار عدة منهم في ما يشبه النعيم. حوالى 200 الف فلسطيني مقدسي، لا يذكرهم احد اليوم. ولم تعد القدس كمدينة منسية في كل حديث عن المفاوضات فحسب، انما بات سكانها من قوائم المهملين المنسيين. الاسرائيليون يمارسون اقسى وسائل التمييز والعنصرية ضدهم، ويوما بعد يوم تتفنن الحكومة الاسرائيلية في سن القوانين العنصرية والمجحفة والمخططات الاستيطانية لتزيد الخناق عليهم فتحاصرهم اقتصاديا وتمنعهم من التنقل وتحدد العمل لهم وتسحب الهويات منهم، فتفقدهم حقوقهم الشرعية في سبيل تحقيق احد اهم اهداف حكومة شارون: تهجير اكبر عدد من الفلسطينيين من داخل القدس. ولكن معظم السكان لا يتجاوبون مع هذه الضغوطات فلا يتركون المدينة ويتشبثون بأراضيهم وبيوتهم ويدفعون الثمن غاليا، اذ تتحول القدسالشرقية الى منطقة سكنية مكتظة تفتقر الى الحد الادنى من مقومات الحياة. الوضع الخطير الذي يعيشه أهالي القدس اليوم تفاقم منذ الاجتياح الاسرائيلي للمناطق الفلسطينية في اواخر شهر آذار مارس الماضي، وهي لم تكن بحاجة الى الاجتياح، لان الاحتلال يسكن في كل زاوية فيها. انما عانت من مأساة نتيجة هذا الاجتياح والحصار والحواجز ليس اقل من غيرها من المناطق الفلسطينية. وتعرض السكان للعقاب الجماعي لمجرد وقوع معظم العمليات الاستشهادية في القدس الغربية او المناطق القريبة منها، فمنعوا من التوجه الى العمل في المصانع والمؤسسات مثلما منعهم حصار الضفة الغربية من التوجه للعمل هناك، وفي المقابل لم يصل الى المدينة التجار والسياح من الداخل والخارج، وتحولت تلك الضوضاء التي كانت تميز البلدة القديمة من خلال سوقها التاريخية الى هدوء يدفن في داخله معاناة يعجز المقدسي عن اجتيازها. في تقرير أعده مركز الابحاث في القدس انكشفت الصورة القاتمة التي لم تفاجئ الذين يعملون في المؤسسات الفلسطينية. فتبين ان الفقر بين اهالي القدس يضرب الغالبية الساحقة منهم. والبلدة القديمة حيث يسكن 32 الف مواطن هي من المناطق الأكثر معاناة والأكثر كثافة سكانية في العالم. فمساحتها لا تتعدى الكيلومتر مربع الواحد. والبيوت كلها متداخلة ببعضها بعضا والمنزل الذي يضم 10 أو 12 شخصاً لا تتعدى مساحته 42 متراً فقط ولا يشتمل على اكثر من غرفتين. ويبين التقرير ان معظم البيوت خالية حتى من الحمامات. أما عن السكان انفسهم فيشير التقرير الى وجود نسبة عالية من الامية. وتشكل نسبة الشباب الذين انهوا المرحلة الابتدائية من التعليم فقط، أي في جيل 11 و12 عاماً، 60 في المئة، والأدهى من هذا ان الكثير من بيوت الفلسطينيين غير متربطة بشبكة المجاري ولا تصلها الخدمات الطبية. هذا الوضع الذي يعيشه الفلسطينيون زاد خطورة منذ اربعة اشهر وتفاقم خلال الشهر الاخير. معاناة صامتة الدكتورة نجوى رزق الله التي أعدت دراسة خاصة عن الموضوع تقول "ان السياسة الاسرائيلية التي مورست خلال فترة وبهدوء ومن دون ان تواجه معارضة او حتى كلمة احتجاج، انعكست اليوم بشكل قاس على كل فلسطيني في القدس. الوضع الامني المتدهور هو اساس المشكلة. ففلسطينيو القدس هم اكثر المتضررين من هذا الوضع بسبب موقعهم الجغرافي. فالقدس كانت اكثر المناطق المتوترة امنيا وكل ما كان يجري في الضفة الغربية كان ينعكس مباشرة على سكانها. وبسبب تقطيع اواصر المناطق الفلسطينية ومنع الفلسطينيين اهالي الضفة من الوصول الى القدس، وبينهم الموظفون والعمال، اضطرت غالبية المؤسسات الفلسطينية ان تنتقل للعمل في الضفة، وهذا بطبيعة الحال انعكس بشكل كبير على المقدسيين. وتحججت اسرائيل بالأمن لتمنع الفلسطينيين من دخول مناطقها للعمل، وحتى من اعتقل له شاب او استشهد، سواء كان يقف وراء تنفيذ عملية او حتى قتل من قبل جنود الاحتلال، كان يمنع من دخول المنطقة ويفصل من العمل بشكل فوري ومن دون انذار. الدخول الى البلدة القديمة يشعرك برهبة كبيرة. تلك البلدة التي كانت مركزا تجاريا واقتصاديا يؤمها يوميا الوف الفلسطينيين والسياح تعيش في عزلة، فغالبية المحلات مغلقة والمفتوحة منها خالية من الرواد. الجنود الاسرائيليون على خيولهم يحتلون كل أزقتها وزواريبها. المناطق الاثرية خالية من البشر. والعمال الذين كانوا يصلون الى اماكن عملهم، باتوا يتوجهون الى مكتب التشغيل الذي يسجل العاطلين عن العمل على امل ايجاد اي نوع من العمل. اما ضيوف المدينة فان كانوا من الضفة الغربية فهم محرومون من دخول القدس بسبب الحصار ومنع التجول، وان كانوا من فلسطينيي 4819 فالاوضاع الامنية التي تفرضها السلطات الاسرائيلية تحول دون وصولهم، واما اذا كانوا من السياح الراغبين بزيارة القدس القديمة وآثارها فإنهم يصلون بواسطة مرشد يهودي يلعب دوره جيدا، إذ يرعبهم بخطورة الوضع الامني اذا ما طلبوا منه التجول في المدينة، ويأخذهم داخل سيارة ليمروا مرور الكرام على كل موقع يرغبون بزيارته، ثم يضمن لنفسه الربح الصافي من هذا المطعم الاسرائيلي او ذلك الحانوت في المناطق اليهودية، وهكذا تقع الاماكن الفلسطينية والتجارة الاساسية التي كان يعتمد عليها الفلسطينيون في خسارة فادحة". الدخول الى البيوت الفلسطينية، يظهر الحجم الحقيقي للمأساة، فالبيوت قديمة جدا وبعضها آيل للسقوط. وبسبب الكثافة السكانية تجدها متلاصقة ببعضها بعضا حيث لا حدود بين بيت واخر. الارصفة غير صالحة بتاتاً، واول شعور ينتابك انك تدخل الى مخيم خارج اطار اي حدود دولة. فالفقر والاهمال ميزتان لكل فرد وبيت وموقع. وتقول رزق الله: "التمييز ضد الفلسطينيين ينعكس في كل المجالات، فالخدمات معدومة ولا يمكن مقارنتها بتلك التي يحصل عليها اليهود المجاورون للفلسطينيين المقدسيين، مع ان الاثنين يدفعان الالتزامات نفسها من ضرائب وغيرها. والوضع الاقتصادي الصعب بات يشكل خطراً جدياً على مستقبل أهالي المدينة. فكثير من الشباب يتركون مدارسهم بسبب الوضع الاقتصادي الصعب في البيت، ويأملون بايجاد عمل ينقذ العائلة من الجوع، لكن للاسف معظم هؤلاء يخسرون تعليمهم ولا يحصلون على العمل بسبب قلته او حتى انعدامه. وهذا الامر يولد وضعاً غير انساني وغير طبيعي، كما هو الامر في كل المجتمعات. فيضطر بعضهم الى السرقة ثم ينزلق الى عالم المخدرات". وتضيف محدثتنا: "اثناء اعدادنا للبحث طرقنا بيوت معظم العائلات الفلسطينية في البلدة القديمة، ووجدنا لدى الكثير من العائلات أكثر من شخص يتعاطى المخدرات وبينهم نساء". منطقة الواد في القدس، تعيش ايضاً مأساة. اكتظاظ سكاني كبير في معظم البيوت. معدل الكثافة السكانية 12 شخصاً داخل غرفتين. احدى الامهات تعيش حالة من القلق والخوف إذ قالت لمعدي البحث: "بناتي اصبحن صبايا وأولادي شباب. ربما تقولون عني مجنونة، لكن أقول لكم بصراحة أنا اليوم اخاف على بناتي بشكل كبير، حتى من أولادي. أمنعهم من ارتداء الملابس غير المستورة. وعلى رغم ارتفاع درجة الحرارة والاختناق الذي نشعر به الا انني أخاف ان ترتدي الواحدة منهن سروالاً قصيراً او سترة مكشوفة. والمشكلة ليست داخل بيتي فقط. فنحن كلنا في الحي نشعر اننا نسكن في بيت واحد. فمن يجلس في بيته يرى ما يفعل جاره". وتقول رزق الله: "وجدنا ان النساء الفلسطينيات هن اكثر من يعانين من المشكلة، انما بصمت، فهذه العائلات من الطبقات الفقيرة، لأن العائلات الفلسطينية الميسورة تركت بيوتها بسبب الاوضاع الامنية الصعبة لتعيش في مناطق بعيدة عن المواجهات، اما العائلات التي لا تملك سوى لقمة الخبز وبيتها فاضطرت للبقاء وتحمل المعاناة مهما كانت قساوتها". لكن لماذا الاكتظاظ على رغم مغادرة بعضهم منازلهم؟ لقد ابتدعت اسرائيل التي أرادت تهويد القدس وتقليص عدد الفلسطينيين فيها الى أدنى حد ممكن، الكثير من القوانين، ومنها سحب الهويات من سكان القدس. وكثيرون من الفلسطينيين الذين تركوا بيوتهم للاسباب المذكورة اضطروا الى العودة حتى يحافظوا على هوياتهم. فالقانون الاسرائيلي يلغي حق حمل الهوية المقدسية من كل فلسطيني اذا غاب عن المدينة اكثر من ستة اشهر حتى ولو كانت عائلته تسكن في القدس، وفقدان الهوية يعني فقدان الكثير من الحقوق. وكما تقول معدة البحث، فان الكثيرين ممن انتقلوا مع عائلاتهم للسكن خارج القدس وباعوا بيوتهم اضطروا للعودة، ولما لم يجدوا البيت اضطروا للاستئجار. واكبر بيت مستأجر في البلدة القديمة لا يزيد على غرفتين، والاسعار باتت باهظة جداً قياساً الى مستوى الحياة اليومية، اذ تصل اليوم قيمة استئجار بيت صغير الى اكثر من 300 دولار. مع ان معدل الصرف للفلسطيني في كل شهر لا يتعدى ثلاثين دولاراً. الدكتورة نادرة كورفكيان، التي تعاني في تنقلها اليومي من البيت الى عملها إذ تتعرض الى الانتظار ساعات عدة يومياً بسبب التفتيش. يتركز عملها في البلدة القديمة بين عائلات الشهداء والمصابين. وتقول: "الوضع صعب جدا وخطير والاكثر خطورة ان احداً لا يلتفت الى ما يحدث على رغم خطره الكبير على مستقبل كل فرد فلسطيني. فأهالي الشهداء والمصابين هم اكثر من يعانون من الوضع القائم. فعائلة الشهيد عائلة معدومة تفتقد الى الحاجات الاساسية في حياتها اليومية. والمشكلة الاولى تبدأ في عدم توفير العمل، فكل قريب لشهيد يعني بالنسبة الى اليهود والسلطات الاسرائيلية انه مخرب او ارهابي، فيحرم من دخول أية منطقة للعمل. ثم ان هذه العائلات تتعرض لمضايقات مستمرة، وشعفاط هي اكثر منطقة يعاني سكانها من هذا الوضع بسبب وجود اكبر عدد من الشهداء فيها. فالسلطات تقوم بهدم البيت واحيانا تعتقل الوالد والشقيق والقريب وتضعهم في قفص الاتهام والمراقبة بشكل دائم، وهكذا تتحول حياتهم الى جحيم، ينعكس بشكل مباشر على كل فرد في العائلة. وعلى رغم ان وكالة الغوث الدولية، تقدم المساعدات للسكان هناك الا انهم يعانون من نقص كبير في حاجاتهم الاساسية. والوضع ينطبق ايضا على عائلات السجناء. فكل فرد من عائلة السجين يشكل بالنسبة الى اسرائيل خطراً على امنها". لطفية حرباوي أم لثمانية اطفال. ابنها معتقل، وبسبب الوضع الاقتصادي الصعب توجه زوجها قبل الاجتياح الاخير الى رام الله للعمل، وكما قالت لنا، حتى اليوم لا يستطيع العودة بسبب منع التجول واغلاق المداخل، وبالطبع لم يستطع ان يعمل هناك: "احيانا لا اجد الطعام لاولادي. فزوجي لا يستطيع العودة الى البيت وبكري معتقل. وانا لا استطيع العمل واصلا لا يوجد اي نوع من العمل يناسبني. نعيش كما يقولون: نأكل خبزنا كفاف يومنا، وننام وكلنا أمل في يوم آخر افضل. لعل زوجي يستطيع العودة او ابني يطلق سراحه. منذ اشهر ووضعنا على هذه الحال". تقول وتضيف بقلق: "ما يخيفنا اليوم ان يطول غياب زوجي وبعدها تسحب السلطات الاسرائيلية منه الهوية، عندها سيتدمر بيتنا. فنحن اساساً لا نحصل على جزء بسيط من مستحقاتنا من مخصصات تأمين الاولاد وغيرها، ومع سحب رخصته سنحرم من كل هذه الخدمات التي لا تكفي احياناً لتوفير الطعام لبضعة ايام". وحتى الخدمات الطبية شبه معدومة، واجراءات السلطات الاسرائيلية التي تمنع السيارات من الدخول الى الاحياء، تعيق احيانا كثيرة وصول المريض الى المستشفى في الوقت المناسب وتمنعه احيانا اخرى من تلقي العلاج. وحي الاسباط في البلدة القديمة اكثر ما يعاني من هذه المشكلة. لمياء الشهابي 60 عاما تعاني من مشاكل صحية واجريت لها عملية جراحية في عينها، وتضطر احياناً الى مراجعة المستشفى للعلاج. وبسبب منع دخول السيارات تضطر الى الذهاب الى المستشفى والعودة الى البيت بواسطة حافلة باص. محطتها الاقرب الى بيتها تحتاج الى عشرين دقيقة من المشي على الاقل، وفي المرة الاخيرة لمراجعتها في المستشفى عادت وهي مرهقة وعينها تؤلمها وصحتها متدهورة فاضطرت الى العودة بسيارة اجرة على امل ان يسمح لها الشرطي الاسرائيلي بالوصول الى بيتها بواسطتها. لكن رجاءها وبكاءها وكشفها عن تقاريرها الصحية لم تحرك شيئاً لدى الشرطي الذي أمر سائق التاكسي بالانصراف. المحامي محمد قدح، من مركز القدس للحقوق الاجتماعية الذي يتابع قضايا سكان البلدة القديمة يقول: "ان عدم السماح للمقدسيين بدخول اسوار البلدة القديمة بالسيارات والوصول الى منازلهم وأماكن عملهم ومحلاتهم التجارية أمر غير قانوني يمس بحرية التنقل والتصرف بالاملاك، كما يمس بقانون كرامة الانسان وحريته. وقد تقدم المركز بطلبات الى بلدية القدس لتقديم تصاريح لأهالي البلدة القديمة للدخول بسياراتهم، لكن احدا لم يتجاوب مع المركز". ويلخص اهالي القدس الفلسطينيون قصتهم بمثل شعبي بسيط يقول: "الدار دار أبونا، وأجا جاء الغرباء وقاسمونا وطردونا". فهم يشعرون ويعرفون جيدا انهم غير مرغوبين في بلدتهم وفي وطنهم. يدركون تماما انهم شوكة في حلق المحتل. ومنذ 35 عاما من الاحتلال وهم صامدون، صموداً حقيقياً وليس بالشعارات. يتحملون العناء بكل صنوفه ولا يحققون للمحتل الاسرائيلي هدفه بالرحيل. بل كانوا يتحدون المحتل. فهم يعرفون ان وجودهم في القدس مهمة ذات مغزى اكبر بكثير من مجرد الحياة. انه تثبيت لعروبة المدينة وضرورة للحفاظ على المعالم الدينية فيها وقدسيتها للمسلمين والمسيحيين في مواجهة سياسة التهويد الاسرائيلية التي لم تتوقف دقيقة واحدة خلال سنوات الاحتلال. لكن أهالي القدس الفلسطينيين باتوا اليوم قلقين وخائفين على انفسهم حتى من انفسهم إذ يشعرون بأن مقومات الصمود ايضاً بدأت تنفد