ما إن تدوس عجلات مركبتك شارع صلاح الدين في القدس، بعد غياب سنوات قليلة عنه، حتى ينتابك الشعور بأنك تائه في منطقة غريبة عنك. فلا يعقل أن يكون هذا شارع صلاح الدين، بل لا يمكن أن يكون هذا الشارع في القدس. فلا معالم فلسطينية ولا لافتات توجهك نحو المنطقة التي تسلكها، وكل بضعة أمتار تجد بصمة لمشروع صهيوني. فإذا ما التفتّ يميناً وجدت لافتة كتب عليها اسم مؤسسة إسرائيلية ويساراً يكون المركز الديني مكتظاً بالمصلين اليهود، وعدة أمتار الى الأمام تجد المحكمة المركزية ومقابلها وزارة القضاء ثم الفنادق الإسرائيلية. وفي منطقة البريد، تجد مدرسة دينية قائمة على مساحة تصل الى نحو 1700 متر، تدرك في ما بعد أنها من أهم إنجازات جمعية «عطيرات كوهنيم» اليمينية التي تعتبر كبرى الجمعيات الناشطة في تهويد القدس. جولة قصيرة في شارع صلاح الدين، تدخلك في حال انقباض فتقرر مغادرة المكان نحو مكان آخر، لعله يعيدك الى الاشتياق للقدس الذي دفعك الى زيارتها. لكن ما إن تصل الى نهاية البلدة القديمة، تقع في حلقة استيطان كاملة تحيطك: البراق، الحي اليهودي، و26 بقعة استيطانية داخل البلدة القديمة.... جولة قصيرة أخرى وتجد الفلسطينيين يعيشون داخل جزر في مدينتهم، القدس ... تقف متأملاً. تأخذ نفساً عميقاً، وتتساءل في نفسك هل أنت في زمن تقول فيه «كانت لنا قدس»؟. سؤال إن وجهناه الى فلسطينيي المدينة، الذين يذوقون مرارة الحياة اليومية ومعاناة الاحتلال نجد ردودهم متفاوتة، بين من يقول لك «منيح إذا منبقى في بيتنا»، وآخر «ما بعرف ماذا يحصل معي بعد ساعة، يمكن اذا وصلت رام الله ما ارجع للقدس لأنه ممكن يسحبوا لي هويتي». وما بين من يلوح بيده وملامح اليأس ترتسم على وجنتيه قائلاً: «الله يرحم». اما الخبراء والباحثون في القدس، الذين ترتفع يومياً درجة القلق لديهم من وضع المدينة ومستقبلها، فاذا ما وجهت لهم هذا السؤال، تسبق ردهم تنهيدة عميقة يخرج منها ألم حقيقي لما آلت اليه هذه المدينة المقدسة. «حل الدولتين لم يعد وارداً. والقدس عاصمة لفلسطين... أمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، وفق الوضعية الحالية لهذه المدينة»، كما يقول لنا زياد الحموري مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية. وهذا الرأي مبني على الواقع الذي فرضته الحكومة الإسرائيلية داخل القدس ومشاريعها الاستيطانية الضخمة، التي منعت تواصل المدينة المقدسة سواء بين أحيائها العربية أو بينها وبين بلدات الضفة، «حتى ان المخططات الإسرائيلية خلقت وضعاً يجعل من المستحيل التواصل بين بلدات الضفة نفسها مثل نابلس ورام الله. فقط قبل فترة قصيرة، أغلق مستوطنون الطريق بين المدينتين ولم يقدر أي فلسطيني الوصول الى بيته»، كما يقول لنا الحموري، الذي يرى أن أفضل مشروع يقدم للقدس اليوم هو الحفاظ على من تبقى من سكانها الفلسطينيين. وبرأيه فإذا «نجحنا في الحفاظ على الفلسطينيين سكان القدس فهذا إنجاز كبير لأن التضييقات التي تمارسها إسرائيل عبر جنودها ومؤسساتها التعليمية والاجتماعية، وعبر الجمعيات الاستيطانية التي تعمل بدعم وتعاون مع مختلف الوزارات ، التي لا يمر يوم إلا وتعلن عن مشروع استيطاني جديد، أو حتى عبر المؤسسات التي تسعى جاهدة منذ فترة لتنفيذ خطة، لا تقل خطورة عن الخطط الأخرى الهادفة الى تهويد القدس وهي سحب هويات سكانها الفلسطينيين. فمنذ العام 67 تم سحب 15 الف بطاقة هوية فلسطينية من أصحابها والحملة لمصادرة الهويات مستمرة وبوتيرة أعلى، واليوم يهدد 130 الف مقدسي بسحب هوياتهم بسبب وجودهم خارج الجدار، ووفق ما تضعه إسرائيل من قوانين تستخدمها ذريعة لسحب الهوية فكل من لا يدخل الى بيته سبع سنوات لا يمكنه الحفاظ على هويته ووضعية 130 الف فلسطيني بسبب الجدار قد يحولهم الى لقمة سهلة لهذه السياسة. 80 في المئة تحت خط الفقر ومصادرة 86 في المئة من الأرض المقدسية، في هذه الايام حيث تستعد إسرائيل لاحتفالات ما تسميه «توحيد القدس»، بعد مرور خمسين سنة على احتلالها، وتطرح المشاريع التطويرية والعمرانية والسياحية لازدهار المدينة، يجلس الفلسطينيون، أو لنقل من تبقى منهم، يلملمون جراحهم وهم يخشون تعرضهم لهجرة قسرية جديدة. فتلك المدينة التي ولدوا وكبروا فيها وعرفوها كزهرة المدائن الفلسطينية، بمساحاتها الشاسعة وشوارعها التاريخية ومعالمها الدينية وآثارها الفلسطينية، باتت اليوم مخنوقة في مساحة لا تتجاوز 14 في المئة مما كانت عليه عام 1967، وبعد ان حولت إسرائيل 52 في المئة منها الى أراض خضراء و34 في المئة صودرت بهدف البناء الاستيطاني وتحقيق مشروع القدس الكبرى. يدرك فلسطينيو القدس ان العالم بات غريباً عن وضعية هذه المدينة أو أنه يدرك ويتجاهل وضعية المقدسيين فيها، فهم على حافة انهيار اجتماعي - اقتصادي - تعليمي خطير، ربما لا نجده في مكان آخر. فالمشاريع الاستيطانية والتهويدية لا تتوقف وفي المقابل يغرق الفلسطينيون في هموم حياتهم اليومية وفي الخوف من المستقبل. فالحديث عن 80 في المئة من الفلسطينيين تحت خط الفقر في القدس، يدق ناقوس خطر يستدعي يقظة فلسطينية - عربية - دولية. وفي استعراض سريع لضحايا هذه النسبة العالية من الفقراء، يتبين انهم مدينون بمبالغ طائلة لمختلف الدوائر الرسمية التابعة لبلدية القدس اليهودية، ما يعني انهم معرضون للملاحقة القضائية والمالية وقد تكون هذه لوحدها كافية لأن يهاجروا المدينة للتخلص من الملاحقات الإسرائيلية ومن المطالبة بدفع الديون، حيث انهم لا يملكون تسديدها. والوضعية هذه تنطبق أيضاً على النواحي التجارية والتعليمية والثقافية وهذه جعلت هجرة الفلسطينيين من القدس مستمرة حتى تراجع عددهم الى حوالى 315-310 الف فلسطيني. المنزل منقسم بين الضفة والقدس ربما مأساة عائلة بدران، شمالي القدس، تشكل صورة مصغرة لمعاناة المقدسيين. فبيت عائلة بدران انقسم الى شطرين بسبب الجدار. ربما الحديث يبدو ضرباً من الخيال ولكن هذا هو وضع الفلسطينيين. العائلة الواحدة تنقسم وهي داخل بيتها ما بين مناطق الضفة وما بين إسرائيل. فقد تبين ان 45.8 في المئة من بيت عائلة بدران بقي داخل القدس بعد إقامة الجدار و54.2 في المئة بات تحت منطقة نفوذ الضفة. وتعود معاناة العائلة عندما طلبت مؤسسة التأمين الوطني إلغاء دفع المستحقات لها بادعاء ان بيتها يوجد في الضفة الغربية وليس في القدس، ما يعني، بمفهوم القانون الإسرائيلي، ان العائلة لا تسكن في القدس ولا يحق تجديد لها بطاقة هويتها ولا يمكن اعتبارها من سكانها. فتقدمت العائلة بالتماس الى المحكمة التي أرسلت مساحاً الى بيت العائلة فحدد أن الخط الحدودي يمر داخل المنزل، وان 45.8 في المئة من البيت تقع داخل القدس و54.2 في المئة في الضفة: غرف النوم في منطقة القدس، والصالة وراء الحدود. وفي ضوء هذا التحديد قررت المحكمة أن العائلة تركت القدس. وكل الجهود التي بذلها الدفاع والعائلة للإقناع بانها كانت تقضي معظم وقتها في غرف النوم، الواقعة في منطقة نفوذ القدس، باءت بالفشل، ما اضطرها الى مغادرة القدس. وبطرق مماثلة ألغت إسرائيل، طوال سنوات، المكانة القانونية لأكثر من 15 الف فلسطيني، ولد معظمهم في القدس لكنهم غادروها، ولو لعدة أمتار. داخل غيتو استيطاني منذ مطلع السنة، خرجت إسرائيل بمشاريع كثيرة، استيطانية وعمرانية وتهويدية خطيرة أبرزها: - مشروع الجدار حول الولجة، جنوبالقدس، الذي استأنفت إسرائيل العمل به بعد توقفه ثلاث سنوات. المشروع سيضاعف ضائقة الفلسطينيين حيث ستحاط الولجة بالجدار من كل جوانبها وسيفصل السكان عن أراضيهم بمساحة لا تقل عن ثلاثة آلاف دونم، قسم كبير من هذه الأراضي سيتحول الى المشروع الاستيطاني التهويدي «بارك القدس الكبرى»... - مصادرة منطقة في حي راس العامود في القدسالشرقية، على مسافة قريبة من الحرم القدسي الشريف، بمحاذاة المقبرة اليهودية لإقامة مركز للزوار والمعلومات في المقبرة. وتم إعداد الخارطة من جانب سلطة تطوير القدس بالتعاون مع البلدية. وكتب في مقدمة الخارطة انه مقابل جبل الهيكل، أي الحرم القدسي الشريف، يقترح إقامة مركز خدمات للمعلومات ومكان التجمع. هذا الموقع سيتيح للزوار تلقي الإرشاد والمعلومات حول أماكن دفن أبناء العائلات والأتقياء، بواسطة الشرح والخرائط. وستنطلق من المركز مسارات للتجوال بين القبور، وستقام فيه قاعة للتجمع ودكان ومكتب تخطيط. - مخطط لبناء حي يهودي جديد وراء الخط الأخضر في القدس، لتوطين المتدينين المتزمتين في المكان، الذي يقوم فيه مطار قلنديا المهجور، شمالي المدينة. هذا المخطط أعد قبل سنوات ولكنه تقرر تجميده بسبب المعارضة الشديدة لإدارة الرئيس السابق باراك اوباما، للبناء وراء الخط الأخضر. واليوم بعد صعود دونالد ترامب، أعادت وزارة الإسكان الإسرائيلية المخطط من جديد ويتضمن إنشاء عشرات آلاف الوحدات السكنية. وجاء هذا المشروع بعد صمت إدارة ترامب على قرار إنشاء مستوطنة جديدة لمستوطني عمونة، وتشمل 2000 وحدة في المناطق، ولم ينعت المستوطنات بأنها غير شرعية. - إقامة «مركز تخليد حرب الأيام الستة، تحرير القدس وتوحيدها»، ويهدف هذا المشروع الى تخليد «الموروث الحربي لحرب الأيام الستة وللمحاربين فيها»، وتخليد «المعركة لتحرير القدس وتوحيدها»، وكذلك «تقوية مكانة ومركزية القدس بين الشعب اليهودي». وتشمل مشاريع المركز إقامة متحف وأرشيف وسلسلة من النشاطات والمؤتمرات والبرامج، بالإضافة إلى إصدار منشورات بمختلف اللغات تشرح عن «مكانة مدينة القدس عند الشعب اليهودي»، وإقامة موقع الكتروني، والمبادرة للنقاشات في الشبكات الاجتماعية بهذا الخصوص. - تأسيس «صندوق ميراث جبل الهيكل»، كما يطلق عليه الإسرائيليون، الذي بادرت اليه وزيرة الثقافة ميري ريغف ووزير البيئة وشؤون القدس، زئيف الكين، وسيخصص له مبلغ مليوني شيقل سنوياً، لترويج حملة إعلامية حول ارتباط اليهود بالموقع المقدس، الحرم القدسي الشريف. وهدف الصندوق، وفق ريغف، هو «غرس المعرفة بموضوع جبل الهيكل وارتباط الشعب اليهودي به، في وعي الجمهور الواسع في البلاد والعالم بواسطة أدوات جديدة، من بينها إنتاج منشورات إعلامية بلغات مختلفة، إقامة وتفعيل موقع انترنت متعدد اللغات، لعرض المضامين المتعلقة بميراث جبل الهيكل، نشاطات على الشبكة الاجتماعية، تطوير ونشر دورات موجهة لمجموعات مستهدفة»، وفق ريغف. ولتحقيق المزيد والمزيد من المشاريع وتسهيل عملية تنفيذها، حصلت بلدية القدس على ميزانية ضخمة، وغير مسبوقة، وصلت الى 700 مليون شيقل (قيمة الدولار 3.6 شيقل)، هذه الموازنة، بمعظمها، مخصصة لمشاريع من شأنها تغيير صورة المدينة والتخطيط والعصرنة المدنية. كل هذه المشاريع تنفذ وسط عجز فلسطيني – عربي – دولي عن وقفها. فإسرائيل تعمل ليل نهار على تهويد المدينة. عدد اليهود الذين يعيشون في القدس، تضاعف نحو ثلاث مرات، منذ تم احتلال الجزء الشرقي منها عام 1967، حيث ارتفع من 197700 الى 542000 يهودي. ووفق معطيات نشرها معهد أبحاث القدس، فإن عدد سكان القدس، شرقها وغربها يصل الى 865 الفا و700 نسمة، ما يشكل ضعفي التعداد السكاني في ثاني أكبر مدينة، تل ابيب- يافا. وعلى الرغم من ذلك، فإن من بقوا في القدس من العرب يصارعون بكل قوتهم للبقاء والصمود. هناك 323 ألفاً و700 نسمة عربي في القدس، يشكلون ما يعادل 37 في المئة من سكان المدينة بغربها وشرقي وحوالى ثلثي عدد السكان شرقي القدس، الذي احتل سنة 1967. عملياً، تضاعف عدد الفلسطينيين في القدس حوالى ثلاث مرات، رغم التهجير والتيئيس. ولكن هذا الصمود يحتاج الى دعم جدي حتى يستمر.