سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    هل ينهض طائر الفينيق    التعاون يتغلّب على الخالدية البحريني بثنائية في دوري أبطال آسيا 2    «الكوري» ظلم الهلال    «فار مكسور»    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    شخصنة المواقف    النوم المبكر مواجهة للأمراض    المستجدات العالمية والتطورات الجيوسياسية تزيد تركيز المملكة على تنويع الموارد    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    اجتماع قادة الصناعة المالية الإسلامية في اللقاء الاستراتيجي الثاني لمناقشة الابتكار المستدام    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عقدة العلاقات مع انقرة تتحكم بها المصالح المتداخلة . أتراك ألمانيا : خوف من الاصوليين وسجال مع اليسار
نشر في الحياة يوم 04 - 02 - 2002

اعتبرت العلاقات التركية - الألمانية متميزة بالتفاهم المشترك والاستيعاب التاريخي للعبة المصالح الدولية، لكن هذين العنصرين اتسما بالضعف ابان عهد القياصرة الألمان، والولاة العثمانيين الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً وهيمنة، ثم قويت أركانهما في عهد السلطان عبدالحميد والمستشار الألماني فون بسمارك، لينحدرا بعد ذلك خلال عهد المستشار المحافظ هيلموت كول وقادة تركيا العلمانية، والسبب خشية كلا البلدين من علاقات اجتماعية لا يقبلها الأتراك لاعتقادهم أنها ستكون اندماجية على حساب ثقافتهم وتراثهم الحضاري وعقيدتهم الدينية.
والملاحظ فقدان الثبات في هذه العلاقات، والأصح أنها لا تتحرك إلا وفق لعبة المصالح، والدليل على ذلك تصريحات المستشار السابق كول، الذي تحدث في أواسط التسعينات عن تعذر قبول الأتراك في الاتحاد الأوروبي، لمبررات صدامية حضارية، تضع التناقضات الدينية في رأس القائمة، فأثار موقفه غضبهم، وأدى إلى اتهامه وحكومته بالعنصرية والتجني.
لكن لم تكد تمضي بضع سنوات حتى توجه كول، ذاته، إلى تركيا ليشهد عقد قران أحد نجليه من شابة تركية، وتقدم أفراد عائلة العروس المشيعين في دفن عقيلة المستشار السابق. اي أن الأسباب الحضارية الدينية لم تكن سوى سياسة في واقعها، إذ لم يجد كول مانعاً من مصاهرة عائلة من البلد الذي رفضه، بعدما لم يعد مستشاراً لحكومة بلاده، ولا زعيماً لحزبه المحافظ.
وهناك دليلان آخران على تداخل المصالح بين تركيا والمانيا وتعدد جوانبها، أحدهما ايجابي والآخر سلبي. يتعلق الأول بإعلان للمحكمة الدستورية الاتحادية السماح للمسلمين، ومعظمهم من الأتراك، بنحر ذبائحهم وفق مقتضيات شريعتهم الدينية، لتلغي بذلك قراراً أصدرته قبل سنوات المحكمة الإدارية العليا، مستنداً إلى "قانون حماية الحيوان"، الذي يعتبر طريقة النحر الإسلامي تعذيباً للحيوان.
كانت هذه القضية معضلة للألمان، الذين ظلوا يجتهدون للتوصل إلى حل وسط لها، لاعتقادهم باستخدام الأتراك "أساليب ملتوية" لتحقيق ما يريدون، كأن يحولوا منازلهم إلى مذابح، وتتسع هذه الأساليب خلال عيد الأضحى، عندما يتم نحر مئات الآلاف من الخراف خارج المذابح المعتمدة. وقبل شهور من صدور آخر قرار قضائي اعلنت ولاية هيسن نجاح المفاوضات مع ممثلي الأتراك على أساس تخدير الحيوانات قبل النحر، ثم أعلن في مدن المانية أخرى التوصل إلى حلول أخرى تجيز تخصيص مجازر للمسلمين ضمن المجازر الألمانية على أساس "غض السلطات النظر".
الواضح ان وسائل الإعلام الألمانية سلطت الكثير من الضوء على هذا الموضوع، معتبرة موقف الأتراك من عملية النحر "حائلاً دون التقارب ودمج الجالية التركية في المجتمع الألماني".
وإذا كان قرار المحكمة الدستورية الاتحادية وقف إلى جانب الأتراك والمسلمين بشكل عام، فإن وقائع الدليل الآخر حدثت قبل 81 عاماً عندما أصدرت محكمة المانية أخرى قراراً أثار غضب الأتراك وأدى إلى اتهام القضاء بالانحياز ضد الجالية التركية، على رغم ان العلاقات التركية - الألمانية كانت في أحسن حالاتها، بسبب وقوف العثمانيين إلى جانب الامبراطورية الألمانية في الحرب العالمية الأولى.
بدأت القضية في برلين في آذار مارس 1921 بعد أن ألقت الشرطة الألمانية القبض على شاب أرمني من أصل إيراني يدعى سالومي تايليريان، متلبساً بجريمة قتل شخص أجنبي. أصر الألمان في البداية على اخفاء هويته، ثم تبين أثناء المحاكمة أنه لم يكن سوى طلعت باشا الوزير الأول ومسؤول الشؤون الداخلية لدى السلطان عبدالحميد.
ومثلما كانت هوية القتيل مفاجأة للرأي العام، كانت تفاصيل الجريمة ودوافعها لا تقل مفاجأة، اذ كشف أن الوزير الأول التركي فر الى برلين في أعقاب اندحار تركيا في الحرب، وانهيار الدولة العثمانية، وقبله الألمان لاجئاً سياسياً، ثم عمل على تأسيس "نادي الشرق" في المانيا مع أنه مسؤول الاشراف على ملاحقة الأقلية الأرمنية، وارتكاب مجازر بين أبنائها.
ذكر أثناء النظر في قضيته أنه أراد من فعلته الانتقام لمقتل مئات الآلاف من مواطنيه الذين راحوا ضحية رغبات السلطان عبدالحميد ووزير داخليته الذي تابع تنفيذ الجريمة. ولم ينظر في القضية أكثر من 48 ساعة، إذ قرر القضاة إخلاء سبيل الجاني الأرمني لأنهم اقتنعوا بأن رئيس الوزراء العثماني "كان المخطط والمنظم والمسؤول الثاني عن أول جريمة قتل جماعي ترتكب ضد أقلية دينية".
وكشفت المحكمة ان المسؤول العثماني أصدر أمراً في تشرين الثاني نوفمبر 1915 الى رئيس الادارة العثمانية في مدينة حلب يأمره باستخدام "كل الوسائل الممكنة لتصفية الأرمن المقيمين في المناطق الشرقية"، واشترط التنفيذ السري للجريمة. وبدا في حينه أن الألمان اتخذوا من خلال محكمة الجنايات الكبرى في برلين قراراً سياسياً برأ القاتل وأدان القتيل، لأنهم أرادوا بذلك "توجيه رسالة" ترضية لذوي الضحايا والجالية الارمنية بشكل عام، حظيت بموافقة الرأي العام الألماني ولم يعارضها سوى أفراد الجالية التركية القليلة العدد آنذاك.
وبدت قضية الأرمن آنذاك كما لو ان صفحات جوانبها المتعددة طويت عند ذلك الحد، وأسدل الستار عليها. لكن ذلك لم يكن سوى أوهام، بعدما عادت دماء الارمن الى الواجهة في 1977 عبر اتجاه البرلمان الأوروبي لاصدار قرار يدعو الحكومة التركية لحل قضية الارمن سياسياً، بعد اعترافها بما تعرضوا له من مذابح وتشريد وملاحقات. لكن الأتراك استغلوا وجود جاليتهم الضخمة ليسيّروا تظاهرات في برلين تحتج على موقف أوروبا، وأكدوا براءتهم من الجريمة "براءة الذئب من دم ابن يعقوب"، ما اضطر الأوروبيين الى نشر وثيقة ادانة جديدة للأتراك وجهها الوزير العثماني في العام 1915 ورد فيها "اطلعت على وجود بعض المراسلين الصحافيين الارمن في منطقتكم، بعدما حصلوا على صور ووثائق بشأن ما جرى لمواطنيهم، سلموها للقنصل الأميركي، عليه آمركم باعتقال هؤلاء الأشخاص الخطرين، والتخلص منهم".
وبدا موقف الجالية التركية الضخمة ضعيفاً بعد نشر هذه الوثيقة في المانيا، الأمر الذي أعاد تسليط الضوء عليها في وسائل الاعلام، خصوصاً أن الذين تمت تصفيتهم من الأرمن كانوا صحافيين لم يتعد دورهم جمع الحقائق، وكشف النقاب عن المستور منها، ما أعاد الى أذهان الرأي العام الصورة القديمة التي بدأت تتشكل منذ مطلع الستينات، فكيف تم ذلك؟
كانت أحداث العام 1961 وما تلاه، داخل المانيا، ترتبط مباشرة بإعادة تعمير الدولة التي دخلت حربين عالميتين مدمرتين في أقل من عشرين عاماً، وكان زخم الانتاج والتكتل الاجتماعي داخل هذه الدولة على أشده، خصوصاً مع وجود مئات الآلاف من الوظائف الشاغرة، قدرت العام 1961 وحده بنصف مليون وظيفة، ما دفع باتجاه التحرك السريع نحو شغيلة الدول القريبة من المانيا، وكانت تركيا في رأس القائمة، ليس لاعتبارات تنحصر في الحاجة لاستيعاب ضيوف جدد سيتبين أنهم لن يعودوا أبداً باختيارهم، بل لأن العمال الأتراك كانوا الأقل كلفة والأكثر اندفاعاً نحو العمل، بسبب معاناتهم من البطالة التي كانت تركيا تشهدها في تلك الفترة التي تميزت بالاضطرابات السياسية والانقلابات وهيمنة الديكتاتوريات العسكرية.
قادت هذه الظروف الى قرار المستشار الالماني لونراد اديناور إيفاد مبعوثين وهيئات تتولى دراسة الأمر مع الجانب التركي، الذي وجد في الحاجة الالمانية للعمال هدية من السماء، فعجلوا في تشرين الأول اكتوبر 1961 بتوقيع اتفاق مع الجانب الالماني اعتبر حجر الأساس في تاريخ التعاطي مع العمال الأتراك، مع أن طلائع الشغيلة التركية بدأت في التوافد على المصانع في المانيا بحلول 1957 إلا أن الهجرة ببعدها الواسع المفتوح بدأت في أعقاب التوصل لذلك الاتفاق.
وبعدما كان عدد العمال الأتراك في نهاية 1960 لا يتجاوز ثلاثة آلاف، وصل بحلول 2001 الى 2.2 مليون نسمة. وإذا نظرنا الى الهرم التصاعدي لهجرة الأتراك الى المانيا نجد ان عددهم بلغ بعد مضي عشر سنوات 650 ألفاً، ثم تجاوز في 1973 حاجز ال900 ألف. وفي ذلك العام أقدمت الحكومة الالمانية على اتخاذ قرار مفاجئ بوقف ابرام عقود التعاقد مع عمال من خارج دول المجموعة الأوروبية، نتيجة للأزمة الناجمة عن الارتفاع الكبير في أسعار النفط، ومن ثم نتيجة لحرب تشرين الأول اكتوبر1973، وخفض الدول العربية النفطية حجم انتاجها.
بدا واضحاً ان القرار الألماني كان يشمل في الدرجة الأولى عمال تركيا بعدما خُير الموجودون منهم في المانيا بين المغادرة أو البقاء، بعدما كان المغادرون يتمتعون بحق العودة الى المانيا متى شاءوا.
برر الألمان خطوتهم المثيرة بسعيهم نحو خفض عدد الأجانب المقيمين في بلادهم، بسبب بدء مؤشرات على تراجع في الاقتصاد الالماني. لكن هذا الهدف لم يتحقق أبداً، والذي حصل أن العمال اختاروا البقاء، ونتيجة ذلك بدأوا خطوة معاكسة تجسدت في استصحابهم عائلاتهم التي كانت لا تزال في تركيا، ما أدى الى مضاعفة عدد الأتراك خلال فترة لم تتجاوز 15 عاماً.
وجدت الحكومة الالمانية نفسها أمام مأزقين، الأول نتيجة مباشرة لخطئها الاستراتيجي بالسماح للأتراك باستقدام أسرهم للعيش معهم، أما الثاني فقد برز من خلال اعلان الدولة فشلها في تحقيق دمج الأتراك في الحياة الالمانية العامة، ما دفع حكومة المستشار كول، نهاية تشرين الثاني نوفمبر 1983 الى اصدار تشريع جديد اسمته "قانون حفز الأجانب على العودة الى بلدانهم".
ومن جديد كان الأتراك المعنيون أساساً بالقانون الذي طلب تقديم 10.5 آلاف مارك الماني لكل بالغ و1500 مارك للطفل، شريطة توقيعهم تعهداً باسقاط أي حقوق لهم في المانيا. وهكذا فإن هذه المغريات أسفرت حتى نهاية أيلول سبتمبر 1984 عن عودة زهاء ربع مليون نسمة من الأتراك، لكن الأمر لم يعالج شيئاً من قضية أفراد الجالية التركية، التي ينتمي كل الجيل الأول منها ومعظم الجيل الثاني الى عمال ريفيين ينحدرون من المناطق الشرقية والجنوبية، التي تعاني من اهمال الحكومة المركزية. أما الجيل الثالث ومعظم الذين ينتمون اليه فقد ولدوا في المانيا، اذ دخل اكثر من عشرين الفاً منهم المعاهد والجامعات الألمانية، كان حوالي ثمانين في المئة منهم يقيمون اقامة دائمة، لكن اللافت ان عدد الطالبات من هذه الفئة تضاعف خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة ثلاث مرات ليصل الى 34 في المئة من مجموع الطلاب الأتراك، بينما تشير الاحصاءات الى ان 15 في المئة من ابناء الأتراك يواصلون دراستهم الجامعية.
ويلفت تقرير سنوي لدائرة التحريات الجنائية الى ارتفاع نسبة الجريمة في أوساط الجالية التركية بشكل خاص، والى هيمنة شباب أتراك على المتاجرة بالمخدرات ودور البغاء، في مقابل تزايد التوجه الديني لدى قطاع واسع من الشباب، وتشكيلهم الجدار المتين للتيار الأصولي المتشدد الذي بدأ منذ سنوات يثير قلق الألمان ويزيد مشاعر الغضب والكراهية ضد الوجود التركي.
ويتهم الأتراك وسائل الإعلام الالمانية بتعمد نشر التقارير والمعلومات السلبية عنهم، بهدف "تعميق مشاعر الرفض" في المجتمع الالماني، واعتبارهم خطراً مباشراً على الاستقرار والنظام في المانيا، الأمر الذي "انعكس في تعريض المؤسسات والمصالح ودور السكن التركية الى هجمات متطرفين المان، أسفرت عن مقتل وجرح عدد من الأتراك، والحاق خسائر مادية جسيمة بالممتلكات، أبرزها في مدينتي سولنغن الشرقية ومولن الشمالية. ونتيجة لهذا التطور ضد الأتراك تزايدت مشاعر الغضب والكراهية في بعض الأوساط الالمانية ضد الوجود الاجنبي برمته، حتى شهدت الفترة المحصورة من 1986 الى 1999 أكثر من 400 اعتداء. واللافت ان أعمار الجناة الألمان كانت في الغالب دون العشرين. وهناك احزاب سياسية متطرفة تبنت مواجهة الوجود التركي، أبرزها حزب اتحاد الشعب الألماني، والحزب الديموقراطي الوطني، وكذلك التجمعات التي تضم حليقي الرؤوس. وبدا أن مواجهة الأتراك دخلت نفقاً جديداً.
تنامي الأصولية
ولعل تنامي التيار الأصولي بقوة في الأوساط التركية، وتحوله الى مشروع تحدٍ للسلطات الحكومية، خصوصاً قوى الأمن، أدى الى تسليط أضواء جديدة على الأتراك بشكل عام، أسفرت عن تصعيد السجال بين السلطات والجماعات الأصولية، نتج عنه اعتقال كثير من القيادات الدينية واغلاق مقارها وتجميد ممتلكاتها.
قبل إنشاء حزب "الرفاه الوطني" في آذار مارس 1971، لم تكن الحركات الأصولية التركية تجد ظهيراً قوياً يعمل لمصلحتها ويدعم مشاريعها للتمدد فوق الأرض الالمانية، ومع تشكيل هذا الحزب بدأ الأصوليون يتطلعون الى زعيم قوي مثل نجم الدين اربكان، يطلقهم من عقالهم، ويعمل على توحيد أطرهم المتناقضة، ومن ثم يقودهم لاطلاق رصاصة الرحمة على العلمانية الأتاتوركية. وبالفعل عمل حزب "الرفاه" خلال أحد عشر عاماً على تفسير المشاعر الدينية لدى الأتراك، خصوصاً العمال والفلاحين، الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين الى المانيا. وما أن أطل العام 1982 حتى كانت شوكة الاصولية الدينية التركية قد قويت بشكل لم يعد ينقصها غير وجود زعيم قوي، يقودها ويعمل على دمج عناصرها، فتحرك "الرفاه" هذه المرة بشكل أكثر تنظيماً، بعدما انشأ في عام 1976 "الاتحاد التركي في أوروبا" ثم فرّخ "اتحاد المدى الدولي"، وهو عنوان لكتاب صدر في تلك الحقبة لنجم الدين اربكان.
وفي 1982 وصل الى المانيا كمال الدين كبلان، رجل الدين الذي كان يشغل حتى ذلك الحين منصب قاضي مدينة ادنة، وكان تكليفه من اربكان بهذه المهمة الجديدة مؤشراً الى حدوث القطيعة بين كبلان والخط الحكومي التركي الذي كان يتبناه خلال وجوده في تركيا. وبهذه الطريقة وضح حجم المواجهة المقبلة بين الحكومة في انقرة والأصولية المتنامية في المانيا، بعد ما تزعمها أحد اعوانه السابقين. وبالفعل أقدم الأتراك الرسميون، اثر وصول كبلان، على الاحتجاج لدى السلطات لذلك "العدد الكبير من الجمعيات الاسلامية الخاضعة لاشراف جماعات متطرفة داخل تركيا تهدف لتقويض ديموقراطيتها"، ومنذ ذلك الحين أطلق الأتراك على كبلان لقب "الصمت الأسود"، واطلق هو على نفسه لقب "خليفة الجمهورية الاسلامية التركية". وبعد ان حوّل كبلان اسم استانبول الى "اسلامبول" لتكون عاصمة مقبلة لخلافته، سارعت أنقرة لتكوّن في برلين "اتحاد الجمعيات الاسلامية"، والحقت به عدداً من الجمعيات والمساجد، في محاولة، على ما يبدو، لمواجهة مد كبلان الجديد، وفي سعيه لكسب موالين أكد الاتحاد التركي الحكومي انه يعمل من اجل الغاء القيود المفروضة على تحركات الأتراك داخل أوروبا، ومن أجل تعزيز الحوار "الاسلامي المسيحي".
ونجح الاتحاد في نهاية الثمانينات في لفت السلطات الالمانية الى "خطورة" تنظيمات كبلان الأصولية، وتهديدها للمكاسب الديموقراطية في تركيا والمانيا على حد سواء. الأمر الذي ساعد في تسليط ضوء جديد على المساجد التي يديرها الخليفة التركي الجديد، ومن ثم تأليب جديد للرأي العام الالماني ضد الوجود التركي برمته. ثم توجه الالمان الى عزل كبلان فأعلنوا رسمياً انه وجماعته يشكلون خطراً على التعايش بين الأقلية التركية والمجتمع الذي تعيش وسطه، ويبدو ان خطوة هذه الجماعة انشاء صحيفة يومية تدعى "ملي غازيت" كانت اللحظة الحاسمة في تكريس القطيعة، فتم دهم مقرها، والجمعيات التابعة لها، واعتقل عدد من العاملين مع كبلان، وفي مقدمهم رئيس تحرير الصحيفة الذي كان في الوقت نفسه رئيساً ل"جمعية المدى الدولي".
ظلت السلطات الألمانية تتابع جماعة كبلان حتى بعد وفاته، فاعتقلت ابنه الخليفة الجديد وادانته بتهمة التحريض على قتل أحد المنشقين عليه، ولتسدل الستار رسمياً على هذه الجماعة بعدما أغلقت مقارها، وتم التحفظ على ممتلكاتها. لكن المشكلة في المانيا ليست كلها مع الأصوليين، فهناك السجال بين اليسار واليمين، الذي تحول صراعاً دموياً خلال النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، وهناك المواجهات الخطيرة التي اندلعت خلال الفترة ذاتها بين الأتراك ومواطنيهم المنزوعي الحقوق من الأكراد اللاجئين الى المانيا، التي أدت الى خسارة فادحة في الممتلكات وبعض الخسائر البشرية، ثم هناك الاستغلال السياسي للورقة التركية بما فيها الكردية وحزب العمال الكردستاني، الذي تمارسه جميع الأحزاب الألمانية، والذي يبدأ من العلاقات العسكرية مع تركيا وينتهي بمسألة حقوق القوميتين التركية والكردية في المانيا.
وإذا كان الوجود التركي داخل الدولة الأوروبية مطبوعاً بالتوتر وعدم الاستقرار في كثير من الأحيان، فإن السلطات الحكومية الألمانية ما انفكت تتحدث عن الدور الايجابي للأتراك في رفد الاقتصاد ودفع مليارات الماركات آنذاك ضرائب للخزينة من حوالي 44 مليار مارك من الأرباح يحققها سنوياً 39 ألف تاجر وصناعي تركي، عدا المعدل السنوي للاموال التي يحولها الأتراك الى بلادهم وتبلغ 3 مليارات مارك، فيساهمون كذلك في دعم الاقتصاد المنهك لبلادهم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.