يشهد العالم بين حين وآخر موجات تدعو الى مقاطعة تجارية لدولة ما أو لشركة معينة. ويقاطع العالم العربي البضائع الإسرائيلية منذ نشوء الدولة العبرية، وبين فترة وأخرى تجتاحه موجات مقاطعة بضائع دولة ما بسبب دعمها لإسرائيل، خصوصاً البضائع الأميركية. وبغض النظر عن نجاح الدعوات هذه في التأثير على سياسات الدول المستهدفة، فإن عملية المقاطعة التجارية هي قبل كل شيء عملية "تواصل إعلامي". فأي عملية مقاطعة تجارية من دون حملة إعلامية ترافقها، هي مقاطعة فاشلة. ويشير تعريف المقاطعة Boycott بشكل عام إلى العملية التي تسعى لمنع شخص أو مجموعة أشخاص أو مؤسسة أو دول أو مجموعة دول من تنفيذ تعهداتها التجارية، بهدف شلّ حركتها التجارية. ويمكن أن تقر المقاطعة دولة أو مجموعة دول، كما يمكن أن تكون صادرة عن شخص أو مجموعة أشخاص وإذا كانت أشهر المقاطعات التجارية ترتبط باسم غاندي، أب استقلال الهند، وداعية اللاعنف، الذي دعا الهنود لمقاطعة البضائع البريطانية خصوصاً القطن والملابس المصنوعة منه، لإجبار الامبراطورية على منح الهند استقلالها، فإن أول دعوة مقاطعة تعود إلى عام 1905 في الصين وكان هدفها البضائع الأميركية، وجاءت رداً على قرار السلطات الأميركية إغلاق باب الهجرة إلى الولاياتالمتحدة أمام الصينيين. وفي عام 1919 قررت الصين أيضاً مقاطعة البضائع اليابانية بسبب معاهدة فرساي التي جعلت مقاطعة شاندونغ الصينية من حصة اليابان. وفي العام 1925 بدأت مقاطعة البضائع البريطانية بسبب تصدي الحرس الملكي البريطاني بعنف للمضربين في مصانع شانغاي. ويظهر من الأمثلة التاريخية أن المقاطعة التجارية في بداية العمل بها كسلاح بين الدول تتميز بخصائص متشابهة: فهي مواجهة بين طرف قوي قوة استعمارية أو تجارية كبرى وطرف ضعيف في أغلب الأحيان شعوب مستعمرة أو على وشك الاستعمار. يستمد الطرف الضعيف قوته من ارتباط اقتصاد الطرف القوي بمقومات خاصة بالطرف الأضعف ومنها قوة عدد المستهلكين. يدرك الطرف الضعيف الداعي للمقاطعة وجود بدائل للسلع المقاطعة، وأن غيابها لا يؤثر بشكل كبير على حياته اليومية، أو أنه يمكن أن يشكل حافزاً لاستراتيجيته السياسية في صراعه. وقد حاربت القوى التجارية الكبرى بحكم كونها الدول الاستعمارية الأقوى المستهدفة بشكل مباشر، المقاطعة التجارية بأشكالها كافة، بحجة أنها تشكل عائقاً أمام حرية التجارة والوصول إلى الأسواق العالمية، وهي الحجج الأساسية التي استعملت لاستعمار العديد من البلدان. غير أن الدول الكبرى نفسها انكلترا والولاياتالمتحدة وفرنسا لجأت خلال الحرب العالمية الثانية الى المقاطعة التجارية حين وضعت "لوائح سوداء" للشركات المتعاملة مع قوات المحور، بحجة أنها تساعد "اقتصاد العدو" وبررت هذه الخطوة بأنها تدخل ضمن قانون الحرب والدفاع المشروع عن النفس. ولكن هذه الدول كانت وراء التشديد على ذكر تعريف سلاح المقاطعة التجارية في شرعة الأممالمتحدة وتحديد شروط استعماله كسلاح البند 41. وينص البند المذكور على "مقاطعة كاملة أو جزئية للعلاقات الاقتصادية مع دولة تشكل خطراً على السلام العالمي، أو في حال اعتدائها على دولة أخرى. وفي الواقع فقد استعمل سلاح المقاطعة بقرار من مجلس الأمن ضد النظام العنصري في روديسيا عام 1966 وحظر استيراد وتوريد بعض السلع والمواد الأولية إليه. وكذلك استعمل ضد جنوب افريقيا مما ساهم بانهيار النظام العنصري في كلا البلدين. وقد أقر الحظر الاقتصادي الشامل على العراق عقب غزوه الكويت بموجب البند 41 أيضاً. وهكذا نرى أن تعريف سلاح المقاطعة التجارية وتشريعه بهذا الشكل يدفع كل دولة أو مجموعة دول الى المبادرة بإعلان مقاطعة تجارية لدولة أخرى معتدية، بحكم القانون الدولي، لكن الاستثناءات كثيرة، فالولاياتالمتحدة تفرض مقاطعة تجارية صارمة على كوبا منذ أكثر من نصف قرن ، وعلى رغم مخالفتها الصريحة للقانون الدولي فإن المقاطعة مستمرة. وقد توسعت واشنطن باستعمال سلاح المقاطعة التجارية حين فرضت عقوبات خارج نظام الأممالمتحدة وقرارات مجلس الأمن على دول كثيرة مثل كوريا وإيران والسودان وليبيا. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تتحجج بمبدأ "الدفاع المشروع عن النفس" الذي يمكن أن يجد قراءة له في بنود أخرى من شرعة الأمم، فهي، إلى جانب غيرها من الدول، شجبت سلاح المقاطعة العربية ونظام "اللائحة السوداء" الذي وضعته الدول العربية منذ نشأة إسرائيل، وضغطت على الدول العربية لرفع نظام المقاطعة على أساس أنه يتنافض مع شرعة الأمم. وقد يتدخل في بعض الأحيان مجلس الأمن للطلب بموجب قرار قد ينفذ أو لا ينفذ من الدول رفع مقاطعتها التجارية لدولة ما. وأحياناً يمنع موقف إحدى الدول الكبرى التي تتمتع بحق الفيتو من مناقشة الأمر، وهو ما حصل مع لبنان عام 1956 حين قررت الحكومة اللبنانية تحت ضغط الشارع مقاطعة سيارة رينو الفرنسية للتنديد بسياسة باريس القوة المستعمرة في الجزائر. وتردد يومها أن الرئيس اللبناني آنذاك كميل شمعون تلقى تعهداً من الحكومة البريطانية بأن مجلس الأمن لن يبحث في هذه القضية! يظهر من هذا المثال أن المقاطعة التجارية يمكن أن تستعمل لأسباب مزدوجة، فالحكومة اللبنانية امتصت نقمة الشارع عبر إجراء هو أولاً وأخيراً إجراء رمزي، بينما استفادت بريطانيا من إضعاف منافس لسياراتها في السوق اللبنانية. وتؤكد الأرقام أن رينو عانت خلال سنوات عدة من هذه العملية التي هزت صورتها، قبل أن تعود إلى السوق اللبنانية على رغم ان هذه السوق منطقة نفوذ فرنسية. وقد حصل هذا أيضاً مع العديد من الشركات الأميركية، مثل فورد التي تأثرت كثيراً بحملة المقاطعة بعد حرب 1967، وكذلك شركة كوكا كولا التي انتظرت سنوات للعودة إلى أسواق المنطقة لارتباط اسمها رمزياً بسياسة واشنطن. وتلعب العولمة في هذا العصر دوراً في جعل سلاح المقاطعة التجارية سلاحاً ذا حدين من الناحية التجارية الاقتصادية، فتحت شعار العولمة تتدخل السياسة لجعل استعمال هذا السلاح خاضعاً لميزان قوى مغايرة للقوى التي يمكن الاعتماد عليها لاشهار المقاطعة التجارية. ذلك أن الاقتصاد العالمي بات مترابطاً بشكل يجعل من الصعوبة البالغة توجيه سهام المقاطعة التجارية إلى هدف واحد من دون إصابة أطراف عدة. فالمصانع باتت موزعة في أنحاء المعمورة، والسلع تكون نتاج "تعاون" صناعي بين العديد من المراكز الصناعية المنتشرة في القارات الخمس. وبات من الصعب جداً إعطاء "جنسية" للسلعة المصنعة، وأضحت "شهادة المنشأ" عبارة عن ورقة لا تشير الى حقيقة أصول تصنيع ومصدر السلعة. كما أن اتساع العمل بمبادئ "الفرانشايز" يجعل سلاح المقاطعة التجارية يرتد في غالب الأحيان على مشتري حق استعمال الماركة ولا يصيب إلا بقدر قليل صاحب الماركة الذي أعطى حق استعمالها Franchisor. وهو ما يحصل حالياً بالنسبة الى العديد من السلع المستهدفة بحملة مقاطعة السلع الأميركية القائمة رداً على سياسة واشنطن الداعمة لإسرائيل. وتبدأ المقاطعة التجارية في معظم الحالات بالتأثير على "الحلقة الوطنية" في سلسلة حلقات الوصل بين مصنع السلعة ومستهلكها، وقد يتأثر المستورد أو الموزع أو "الفارنشايزي" كثيراً، وقد يصاب بالإفلاس قبل أن "يصعد" التأثير المالي وتبدأ الخسارة بالتأثير على المصنع الأميركي أو المصدر في الولاياتالمتحدة. غير أنه على رغم مفهوم العولمة هذا ، ولا ريب بسبب هذا المفهوم، هناك "حقل" يؤثر مباشرة على المستهدف بعملية المقاطعة التجارية، وقد يكون ذا تأثير أكبر من الخسائر المالية، وهو الحقل الإعلامي لأنه يمس ب"صورته" في سوق الاستهلاك، وقد تترك حملة المقاطعة "خدوشاً" في هذه الصورة الإعلامية - الإعلانية يصعب محوها لفترة طويلة. فالصورة الإعلامية، كما يقول أحد علماء التسويق، مثلها مثل الثقة، من السهل فقدانها، لكن من الصعب جداً إعادة كسبها. لذا فإنه حالما تظهر بوادر حملة مقاطعة تجارية تسعى الشركات أو الدول المستهدفة للضغط على وسائل الإعلام في محاولة لطمس الضجة الإعلامية التي يمكن أن ترافق المقاطعة، أما بالنسبة الى الخسائر المالية فإنها، كما رأينا، تصيب بالدرجة الأولى الوكيل والمستورد الوطني وتسبب في بعض الأحيان عطالة عن العمل وأزمة اقتصادية في بلد المقاطعة يمكنها أن تنقلب إعلامياً على مروجي المقاطعة. وينصب اهتمام الشركة أو البلد المستهدف على تطويق نطاق التداول الإعلامي للمقاطعة والترويج لها. وهذا بعض مما نشاهده في الحملة الجديدة التي انطلقت منذ أشهر، فهي "موجودة على الأرض" وتتسع ممارستها في الواقع اليومي للعديد من المواطنين العرب في الدول العربية. فحلت السجاىر الفرنسية والإنكليزية أو الوطنية محل السجاىر الأميركية، وابتعد المستهلك العربي بنسب كبيرة عن مطاعم الوجبات السريعة الشهيرة التي ترتبط أسماؤها بالولاياتالمتحدة. وتجاوز الأمر السلع والمنتجات الاستهلاكية ليطول المؤسسات الأميركية أو التي تساهم بها شركات ومؤسسات أميركية. ويشير إحصاء نشر أخيراً في بيروت الى أن 2،18 في المئة من اللبنانيين امتنعوا عن الذهاب إلى المستشفى الأميركي، وهو الأكبر في العاصمة اللبنانية، فيما امتنع حوالي 29 في المئة عن مجرد زيارة الجامعة الأميركية بهدف المقاطعة! وتشير نتائج مجموعة من الإحصاءات في عدد من الدول العربية إلى أن ما يعادل 45 في المئة من المواطنين غيروا طبائعهم الشرائية وتوجهوا بشكل أو بآخر نحو خطوات مقاطعة تجارية. وتتجاوز نسبة الذين يبررون هذا التغيير بأسباب سياسية 50 في المئة، بينما تبلغ نسبة الأسباب الدينية 10 في المئة، أما الذين يبررون المقاطعة بهدف حماية الصناعة الوطنية فتكاد نسبتهم تتجاوز واحداً في المئة. وعلى رغم ان هذه الأرقام لا تزال مبعثرة وبعيدة عن الأخذ بكل العوامل في الدول العربية، وهي لا تغطي إلا فترة قصيرة جداً، الا انها مؤشر على قوة الرغبة بالتنديد بالسياسة الأميركية أكثر من كونها مؤشراً على قوة الدعوة الى المقاطعة التجارية، إلا أنها لا تشير إلى موجة عارمة ومتواصلة ذات أهداف محددة ضمن إطار واضح. ولا يعود السبب الى ابتعاد الإعلام عن مساندة حركة شعبية بل الى اتساع الوعي الجماهيري ب"حدود" المقاطعة التجارية وتأثيرها المتواضع على الشركات الكبرى وحكومة الولاياتالمتحدة. وعلى رغم الإرادة الدافعة لحملة المقاطعة التجارية الحالية فإنه يشوبها بعض من مخلفات الحملات السابقة ولا تجاري "تقدم التبادل التجاري في العالم وتطوره". فالحملة الحالية مثل كل الحملات السابقة تشدد على مقاطعة السلع الاستهلاكية المادية سجائر ومأكولات وأدوات ومعدات وغيرها لكنها تهمل "سلع الخدمات" و"السلع الثقافية" الترفيهية أو التربوية أو الإعلامية، في حين أن تبادل الخدمات بات يمثل حوالي 40 في المئة من مجمل التبادل العالمي ويحتل حيزاً كبيراً في مجمل مدخول ميزان التجارة الأميركي. ويمكن طرح سؤال حول جدية مقاطعة مدخن السجائر الأميركية خلال مشاهدته فيلماً أميركياً على قناة تبث عبر الأقمار الاصطناعية تدر الملايين للشركات التي تديرها والتي تملك الشركات الأميركية فيها حصة الأسد! أو أن يناقش مع جاره المقاطعة على الهاتف الخليوي الذي تشكل 40 في المئة من مكوناته سلعاً أميركية أو منتجات يعود ثمن حق استخدامها لشركات أميركية اضافة إلى مشاركة أميركية في معظم رساميل شركات المواصلات العالمية؟ ثم ما النفع من منع الأولاد من تناول وجبات الطعام السريعة ماكدونالد أو كنتكي وإرضاؤهم بشراء لعبة باربي أو ميكي ماوس أو كتاب قد يكون مكتوباً باللغة العربية بينما يذهب ثمن حقوق النشر والترجمة بلغة الضاد الى شركات أميركية تسديداً لحقوقها؟ انها بعض الأمثلة التي تظهر أن المقاطعة التجارية لا يمكن أن تترك سوى تأثير محدود في غياب معالجة شمولية للروابط التي باتت تجمع اقتصاديات الدول بثقافاتها وشبكات التبادل بينها في جميع الحقول. فالعولمة بتمددها الواسع والشمولي أبعدت السياسة والحروب السياسية عن المس بالاقتصاد محرك العالم الجديد اصل المقاطعة تعود تسمية المقاطعة التجارية boycottالمستعملة باللغة الإنكليزية وغيرها من اللغات الأجنبية إلى اسم وكيل لثري إنكليزي في إيرلندا هو شارل كونينغهام بويكوت اشتهر بصلافة معاملته للعمال والفلاحين الذين كان يراقب أعمالهم في الأراضي التي كلف الإشراف عليها. وقد ثار هؤلاء على طريقة معاملته القاسية وقرروا مقاطعة التعامل معه حتى تعهد صاحب الأملاك بتغييره وتغيير أسلوب معاملته للفلاحين. وتعتبر هذه الحركة أول حركة مقاطعة تجارية منظمة سعياً وراء أهداف محددة، توصلت إلى فرض وجهة نظرها ومطالبها من دون اللجوء إلى القوة. الصحافة والسياسيون تلجأ الصحافة احياناً إلى مقاطعة أخبار سياسي أو منظمة معينة أو حتى وزارة ما بسبب مواقف الأطراف هذه من الصحافة بشكل عام أو بسبب تصرف تعرض له أحد أعضاء الجسم الصحافي من قبلها. وتطرح المقاطعة الاعلامية مسألة دور الصحافة في المجتمع المدني. ففي حين يعتبر بعضهم ان الصحافة لا بد أن تدافع عن نفسها بالقلم أو الصورة والخبر وأنه يمكن توضيح ما حدث للرأي العام ليستطيع الحكم على التصرف والتنديد به، الا ان الامتناع عن نقل اخبار جهة معينة هو انتقاص لحقوق القارئ او المتفرج، بينما يرى آخرون ان مقاطعة أخبار المعتدي على الصحافة هو الرد الناجع على التعدي والذي يؤثر في صورته تجاه الرأي العام. أما بالنسبة الى القضايا الخطيرة حين تتعرض جهة ما لأمن الصحافيين والجسم الصحافي لمنعه من القيام بعمله، اي إيصال الحقيقة إلى الرأي العام العالمي، فإن وجهتي النظر تلتقيان على ضرورة زيادة زخم الإعلام المتعلق بالجهة المفترية على الإعلام، كما حصل اخيراً في إسرائيل. فهدف المعتدي على الصحافة يكون أولاً وأخيراً منع وصول الحقيقة إلى الرأي العام وفي هذه الحال فإن المقاطعة تخدم أهدافه.