تناقلت وسائل الاعلام الروسية أخيراً ان الاستخبارات الروسية عثرت بين حاجيات وأوراق شخصية للرئيس الشيشاني الراحل جوهر دودايف العام 1995 على مخطط خطف غواصة ذرية روسية، ونسبت الى الجنرال فلاديمير مولتينسكوي قائد القوات الموحدة في القوقاز قوله ان المقاتلين كانوا سيوجهون سلاح الغواصة نحو أهداف ساحلية وينذرون موسكو بضرورة اعلان استقلال جمهورية الشيشان ثم ينسحبون من الغواصة حاملين رأساً نووية مفككة على سبيل التغطية. وفي هذا السياق لا بد من تكوين صورة عن وضع أسطول الغواصات الروسي اليوم. يفيد تقرير "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" في لندن: "التوازن العسكري للعامين 2000 - 2001" ان روسيا، شأن سائر الدول البرية الكبيرة، قلصت قواتها البحرية عددياً بعد انتهاء الحرب الباردة. إلا أن هذه العملية جرت في روسيا بسرعة بالغة أدت الى تقلص أسطولها البحري العائم والغائص بنسبة 80 في المئة منذ بداية التسعينات". ويضيف التقرير ان لدى روسيا الآن العدد نفسه من السفن الحربية وحاملات الطائرات الموجودة في حوزة الأسطول البريطاني. إلا أن روسيا تقليدياً سجلت تفوقاً بالغاً على بريطانيا من حيث عدد الغواصات. وبعد اعتماد مبالغ كبيرة للقوات البحرية الروسية باتت صيانة وتجديد الغواصات الضاربة والمدمرة المزودة بالصواريخ الموجهة اضافة الى حاملات الطائرات والسفن المرافقة تشغل المرتبة الثانية من حيث الأولوية في الأسطول الروسي بعد الغواصات الذرية الحاملة لصواريخ توبول اس اس - 28 الاستراتيجية البالستية. ولم يأخذ التقرير في الاعتبار ان روسيا كانت ستنزل الى الماء في 4 كانون الأول ديسمبر 2001 الغواصة الذرية الجديدة "هبارد" النمر المقاتلة البحرية العملاقة المتعددة الأغراض التي استمر العمل في بنائها في حوض سيفيرودفينسك عشر سنوات. وحلت الغواصة الجديدة في الأسطول الروسي الشمالي محل شقيقتها الغريقة "كورسك" ووصفتها الصحف الروسية بباكورة أسطول الغواصات الروسية في القرن الواحد والعشرين، وطاقية الاخفاء، كونها الغواصة الهادئة الأقل ضجيجاً في العالم. طولها أكثر من مئة متر وحمولتها 12770 طناً، وسرعتها القصوى 35 عقدة وعمق الغوص 600 متر، وطاقمها 60 - 70 شخصاً، وسلاحها 24 صاروخاً نووياً مجنحاً بعيد المدى 3 آلاف كيلومتر. إلا أن المصادر الروسية تفيد أن إرث روسيا من القوات البحرية السوفياتية في العام 1992 بلغ أكثر من 200 غواصة، بينها حوالي 70 غواصة ذرية، ومن هذه الأخيرة 56 غواصة حاملة للصواريخ الاسترايتجية، موزعة على أربعة أساطيل في الشمال والمحيط الهادي وحوض البلطيق والبحر الأسود، اضافة الى اسطول قزوين وقاعدة بطرسبورغ البحرية. وكان سبب هذه التركة الكبيرة ان معظم أجزاء الاتحاد السوفياتي رابطة الدول المستقلة لا تملك حدوداً بحرية. وجاءت معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لتعجل في تصفية هذه التركة أو تقليصها. وشملت التصفية بالطبع أضعف الحلقات وأكثرها تأخراً من الناحية التقنية. وعلى رغم التقليص الذي طال 116 قطعة بحرية، بينها 21 غواصة عتيقة، تلقى الأسطول البحري الروسي في العام 1992 خمس غواصات ذرية جديدة. وفي العام 1995 تقلصت موجودات الأسطول البحري عموماً بنسبة 22 في المئة، فيما تقلصت العام 2000 بنسبة 16 في المئة. ووفقاً للمعاهدة المذكورة تقلصت القوات النووية الاستراتيجية في الأسطول الروسي الى أقل من النصف. غير ان المصادر العسكرية الروسية تؤكد ان روسيا قادرة على حماية مصالحها في المناطق المذكورة أعلاه في كل الأحوال. وفي شأن المخطط الشيشاني لخطف الغواصة ثمة سؤالان لافتان: هل كان الشيشانيون ينوون حقاً خطف غواصة استراتيجية؟ وهل خطفها ممكن أصلاً؟ لقد سفه المحلل العسكري فلاديمير تومني الذي خدم ضابطاً في أسطول الغواصات الروسي الشمالي ثلاثة عشر عاماً حكاية الرأس النووية المفككة مشككاً في ما إذا كان المقاتلون، أو الذين نسجوا لهم هذه الرواية من أجل الصحافة، يتحلون بالعقل السليم أو يملكون شيئاً من مبادئ المعرفة التقنية. والخبر نفسه، في اعتقاد تومني، لا يستحق من التصديق أكثر من الوريقات التي عثر عليها الروس سابقاً في قرية شيشانية وقد رسم عليها برجا نيويورك، ما جعل البعض يتخذون منها دليلاً قاطعاً على "الصلة" بين اصلان مسخادوف واسامة بن لادن! ورداً على السؤال الأول يؤكد تومني الذي زار الشيشان والتقى جوهر دودايف مراراً انه كانت لدى الأخير فعلاً خطط للاستيلاء على سلاح استراتيجي، فقد أعلن في آخر تشرين الثاني نوفمبر 1994 ان الشيشانيين، في حال نشوب الحرب، سيسددون الضربات الجوابية الى أكثر مواضع الامبراطورية إيلاماً. وكان دودايف يقصد بالطبع حرب العصابات والتفجيرات. وعن السؤال الثاني يقول ان كل سنوات الحرب لم تشهد ولا عملية تخريبية ناجحة واحدة ضد القوات الروسية. ولم تجر أية محاولة لاختراق الخطوط الدفاعية لحاميات أحواض الغواصات. والسبب ليس في غياب النيات، بل في صعوبة التنفيذ. فتلك عملية مكلفة وتتطلب وقتاً طويلاً. ومن غير المعقول ان يستطيع معسكر تدريب الارهابيين على خطف غواصة ما في أراضي الشيشان. فمحاولة الخطف مستحيلة من دون ساحات تدريب أساسية وكوادر رفيعة التأهيل وقاعدة تقنية عصرية. والأميرالات الروس محقون عندما يؤكدون مناعة حراسة منطقة أسطول الغواصات الاستراتيجية. فخلال نصف قرن من تاريخه لم تسجل ولا محاولة واحدة لخطف غواصة على أيدي مخربين أو موتورين أو مجانين. وحاميات احواض الغواصات ليست ساحة لمن هب ودب. إلا أن القول باستحالة دخول المخربين غواصة ما على الاطلاق انما هو يجانب الحقيقة بقدر ما. يؤكد تومني انه خلال خدمته في حاميات الغواصات كان احياناً يجتاز الحواجز "المتعددة المستويات" من دون اذن خطي وأنه رافق شخصيات مدنية الى الحاميات. ثم ان دخول الغريب إلى الغواصة ممكن بدعوى أنه خبير من مؤسسة صناعية أو علمية أو بحار جاء لزيادة التأهيل. وثمة احتمالات نظرية عدة أخرى للاستيلاء على الغواصة أثناء دخولها الخلجان عائمة أو خلال وجودها في حوض التصليح أو خلال شحن وتفريغ سلاحها في القاعدة وهلمجرا. والأسطول الروسي مهيأ لمخاطر من هذا النوع منذ العهد السوفياتي، وثمة تدريبات خصوصية لمكافحة الارهاب والتخريب في هذا المجال. ثم ان تقسيم هيكل الغواصة الى أجنحة مستقلة يحول فنياً دون استخدام المختطفين السلاح الصواريخ والتوربيدات، إلا أن وضع عبوات ناسفة في المواضع الأضعف أمر ممكن تماماً. وأكثر المواضع خطورة من حيث امكان الانفجار هي المفاعل الذري والترسانة والمولدات. وإذا استهدفت تلك المواضع لا تبقى أمام قيادة الغواصة فرصة للنجاة. وفي هذا السياق فقط يمكن الكلام عن "قيمة" المخطط الشيشاني الذي تحدث عنه الجنرال مولتينسكوي. والى ذلك فإن تردي أوضاع الأسطول الروسي في السنوات التي أعقبت مقتل دودايف وضع المصلحة التجارية في مرتبة أعلى من واجب الخدمة العسكرية، وفتح ما كان مقفلاً من أبواب. وعندما غرقت الغواصة الذرية العملاقة "كورسك - 182" كانت العملية الارهابية من بين الروايات التي نظر فيها التحقيق كأحد اسباب الفاجعة. ولا تزال تلك الأسباب مجهولة حتى اليوم. فعدد جثث البحارة التي تعرف إليها الطب الشرعي يناهز المئة، ولا يزال حوالي 20 شخصاً مجهولين، أليس بينهم جثة شيشاني أو "مبعوث" عن الشيشان في أحشاء الغواصة الممزقة؟