إلى جانب حربها التدميرية ضد الفلسطينيين، تخوض إسرائيل معركة مع الصحافة العالمية. ففي الخارج تلجأ الحكومة الإسرائيلية لمواجهة كل انتقاد لنهجها القمعي والتدميري عبر وسائل متعددة أبرزها اتهام كل منتقد لسياسة إسرائيل بشكل عام واستراتيجية شارون الكارثية بشكل خاص بمعاداة السامية والعنصرية. كما تلجأ في بعض الأحيان إلى تحريك الشرائح المؤيدة لها في الجاليات اليهودية في الخارج لتوجه رسائل مباشرة لانتقاد الصحافة التي تحاول نقل وجهة نظر تعتبرها السلطات الاسرائيلية مضرة بها. وهكذا ألغى أكثر من ألف مشترك في صحيفة "لوس أنجليس تايمز" اشتراكاتهم بصحيفتهم اليومية لأن مراسلها تحدث عن "إمكان حصول مجزرة في جنين"! وتنهال المكالمات الهاتفية والرسائل البريدية على العديد من أقنية التلفزيون الأوروبية في محاولات مستمرة للضغط على المراكز الإخبارية فيها. أما الرسائل الإلكترونية عبر الانترنت فإنها تستعمل بشكل منهجي ومنظم بهدف "إغراق" إدارات التحرير في أجهزة الإعلام في العالم ب"أخبار تصحيحية"، وهي عبارة عن أخبار مضادة لكل خبر يتناول من قريب أو بعيد إسرائيل وسياستها العدوانية في الأراضي المحتلة. لكن المعركة الأهم هي التي تدور رحاها داخل الأراضي المحتلة، والتي يمكن عنونتها ب"معركة الإمساك بصورة المعارك الإعلامية". وهي معركة بين إسرائيل وجيشها وطواقم الحرب الإعلامية من جهة، تقابلها الفرق الصحافية التي تحاول القيام بعملها الإعلامي من جهة أخرى. وعلى رغم التفاوت الكبير في القوة والإمكانات المتواجهة فإن حسابات الربح والخسائر حتى اليوم ليست لمصلحة إسرائيل على الإطلاق بل أنها تصب في مصلحة حفنة من الصحافيين الذين يغطون المعارك على الأرض. ومثلما هو الأمر في الكثير من القضايا الحساسة جداً بالنسبة الى الصورة التي تود إسرائيل تصوير نفسها بها لدى الرأي العام العالمي، فإن وجود التناقضات بين ما تدعيه من ممارسات ديموقراطية وما تسعى إليه من أهداف، يشكل نقاط ضعف في استراتيجيتها الإعلامية، يتسلل عبرها الصحافيون لتسجيل النقاط. فإسرائيل التي تدعي أنها "واحة الديموقراطية وحرية الرأي والتقدم" في صحراء الشرق الأوسط لا تستطيع منع الصحافة، خصوصاً الغربية من القيام بعملها الإعلامي. وفي المقابل فإن عدم تقييد الصحافة أثناء القيام بحملة عسكرية، مثل الحملة التي تقودها منذ أسابيع في أراضي السلطة الفلسطينية، لا بد وأن يترك أثاراً سلبية جداً على صورتها في الخارج، مهما كان تعاطف القوى الإعلامية معها. وإذا كان بمقدور الماكينة الإعلامية الإسرائيلية التصدي للتحليلات الصحافية المنتقدة لسياسة الدولة العبرية في الخارج والداخل، فإنه يصعب عليها محاربة الصورة الآتية من ساحة القتال والتدمير، خصوصاً في ظل التفاوت الكبير بين قوة جيشها العصري والقوى البدائية المتصدية لها. لذا انصب جهدها على محاربة فرق التصوير الصحافية، بأساليب مخملية ولبقة في المرحلة الأولى سرعان ما تحولت إلى أساليب قمعية وفظة وصلت إلى قمتها بمنع الصحافة من دخول المناطق التي تحولت مناطق عسكرية. وبعدما صورت هذه الإجراءات بأنها تهدف الى "حماية الصحافيين" لم تتردد السلطات العسكرية أمام تصميم بعض الفرق على التحايل على قرارات المنع في إطلاق النار عليهم. وفي الواقع أصيب سبعة صحافيين بجروح، اصابات بعضهم خطرة كما هو الحال مع جيل جاكييه مصور القناة الفرنسية الثانية. وبدأت تتوضح مع الأيام هيكلية الاستراتيجية الإعلامية التي لجأت لها الحكومة الإسرائيلية خلال حملتها العسكرية. وتظهر دراسة معمقة أن هذه الاستراتيجية شهدت ثلاث نقاط تحول رئيسية منذ بدء العمليات العسكرية مرتبطة بأحداث غير مترابطة بشكل ظاهري لكنها تشير بشكل واضح إلى الأهداف الدفينة للحكومة والجيش. ففي المرحلة الأولى طُلب من الصحافيين المعتمدين في إسرائيل بمن فيهم مندوبو الصحافة الإسرائيلية الحصول على "أذونات خاصة" للعمل في مناطق العمليات العسكرية على شكل بطاقة صحافية خاصة بمناطق السلطة الفلسطينية صادرة عن مركز الإعلام التابع للجيش الإسرائيلي في القدس "إم سي جاي" Media Center Jerusalem. وكان التبرير الرسمي لهذا الإجراء هو أن البطاقة الصحافية للمعتمدين في إسرائيل لا تغطي "مناطق السلطة الفلسطينية". وقد ألغيت البطاقات الصحافية الصادرة عن السلطة الفلسطينية التي لا يعترف بها الجيش الإسرائيلي. ولكن بالإضافة إلى هذا فإن تعبئة الاستمارة الجديدة للحصول على البطاقة الجديدة كانت مناسبة للتوقيع على تعهد بتقديم كل الريبورتاجات المصورة للرقابة العسكرية قبل إرسالها إلى الخارج، على أساس أن نطاق العمل الذي تغطيه البطاقة الجديدة هي مناطق عسكرية. ويشتكي العديد من الصحافيين من أن الاستمارة تتضمن أسئلة خاصة وشخصية إضافة إلى شبه تحقيق، مثل رأي الصحافي بالصراع العربي - الإسرائيلي وبمواقفه السياسية وأعماله السابقة، وهو ما تمنعه القوانين الدولية المتعلقة بحرية العمل الصحافي. وخلال المرحلة الأولى من الحرب، حظي المراسلون بحرية حركة محدودة لأسباب عدة، أهمها أن الصحافة العالمية تكفلت بنقل "معلومة هدف الحملة العسكرية" الى الخارج، وهي "محاربة الإرهاب والدفاع عن النفس". وكانت هذه الصورة تخدم الحملة الإعلامية الإسرائيلية، خصوصاً في ظل التوازن في الصورة الإعلامية للرعب الذي تقدمه العمليات الانتحارية. وكان المكسب في الحساب الإعلامي إيجابياً بالنسبة الى اسرائيل، فالعمليات العسكرية تبدو "رداً مشروعاً" على العمليات الاستشهادية بينما الفائض الإعلامي ممثلاً ب"الانفتاح الإعلامي" يصب في مصلحة إسرائيل التي تبدو وكأنها تقوم بعمليات بوليسية أمنية لا عيب فيها تحت مراقبة إعلامية عالمية. ولكن بعد أسابيع من العمل الإعلامي السهل بدأت صور مآسي سكان المناطق التي تعرضت للاعتداء تتدافع على شاشات تلفزيونات العالم وصفحات الجرائد تاركة تأثيراً سلبياً، خصوصاً عندما توقفت العمليات الاستشهادية فاختفى عامل معادلة العنف في الصورة الإعلامية للمعركة. وبات ميزان السلبيات الإعلامية يميل الى الجهة الإسرائيلية ويرتفع ميزان التعاطف مع ضحايا الهجوم العسكري، ويؤثر حتى على أقرب المقربين من إسرائيل لا بل في داخل إسرائيل. خلال هذه الفترة شهد العالم تحولاً في الموقف الأميركي وتصاعدت موجة التساؤل في داخل إسرائيل حول أهداف الحملة العسكرية. وعندها انتقلت السلطات الإعلامية الإسرائيلية إلى المرحلة الثانية التي قضت بمنع الصحافيين بتاتاً من الدخول إلى مناطق العمليات العسكرية، ولكن في المقابل بدأت حملة إعلامية داخل أوساط المراسلين لتخفيف حدة إجراءاتها القمعية، فعمدت فرقها المخصصة للتوجيه الإعلامي إلى "تأمين مواضيع مصورة" وخدمات صحافية "جاهزة للاستعمال" على شكل تحقيقات مصورة قامت بها فرق التصوير في الجيش الإسرائيلي. كما انطلقت الفرق الإعلامية العسكرية بحملة زيارات مجاملة للصحافيين الأجانب في فنادقهم وعلى الحواجز الإسرائيلية، وقام أوليفيه فافويتز الناطق الرسمي باسم الجيش بزيارات الى مركز الصحافة الأجنبية في القدس حيث تقع مكاتب ما يزيد على ثلاثين من كبريات الصحف والمحطات الإعلامية. ولم يتردد في التصريح أمام صحافيين مخضرمين مذهولين بأن "الكثير من الحرية تضر بالديموقراطية". وشهدت المرحلة الثانية بعض التردد في بدايتها إذ حصلت آخر عملية استشهادية في القدس قبيل وصول وزير الخارجية الاميركي كولن باول. وفي حين أراد بعض المسؤولين على السياسة الإعلامية في إسرائيل العودة إلى المرحلة السابقة على أساس إمكان "موازاة صورة العنف الإسرائيلي بعنف العمليات الانتحارية" ورفع إجراءات الحظر عن عمل الصحافيين، لما فيها من صورة سلبية لإسرائيل في الخارج، رفض الجيش ذلك وزاد من صرامة الإجراءات التي تحد العمل الصحافي وحرية تنقل الصحافيين. وشهدت هذه المرحلة التشديد على "إقفال أفواه" الصحافة العربية في الداخل. فتم تدمير مكتب تلفزيون أبوظبي في نابلس. وضُرب مكتب "الجزيرة" وجرى توقيف رئيس المكتب لساعات، وسحبت بطاقات عدد من الصحافيين من فلسطينيي 1948 العاملين في مؤسسات صحافية أجنبية بي بي سي وايه بي ومرافق مراسل سي إن إن على رغم أن الدستور يؤمن حرية خاصة لحاملي الهوية الإسرائيلية. ولم يكن الانتقال إلى المرحلة الثالثة من التشديد الإعلامي بصورة طوعية فقد فرضته الأحداث من جهة ومن جهة أخرى التصميم الذي أظهرته الفرق الصحافية للقيام بعملها والتخلص من "الغطاء الفولاذي" الذي فرضته السلطات العسكرية على الأخبار. وضاعف من هذه الرغبة المعلومات التي بدأت تتواتر عن "مجزرة جنين" في ظل معركة شرسة كان صحافيون يشاهدونها بالعين المجردة عن بعد ويجهلون حصيلتها على الأرض. ويروي صحافيون عائدون من الأراضي المحتلة التجربة التي عاشوها في محيط جنين وكأنها إحدى أهم محطات حياتهم المهنية. ويقول بعضهم أن "التعاون بين الصحافيين من أجل الوصول إلى المخيم محا التنافس المهني الذي يميز العمل الصحافي" ويضيف برونو دارو من راديو فرنسا الدولي، أنه "كان من واجبنا معرفة ما يفعله الجيش الإسرائيلي في الداخل لكننا لم نكن نحصل إلا على إشاعات": أما كريستوف سيمون من وكالة الأنباء الفرنسية فيقول أن العمل في ظروف كهذه "تشحذ همة الصحافي المهني". وأظهرت الصور والتحقيقات في ظل الحملة العسكرية الإسرائيلية الصحافيين وقد وضعوا الخوذات الحديدية على رؤوسهم وارتدوا البذلات الواقية من الرصاص ويقول لي هوكستادر مراسل "واشنطن بوست" أن "المهمة خطرة جداً ويحوم الموت فوق رؤوس الصحافيين حيث يتطاير الرصاص الطائش". ودفعت الأنباء الآتية من داخل مخيم جنين الصحافيين ما لا يقل عن خمسة وعشرين فريقاً الى التجمع في مثلث روحانة - برقين - سالم في محاولة لتجاوز الحواجز الإسرائيلية التي كانت تسد الطريق إلى داخل المخيم الذي كان يشهد المجزرة. ويقول ساندرو كوتنتا مراسل تورونتو ستار أن الدبابات الإسرائيلية لم تتردد بمواجهة سيارات الصحافيين المصفحة لمنعهم من دخول المخيم. وعلى رغم نجاح بعض الصحافيين بالاقتراب من المخيم فإنه يمكن القول أن عملية الإغلاق الإعلامي المحكم نجحت في إخفاء ما قام به الجيش الإسرائيلي في جنين، ومنعت الصحافة العالمية من تغطية أخبار ما دار فيه من معارك. لكن هذا النجاح كان نجاحاً على صعيد سياسي وعسكري فقط، فهو منع الإعلام من التأثير على سير العملية العسكرية وتركها تتم حتى نهايتها المرسومة، ولكنه يعتبر فشلاً إعلامياً، فاللجوء إلى منع الصحافة بالشكل الذي تم خطأ إعلامي من الدرجة الأولى لأنه يدخل الشك أساساً ويحول دون أي إمكان لتبرير ما حصل من مجازر بأي حجة كانت. وبدأت إسرائيل تدفع ثمن أخطائها في إدارة المعركة الإعلامية، بصدور قرار الأممالمتحدة الرقم 1405 بتشكيل لجنة تحقيق. ولا بد أن تدفع ثمناً إعلامياً أكبر عندما تظهر نتائج التحقيقات وتعود الصحافة بعيداً عن الضغوط لتقوم بعملها وتخرج بنتائج مبنية على إثباتات وأرقام ودلائل، فتدخل إسرائيل في معركة جديدة على ساحة حقوق الإنسان والقانون الدولي حيث لا تنفعها دبابة أو طائرة، وتعود فرق الحرب الكلامية في محاولة ترميم ما خرّبه هذا الجيش